تنتهي غالبية ممرات و أزقة المدينة القديمة بلاص دارم بعنابة، عند نقطة واحد هي « بطحة شريط»، حي عريق لا يزال محافظا على روح رمضان وروائحه، بفضل تشبث أهله بموروثهم وعاداتهم التي تمتد إلى عهد الدولة الزيرية الصنهاجية و تحفظ إرث الحماديين والموحدين و تخبرنا بالكثير عن شكل الحياة الاجتماعية في حقبة العثمانيين و زمن الاحتلال الفرنسي، وهو تراكم حضاري هائل، تنعكس أوجهه من خلال العمران و السلوكيات.
حسين دريدح
ديكور محلي يعبر عن هوية المدينة
عادت النصر في رمضان، إلى بلاص دارم، لترصد يوميات مواطنين تربطهم بها التجارة والذكريات، وقد كان هاشمي مصطفى، مرافقنا في الجولة، وهو شاب من أبناء المدينة القديمة وصاحب دار الباي، ومسؤول مجموعة « أضرب النح الدار دارك»، حيث كان دليلنا للتعرف أكثر على الموروث الشعبي وإعادة استكشاف بعض المواقع.
استقبلنا الشاب، في دار الباي خلال أمسية رمضانية، وكان المكان جميلا مزينا بالنحاس والتحف القديمة التي تعبر عن عراقة بلاص دارم، و نقلنا من ورشته إلى الجهة الأخرى من الدار المفتوحة لاستقبال الضيوف، كان مضيفنا سخيا جدا فأكرمنا بمائدة عنابية عامرة بالتحليات والمشروبات تقليدية.
وفي خضم الحديث عن أجواء رمضان في المدينة القديمة، قال محدثنا إن التحضيرات تنطلق باكرا جدا في أحيائها، و تشمل غالبية المنازل إذ تستعد النسوة لأيامه بشكل جماعي، فينظفن المنازل و يحضرن المفروشات و يخرجن الأواني النحاسية و يجففن الفواكه طبيعيا في موسم المشمش والعنب لطبخ المرق الحلو، فضلا عن إعداد الكسكس وعجين الشخشوخة على السطوح، وهي مظاهر لا تزال تتكرر في كل موسم رغم كل التغيرات التي مست نمط العيش.
حتى الأطفال الصغار لهم نصيب في صنع أجواء رمضان، كما قال محدثنا، إذ يرتدون خلال أيامه لباسا عربيا هو « القندورة» و يعود الطربوش الأحمر ليسر عيون الناظرين بجماله والأناقة، كما تكون حركتهم ملحوظة أيضا بين الأزقة و في الشوارع، فتحس فعليا بأن الأجواء مختلفة وأننا في مناسبة خاصة.
عائلة « غاغا» و قصة حلوى عنابة الفريدة
تركنا دار الباي، وقصدنا بطحة شريط، وهي القلب النابض للمدينة القديمة والساحة التي تتوسطها، تبدأ الحركة هنا قبيل صلاة الظهر بعودة نشاط تبادل السلع القديمة (ألبسة وتجهيزات إلكترونية) وذلك قرب مسجد الباي تحديدا وهي سوق صغيرة تسمى (رحبة بلاص دارم).
قال مرافقنا، إن النشاط يتغير بشكل ملحوظ في المساء، حيث يزيد عدد باعة البوراك العنابي و الحلويات التقليدية، وقد شدتنا الحركية فعليا إلى جانب طريقة التفاعل، فالتواصل بين الأفراد بسيط و منظم رغم الطبيعة التجارية الشعبية للرحبة، إذ اتسمت الأجواء بالهدوء عموما فلا ضجيج و لا أصوات عالية.
حسب مصطفى هاشمي، فإن البطحة اشتهرت سنوات السبعينيات والثمانينيات، بدكاكين « الزلابية» والحلويات التقليدية، وكانت الأصناف التي تباع فيها مختلقة ولا تتوفر سوى في عنابة، أشهرها « برارك الزلابية» وقد كان هناك من يقصد الرحبة في رمضان، لأجل هذه الحلوى خصيصا.
قال الشاب، إن النشاط كان موسميا خاصا برمضان دون غيره من أشهر السنة، حيث كانت النساء يحضرن تلك الحلوى الشهيرة إلى جانب اللوزية والبقلاوة، ثم يتكفل الرجال ببيعها، لكن بعض الأصناف اختفت برحيل جيل من الأمهات والجدات، وظلت هناك أصناف أخرى كالزلابية تستقطب الزبائن من كل الأحياء تقريبا.
محدثنا أشار أيضا، إلى قصة غريبة ترتبط بصناعة بعض الأنواع من الحلويات العنابية، حيث أخبرنا بأن عائلة «غاغا» من أشهر صانعي الحلويات التقليدية التي كانت تباع في بطحة شريط، و يقال أيضا إن نساء المدينة القديمة كن يحتفظن ببعض الوصفات كسر ويرفضن تداولها حتى تبقى الحلوى مميزة و مطلوبة، ولذلك صار من الصعب تحضيرها الآن نظرا لكون الوصفة الأصلية غير معروفة.
مسجد الباي العتيق المعلم الديني الأكثر استقطابا
غير بعيد عن قلب بطحة شريط، يوجد جامع صالح باي قبلة المصلين في رمضان وأهم عنوان ديني في المدينة القديمة، يتمتع المسجد برمزية كبيرة فهو من أكبر المساجد مساحة بعنابة، بعد مسجد أبو مروان الشريف، يتميز بساحته الخارجية و قاعة الصلاة الكبيرة، ولا يبعد سوى أمتار عن ساحة الثورة.
أنجز المسجد على الطراز العثماني و ما يزال محافظا على محرابه ونقوشه القديمة إلى الآن، ما يضفي لتجربة الصلاة فيه متعة بصرية.
« الكوشة» و البيتزا فوقاص
وليس المسجد وحده هو ما يستقطب الصائمين إلى المدينة القديمة و أحيائها في شهر البركات، فالفرن الحجري الذي يعود تاريخ إنجاز لنحو 70 سنة، يعتبر من عوامل الجذب كذلك، وهو جزء من مخبزة يحرص مالكها على تشغيله كل رمضان لأجل أجواء مختلفة تعيد السكان إلى الحي بحثا عن عبق الذكريات.
قال عمي مصطفى صاحب المخبزة، إنه يقوم بتسخين الفرن بإشعال موقد النار يدويا قبل بداية الشهر بحوالي أسبوعين وذلك ليعده للأيام المنتظرة، فكلما كان أسخن كلما حافظت جدرانه على درجة الحرارة المناسبة وتراجعت الرطوبة، وهي شروط أساسية لنضج البيتزا والحلويات التقليدية و البوزلوف وغيرها.
أخبرنا، أنه يقوم بتسخينه يوميا بتقنيات خاصة، ليوازن بين درجة الحرارة و مستوى الغازات المحترقة التي تتسرب عبر فتحات الفرن، وقد رافقناه وهو يتم بعض تفاصيل المهمة، وكان يحدثنا حينها عن النشاط خلال شهر الصيام، و كيف يزيد عدد زبائن المخبزة ويقصده البعض من ولايات مجاورة، أما السبب فهو البيتزا فوقاص التي يشتهر بها محله، و التي تأخذ طعمها المتميز وقوامها الهش من حرارة الفرن الحجري. أوضح عمي مصطفى، أن تحضيرها يقتصر على شهر رمضان فقط لعدم وجود طلب عليها خلال باقي الأيام، مشيرا إلى أن إعدادها في المخبزة يضمن نجاحها عكس تحضيرها في المنازل، لأن الفرق كبير بين الطبخ على الجمر و الطهي باستخدام الغاز أو الكهرباء.
قال، إنه يعد يوميا كمية مناسبة تكفي زبائنه وبينهم كثير من الأوفياء، علما أنه يحضر الصواني بطريقة بسيطة لا تتعدى المكونات المعروفة للبيتزا، ثم يترك للزبائن حرية اختيار الإضافات والنكهات التي يريدونها حتى أن هناك من يأتون بمكونات مختلفة من خارج المحل ويطلبون زيادتها مثل أنواع الجبن و الجمبري و السردين و التونة وغير ذلك.
وحسب الخباز، فإن هذه التجربة ممتعة جدا ولذلك يصر الزبائن على تكرارها خصوصا من يعشقون تحضير البيتزا التي يريدونها بأنفسهم وانتظار خروجها من الفرن. مضيفا بأن السر يكمن في العجين وتتبيلة الطماطم، فضلا عن مدة الطهي في الفرن الحجرى و في درجة حرارة مناسبة وطبيعية.
في جهة أخرى من المدينة القديمة بعنابة، و تحديدا عند محلات الأقواس تشتهر وصفة أخرى وتأخذ بعدا وطنيا، ويتعلق الأمر بالبوراك العنابي الذي يحضر بعناية في محلات المنطقة و بعض العربات المتنقلة.
ورغم أن المكان يعرف إقبال عشاق البوراك إلا أن عدد صناعه تراجع هذا الموسم، ليقتصر على شباب من بطحة شريط والشارع المقابل للمسرح الجهوي.
و حسب زبائن و باعة، فإن شهرة البوراك العنابي و يعرف محليا «ببوراكمروبة»، تعود لكبر حجمه ومكوناته المميزة، ناهيك عن طريقة تحضيره ووضع المكونات بشكل منفصل الأول فوق الثاني كي لا يختل الطعم، ليكون الختام بحبة بيض كاملة تقدم سائلة نصف ناضجة.
الضامة منافسة العقل للراشدين في رمضان
يشدك النظر دائما في بطحة شريط، إلى تجمعات لكهول وشيوخ يجلسون على الدرج أو على بعض الكراسي العمومية، يشكلون حلقات يحيط بها جمهور يشاهدهم بحماس وترقب وهم يخوضون منافسات في لعبة « الضامة».
تصنع هذه المنافسات نجومية البعض في المنطقة، وهي تجمعات تميز المكان طوال السنة و تعتبر نوعا من الترفيه الذي يختاره البعض لتمضية السهرة في رمضان، إلى جانب سهرات المالوف والطابع الأندلسي التي تعرف اهتماما و إقبالا، و تنظم عادة في مقهى النخلات مقابل بلدية عنابة، و بدار الصيودة المطلة على بريد الميناء، إلى جانب مأدبة رمضانية خاصة يشارك فيها أبناء المدينة وزوارها، وتطبع هذه السهرة الرمضانية مدائح دينية، وتخصص في ليلة 27 من الشهر للاحتفال بختان الأطفال الأيتام.
ح.د