قسنطينة: تقطيـــر الزهـــر يتحوّل إلى نشـاط اقتصـــادي

يرتبط تقطير  الزهر و الورد، بتقاليد قسنطينة، و بمطبخها كذلك وهو تحديدا ما ساهم في تحرير هذا الفعل الكيمائي من شرنقة العادة ليتحول  في السنوات الأخيرة، إلى نشاط مربح ذو طابع اقتصادي، تمتهنه النساء و تستثمرن في كل تفاصيله بما في ذلك صناعة الحلويات التقليدية، كما سمح الإقبال المتزايد على التقطير ببعث بعض الحرف من جديد على غرار النحاس و الحلفاء، وشجع ورشات نسوية و عائلية مصغرة وسعت نشاطها ليشمل تقطير الشيح والزعتر وكل النباتات العطرية والطبية الأخرى.
هــــدى طابــــــي
حدائق حامة بوزيان و قصة أول أشجار الزهر
تتحول المدينة، في مثل هذه الفترة من كل عام إلى خلية لإنتاج العطريات، فلا يكاد يخلوا حي من أحيائها من رائحة مستخلصات الزهر والورد، المنبعثة من المنازل أين تحيي عائلات تقليد «التقطار» أول بشائر الربيع في المدينة،وهي مناسبة يتسيد فيها اللونان الوردي والأبيض زوايا النظر و لا يكسر انسجامهما سوى بهاء اللارنج البرتقالي الذي تضاف قشوره عادة « للكبة» أو رزمة الزهر الجميلة بغرض الحصول على قوام أثقل و رائحة أزكى.
و تختلف الروايات عن أصل التقطير ، فالبعض يقولون، بأنه تقليد نشأ في الأندلس وجاء إلى بلاد المغرب  مع من دخلوها من الأندلسيين، بدليل أن العادة معروفة في تونس و المغرب بالإضافة إلى الجزائر، بينما تقول رواية أخرى بأن أول شجرة زهر زرعت في قسنطينة، كانت هدية من صيني لواحد من أبناء عائلة كوتشو كالي عثمانية الأصول، وقد حدث ذلك سنة 1620 ميلادية، حيث زرعها في حديقة أسرته بمنطقة حامة بوزيان التي تشتهر اليوم بكثرة و جودة زهورها ووردتها، ما يجعلها مصدر تمويل رئيسي للحرفيين خلال موسم التقطير.
الطمينة البيضاء وصفة بطعم التفاؤل
الجميل في هذا التقليد هو ارتباطه بكثير من العادات المتوارثة والتي تعكس أفكارا ومعتقدات مجتمعية معينة، وحسب السيدة بن سعدي زكية، فإن عملية التقطير تصنف كحدث محلي هام، لذلك يحضر جيدا للموعد،  سواء عن طريق إعداد القطار النحاسي، أو من خلال الاهتمام بأصغر تفصيل يسبق أو يعقب  التقطير، فمثلا يشاع في المعتقد المحلي، بأن التقطير عملية وجب أن تتم في الستر وعليه يغطى القطار بقطعة قماش في حال تم إخراجه من البيت، كما تغطى قبته الرئيسية عند الاستخدام و ترمى في  « الطنجرة» جزئه السفلي، قطعة سكر قبل بدء التبخير وذلك للتفاؤل بيوم جميل، كما توضع حفنة من الملح أسفل الموقد، لكي تحمي أهل البيت من العين والحسد، ولذات الغرض يستخدم البخور أيضا.
جرت العادة كذلك، أن ترافق عملية التقطير، صينية حلويات تقليدية، أهم مكون فيها  هو « الطمينة البيضاء» أو «طمينة المغرف» المصنوعة من السميد « الفرخ» والعسل وزبدة البقر، والتي كانت تحضر قبل ليلة و توضع قطع منها في كل ركن من أركان البيت، على أن ترش ذات الأركان بعد التقطير بالقليل من مستخلص ماء الزهر أو الورد « رأس القطار»، علما أنها عادات مرتبطة بتقليد « النشرة» كذلك، وذلك لتزامن الحدثين معا في نفس الفترة من السنة.
محدثتنا أخبرتنا بأن «السيار» أو الغربال، يعتبر معيار الكيل في عملية التقطير، وكل غربال يكفي «لكبة» كاملة من الزهر أو الورد، علما أن الكبة، هي الكمية المستخدمة من ذات الأوراق،  حيث ينتج الغربال الواحد « مغلفتين» أي زجاجتين بسعة لترين تقريبا، وعن الأسعار قالت، بأن المغلفة من لترين تكلف 1500دج بالنسبة للورد، و 1800دج للزهر.

من جانبها أضافت، الحرفية في مجال صناعة الحلويات التقليدية ; و التقطير، ساندرا بودراع، بأن للمطبخ القسنطيني، علاقة مباشرة مع ازدهار عادة تقطير الزهر والورد في المدينة، فالورد يدخل في تحضير كل الوصفات التقليدية المحلية تقريبا، بما في ذلك القطايف والبقلاوة و شباح السفرة و طمينة اللوز و الجوز، أما ماء الزهر فيستخدم عند تحضير مقروض المقلة مثلا.
و شاطرت سندر، السيدة بن سعدي في عديد من النقاط المرتبطة بعادات التقطير، بما في ذلك أهمية تغطية القطار و الزجاجة التي يتم التقطير فيها « المغلفة الأولى»، وعن سر تسمية قارورات الزهر والورد بالمغلفات، كشفت الحرفية، بأن ذلك راجع لأهمية تغطيتها وتغليفها لتكون بعيدة الضوء ومحمية من الهواء، كي يحتفظ المستخلص برائحته وذوقه وهو مبدأ لا يختلف تقريبا عن مبدأ تعتيق الخمور، لذلك يستحسن أن تكون المغلفة من الزجاج الأخضر القاتم، مع الإشارة إلى أن أجود المستخلصات تفرز لونا ورديا يبرز جليا من خلال شفافية الزجاج.

* حيدر رواغ ناشط ثقافي وملحق بالترميم بقصر الباي
الغـــرض من التقـــطير طبــــي و نشأتـــه من الأنـــدلس
يقول حيدر رواغ، ناشط ثقافي و ملحق بالترميم بقصر الفنون و الثقافات الشعبية الحاج أحمد باي، بأن التقليد ذو أصل طبي وقد نشأ في الأندلس على يد طبيب مسلم، وظف مستخلصات الأعشاب العطرية الطبية كدواء، وقد كان يعتمد في ذلك على الطريقة العلمية أي التقطير بواسطة أنابيب الزجاج.
محدثنا قال، بأن معلوماته تشير إلى أن هذا التقليد وصل إلى بلادنا بعد سنة 1492، أي بعد سقوط الأندلس و هجرة المورسكيين نحو بلدان المغرب، بما في ذلك الجزائر، أين توزعت نسبة 56 بالمائة منهم في مدن قسنطينة والبليدة و مستغانم و تلمسان.
 و تؤكد معطيات تاريخية، هذا الطرح بصفة كبيرة، فأول من استخدم تقنيات التقطير والتبخير و التكليس لعلاج الأمراض و تحديدا أمراض الرمد والعيون، هو العالم  والطبيب يحيى ابن ماسوية، أشهر أطباء العهد العباسي، و قد عرف في فترة حكم  الخليفة المعتصم بالله سنة 243 هجرية، وكان مشهورا عند الغرب باسم « ماسو الكبير»، ورث عنه هذه التقنية و طورها تلميذه أبو الحسن علي بن نافع الشهير بـ « زرياب» ولقنه لكثير من تلامذته كذلك.

* صابر محاية رئيس جمعية البهاء للفنون
التقليد اكتسى بعدا اقتصاديا شجع الحرف
 من جهته أوضح صابر محاية، رئيس جمعية البهاء للفنون والثقافات الشعبية والشباب، بأن هذا التقليد تراجع لسنوات في قسنطينة، كما اندثر تقريبا في باقي الولايات التي عرفت به، لكن سنة 2000، كانت بمثابة منعرج حاسم أعاد بعثه من جديد، وذلك بفضل جهود الجمعية التي أسست لتظاهرة «عيد المدينة»، أو عيد التقطير، وذلك بهدف إبراز الهوية الثقافية لقسنطينة، بما يسمح بتميزها عن باقي الولايات،  فلا يعقل حسبه، «أن تحتفل غرداية بعيد الزربية و سكيكدة بعيد الفرولة و تترك سيرتا  زهورها و ورودها لتذبل دون استثمار».
وحسب المتحدث، فإن المناسبة سمحت بإخراج هذا التقليد من المحيط الضيق للدروب العتيقة و منازل العائلات الكبيرة، إلى المجال الواسع، فقد أحيى العيد العادة في أوساط الكثير من القسنطينيين رجالا ونساء، كما عبر، وكانت له انعكاسات اقتصادية مهمة،  حيث أن موسم التقطير لم يعد يقتصر فقط على الزهر والورد و « المخبل»، خليط الورقتين مع العطرشة والخزامة والنعناع، بل بات يشمل كل النباتات العطرية والطبية، وهو نشاط رائج في الآونة الأخيرة، تمتهنه عائلات أست لمشاريع صغيرة كما تحترفه عدد من السيدات اللاتي أجدن استغلال ارتباط التقطير بالصينية القسنطينة وحلوياتها التقليدية، و حولن حرفة صناعة الحلوى إلى عمل يحققن بفضله الربح، ناهيك عن أن الإقبال المتزايد على التقطير، ضاعف الاهتمام بالقطار التقليدي و هو ما زاد من مردودية صانعي النحاس، كما شجع الكثير من حرفيي الحلفاء الذين يزيد الطلب عليهم في فترات التقطير لأجل « المغلفات»، وهي تلك القوارير الزجاجية المغطاة بالحلفاء التي يحفظ فيها ماء الزهر أو الورد عادة.