كشف أول أمس وزير المالية لعزيز فايد عن إلزامية استعمال الدفع الإلكتروني في مجال بيع وشراء العقارات وقطاع التأمينات ابتداء من الفاتح جانفي القادم،...
* دعوة لانتفاضة من المجتمع الدولي لصالح حقوق الشعب الفلسطيني * ثمن الصمت والتقاعس أمام المأساة الفلسطينية سيكون باهظاأكد رئيس الجمهورية السيد، عبد...
التقى الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، أمس الأربعاء بالكويت، مع وكيل الحرس الوطني...
شرعت الحكومة، في وضع التدابير التنفيذية للتكفل التام بالتوجيهات التي أسداها رئيس الجمهورية للحكومة خلال الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء خاصة فيما...
وسط كل الخراب الذي طال المدينة القديمة بقسنطينة، استطاعت بنايات كثيرة الصمود، على غرار الحمامات التركية التي لا يزال بعضها يفتح أبوابه للسكان إلى غاية اليوم ، رغم تغير نمط حياة القسنطينيين، بظهور أجهزة التسخين ، فضلا عن توالي عمليات الترحيل التي أفرغت المدينة من سكانها، فهذه الشواهد التاريخية و الثقافية التي تؤرخ للحياة الاجتماعية و للمعمار، تصارع اليوم من أجل الاستمرار، خصوصا و أن الكثير من الأوفياء لا يزالوا مواظبين على زيارتها، رغم غلق غالبيتها بسبب الانهيارات أو بحجة الترميمات التي تحولت إلى نقمة باتت تهدد تراثنا المادي، بدل الحفاظ عليه.
هذه الحمامات تعد كذلك مجال بحث حيوي، لطلبة الهندسة المعمارية ، لخصوصيتها العمرانية و جماليتها العالية، لأنها تمزج بين النمط العثماني و العمارة الإسلامية و حتى البناء الموريسكي.
مؤسسة اجتماعية بديناميكية تجارية رائدة
لا يكاد يخلو شارع واحد أو «زنقة» واحدة من الأزقة القديمة بقسنطينة من حمام تقليدي جماعي، فعددها الإجمالي يصل إلى حوالي 20 حماما، نذكر منها حمام دقوج، بحي طاطاش بلقاسم «الشارع «، حمام بولبزايم بشارع ربعين شريف، و حمام بن حاج مصطفى و حمام بن شريف بالشط، بالإضافة إلى حمام أولاد سيدي الشيخ و يقع في حي البطحة، و كذا حمام بن نعمان الكائن بمحاذاة مسجد السيدة حفصة، و حمام سيدي راشد بالسويقة، و حمام بن جلول و حمام لعويسات، بشارع قيطوني عبد المالك، فضلا عن حمام بوقفة المتواجد برحبة الصوف و حمام بلبجاوي في سيدي بوعنابة، و أغلبها حمامات تعود ملكيتها لأعيان المدينة و كبريات عائلاتها ، حيث لا يزال بعضها ناشطا يستقبل زبائنه من النساء والرجال صباحا و مساء، مقابل تسعيرة لا تزيد عن 200 دج.
حتى من رحلوا من المدينة القديمة لا يزالوا أوفياء لحماماتها، كما علمت النصر من بعض ملاكها و مسيريها، خصوصا وأن هذه المرافق لم تفقد إلى غاية اليوم طابعها الاجتماعي، فالحمامات الشعبية لا تعد مجرد فضاءات للاستحمام، بل هي غرف للأخبار و محطات للتلاقي، كما عبرت السيدة شريفة، مسيرة حمام دقوج، فهذه المرافق كانت، حسبها، هي المكان الذي يتم فيه اختيار العرائس للأبناء و الأقارب ، و انطلاقا منه تتصاهر العائلات القسنطينية، كما أن الحمام كان المحطة التي تلتقي فيه النسوة لتبادل الإخبار، وحتى «الدلالات»، كما قالت، كن يبعن في الحمام الحلي الذهبية و الفضية و مواد تجميل.
أما الحاج عبد المجيد بوحجة، المسؤول عن تسيير ذات الحمام، فيقول أن أعيان المدينة، كانوا يلتقون في المقاهي أو الحمامات، و كانوا يأوون الغرباء في هذه المرافق، إذا لم يجدوا مكانا في أحد الفنادق، حتى أن بعض شيوخ المالوف، كانوا ينظمون جلسات السمر في الحمامات ، خصوصا خلال حفلات الزواج، و عادة ما يخصص الحمام لعائلة معينة في يوم زفاف أحد أبنائها، و تقام في بهوه «قعدات» خاصة، يحتفي خلالها الفنانون بالعريس طيلة ساعات كاملة.
و أردفت السيدة شريفة، أن القسنطينيين يعتقدون أن للحمامات التركية المعروفة بدرجة حرارتها المرتفعة و بخارها ، وظيفة علاجية ، لأنها تساعد على توفير الراحة للجسم، مضيفة بأن الحمامات كانت بديلة سكان المدينة عن أماكن الترفيه و التسلية.
عرائس الألفينات يحيين عادات البايات
خلال تواجدنا في حمام دقوج، شدتنا الحركية الكبيرة بالمكان، وهو أمر لم نكن نتوقعه في البداية، لهذا سألنا السيدة شريفة عن وتيرة نشاط الحمام، فقالت بأنه لا يزال يجذب زبائنه الأوفياء ، فثقافة الحمام التركي لم تندثر، حسبها، في المدينة القديمة، خصوصا وأن العديد من أبنائها لا يزالوا يسكنون البيوت القريبة « ديار عرب» وهي منازل تفتقر عموما لحمامات دافئة و مناسبة، فضلا عن أن الكثير ممن رحلوا نحو المدينة الجديدة و جبل الوحش و الخروب و توسعات حضرية أخرى، ظلوا أوفياء للحمامات الشعبية، حتى أن منهم من يترددون عليها أسبوعيا.
محدثتنا قالت أيضا، بأن تقليد حمام العروس الذي تراجع خلال 30 سنة الماضية، عاد بقوة في السنتين الأخيرتين، حيث أن كثيرا من الفتيات أحيين العادة، و بتن ينظمن جلسات سمر خاصة بالعروس في الحمام، فيغنين و يرقصن و يزغردن وهن مجتمعات حول سينيات عامرة بالحلويات التقليدية و المشروبات، حتى أنهن، كما أكدت، لا يزلن وفيات لكل تفاصيل الحمام التركي، إذ كثيرا ما يستحممن بالصابون التقليدي و يضفن ماء الورد و الياسمين للمياه التي يغتسلن بها.
«البرمة» أو «الصونا» على الطريقة التقليدية
حرارة حمام دقوج، جعلتنا نغادره سريعا لنقصد ثاني محطة وهي حمام ثلاثة بمنطقة الشط، الحرارة لم تكن أقل هناك، كما أن الهندسة الداخلية للمكان لا تختلف كثيرا عن سابقتها، فمساحة الحمامات التركية لا تزيد عموما عن 200 متر، تزين عادة بالرخام و تقسم إلى ثلاثة أقسام، وفق تسلسل مناخي لا يختلف عن تسلسل الفصول، فالمدخل المعروف «بالصحن» أو غرفة الاستعداد و الاسترخاء يكون باردا، ثم تأتي « البيت الباردة»، وهي غرفة استحمام حرارتها معتدلة، و أخيرا « البيت السخونة»، وهي غرفة الاستحمام الرئيسية، أين تكون درجة الحرارة جد مرتفعة و يتصاعد بخار الماء كسحابة كثيفة، تجعل الرؤية ضبابية.
في هذه الغرفة يمكن للإنسان أن يحظى بالاسترخاء الذي يجده وهو يجلس داخل غرفة «صونا» عصرية، وذلك بفضل الحرارة المنبعثة من الخزان الساخن حد الغليان الذي يتزود منه المستحمون بالماء ، وهو شبه قدر حجري ضخم، يوجد بجانبه مباشرة قدر أصغر حجما يتوفر على مياه باردة، تمزج عادة مع الساخنة للحصول على حرارة معتدلة، وقد اعتاد الكثير من أبناء المدينة الاستناد إلى جدار البرمة الدافئ للتخلص من التشنجات و الاسترخاء بشكل أفضل.
هناك أيضا في الحمامات التركية بقسنطينة غرفة صغيرة للحفاظ على الخصوصية تعرف « ببيت الستر»، كما توجد خدمة تدليك متخصصة يقوم بها أشخاص يعرفون « بالكياس»، يساعدون الفرد على دعك جسده وتنظيفه، كما يمنحونه جلسة تدليك لا تتدعى تكلفتها 50 إلى 100دج.
«دغوج» و «سوق الغزل» و «حمام ثلاثة» قصص الزمن الجميل
من بين الحمامات القديمة التي تتميز بها المدينة القديمة نجد حمام سوق الغزل، الذي يقال بأنه كان حمام الباي و حاشيته، وهو اليوم مغلق لغرض الترميم، ويتميز بهندسته الخاصة التي يمتزج فيها الطابع التركي بالعمارة الموريسكية،علما أن اللون الأزرق يعتبر خاصيته الأبرز.
هناك أيضا حمام دقوج بالشارع، وهو واحد من بين أقدم الحمامات في قسنيطنة، إذ يناهز عمره حسب صاحبه الحاج عبد المجيد بوحجة، 187 سنة، و يتميز هذا الحمام بوجود ضريح لأحد الأولياء الصالحين وهو ضريح سيدي دقوج، الذي علمنا بأنه لا يزال إلى اليوم مزارا للكثير من القسنطينيات اللواتي لم يطلقن طقس إشعال الشموع عند القبر و تعطيره بالياسمين أو « العطرشة»، قبل الاستحمام وذلك طلبا «للبركات».
أما أشهر حمامات منطقة الشط بالسويقة القديمة، فهو حمام ثلاثة، الذي لا يزال ناشطا إلى يومنا رغم أن عمره يزيد عن 3 قرون، و يعرف أيضا بحمام الهوى، لكونه معلقا عند حافة الصخر العتيق ومطلا على وادي الرمال، ويعود الأصل في تسميته بهذا الاسم حسب مالكه السيد حسين قادري، إلى أنه كان الحمام الوحيد الذي لا تتعدى تسعيرته 3صوردي، في وقت كانت كل الحمامات الأخرى تفرض تسعيرة استحمام قوامها5 صوردي.
محدثنا قال بأن الحمام ظل يشتغل بالحطب و الشيفون إلى غاية 1977 وقد كان مالكوه يزودون خزانه من مياه واد الرمال عن طريق دلو و بكرة و حبل، قبل أن يعصرن نظامه ويربط بشبكة تزويد و تصريف حديثة. بالمقابل حافظ الحمام الذي يتواجد داخل قبو عميق يتطلب الوصول إليه النزول عبر سلالم لولبية طويلة، على نسقه العمراني العام، في انتظار أن يستفيد من عملية ترميم تعيد له ألقه و تضمن استمراره لقرون أخرى.
نعمة الترميمات تتحول الى نقمة
خلال جولتنا بين حمامات قسنطينة القديمة، لاحظنا بأن العديد منها مغلق بحجة الترميم، وهو قرار اتخذ خلال تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، واعتبر آنذاك نعمة على المدينة و على ملاك هذه المرافق التي يفترض بأنها مصنفة و محمية، لكن الواقع جاء معاكسا للتوقعات، فالترميمات التي بوشت خلال ذات السنة مست أجزاء كبيرة من البنيات القديمة ثم توقفت فجأة بسبب مشاكل تتعلق بدفاتر الشروط الخاصة بالمقاولات و مكاتب الهندسة و الدراسات، وهو أمر أكده العديد من المحامين للنصر في مناسبات عديدة، محذرين من مغبة ما قد ينجر عنه قرار توقيف أشغال الترميم خصوصا وأن تأثير عوامل الطبيعة على البنايات يكون أسوء في هذه الحالة.
من جهتها، كانت الباحثة في التراث المعماري بكلية الهندسة بقسنطينة الأستاذة خديجة عادل، قد تطرقت خلال ملتقى دولي حول حول الحمامات بالبحر الأبيض المتوسط احتضنته جامعة صالح بوبنيدر سنة 2015، بأن مشكلة هذه المرافق التاريخية لا تكمن في تأخر الترميم فقط، بل في غياب شركات مختصة في تسييرها وفق إستراتيجية اقتصادية تراعي الأبعاد التراثية، كما انتقد باحثون بمركز البحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية و الثقافية على هامش فعاليات ذات الملتقى المعايير التي تم من خلالها إخضاع حمامات شعبية دون سواها للترميم ضمن مشروع الترميمات، مشيرين إلى غياب دراسات دقيقة في هذا السياق.
ه / ط