تعرفُ العلاقات الدوليّة مقدّمات أزمة أشبه ما تكون بحربٍ كونيّة جديدة تعيدُ توزيع الأدوار بين سكّان غابتنا، هذا الوضع وإن كان نتيجة لتوحّش النظام الاقتصادي العالمي، إلا أنّه يجد تفسيراتٍ وجيهةٍ في وصول جيل شعبوي إلى مصادر القرار في دوّل مُؤثرة، جيل غير مُثقف ومتخرّجٍ من شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تكفي جُملة سخيفة لصناعة رجل ينال إعجاب وسائل الإعلام والنّاخبين، بعيدًا عن أيّ استحقاق سيّاسي يمتحن قُدرته في التدبير وأفكاره ومشروعه، بل إنّ استثارة النّاخبين ستتحوّل إلى "برنامج" يتولاه مختصّون في الاتصال ويُنفذه المعنيُّ بالصّعود، إلى درجة أنّ اللّعبة السيّاسيّة برمّتها صارت تُلعب في الميديا الجديدة، بكلّ ما يعنيه ذلك من خطرٍ على الديمقراطية التي ظلّت النموذج الأفضل لإدارة شؤون التجمّعات البشريّة وأصبحت تواجه أسئلة حرجة لا تستبعد موتها.
وليست النزعات الوطنيّة والتنصّل من المواثيق والالتزامات بين الدوّل سوى ترجمة لضيق أفق ساسة العهد الجديد الذين تمّ إنتاجهم في ستوديوهات التّصوير و بلاتوهات "التولك شو " وتلفزيون الواقع، وافتقادهم للتكوين والتمرّس السيّاسي الذي يجعلهم يقدّرون عواقب القرارات بدل إحصاء عدد المعجبين بها على مواقع التّواصل.
ولا يمكن إيجاد توصيف لما يحدث بعيدًا عن اعتباره نسفًا للمشترك الإنسانيّ ولإرثٍ راكمته الحضارات وصاغه العقل البشري بعد تجارب قرونٍ من الحروب والسلام والانتصارات والهزائم، والمفارقة أنّ ما نعيشه، يأتي في وقت بلغت فيه البشريّة قمّة التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي كان يمكن أن يساعدها على تجاوز المشكلات التي واجهتها منذ ظهور الحياة لو استخدمته في الاتجاه الإيجابي.
هذا التيّار الجارف في الغرب المهيمن (إلى حين) لا يواجه مقاومة حقيقيّة سوى من قوى اليسار والأحزاب والتنظيمات الخضراء، أمام خيّانة الفلاسفة الذين باتوا يتقمصّون الشعبويين في بحثهم عن إعجاب المعجبين وفي انتقائهم للجمل سريعة الهضم في محرّكات البحث ( واذكر في الكتاب الفلاسفة الذين سقطوا في امتحان حرب الإبادة)، وأمام سقوط وسائل الإعلام بين أيدي رجال المال والأعمال والمجمعات الصّناعيّة، وتحوّلها إلى وسائل دعاية وترويج تضيق بالأفكار و الآراء المخالفة لموجات العصر، عصر لا تحجب أنواره الساطعة عمقه المظلم.
سليم بوفنداسة