الدارجـــة.. ثــروة أم عا ئــق ؟
أطلق جزائريون منذ أشهر، حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم «أهدر جزايري»، و ذلك لتكريس استخدام الدارجة كلغة للتعبير في المقابلات التلفزيونية وعلى المنصات التفاعلية، بعدما أصبحت هذه اللهجة عبارة عن منفى للناطقين بها، و حتى لمن يكتبونها، بأحرف عربية أو لاتينية، حتى أن تعقيدها بات مادة خاما، لصناع المحتوى العرب الذين كثيرا ما يطلقون فيديوهات و تحديات من قبيل « شاهد أصعب لهجة عربية»، و رغم أن عناوينهم تربط الدارجة بالعربية ضمنيا، إلا أن هناك من العرب من ينكرون هذا اللسان على الجزائريين، بسبب الطبيعة الهجينة للدارجة، و انصهار عدد من اللغات و اللهجات فيها، كالتركية والفرنسية و الأمازيغية والإسبانية وغيرها.
إعداد: نور الهدى طابي
هذا المزيج أفرزته خلفيات تاريخية، لها علاقة بالحضارات التي تعاقبت على هذه الرقعة الجغرافية، و لعل ذلك هو ما صنع ثراء قاموسها، و تنوع مفرداته، لكنه وضعنا أيضا أمام حتمية اختيار جسر لغوي بديل للتواصل مع الآخر، و التعبير عن أنفسنا بشكل أعمق و أدق، فإما نلجأ للفصحى التي تعلمناها في المدارس، أو نفضل لغة موليير التي فرضت علينا بفعل الاستعمار، حتى أن بيننا من باتوا يتحدثون بالانجليزية لترجمة أفكارهم، و كأن قاموسنا المحلي شحيح وعاجز عن إنتاج نص منطوق مفهوم، فأي لغة يتحدثها الجزائريون يا ترى؟
انفصام لغوي
المفارقة هنا تكمن كذلك، في وجود لهجة ثالثة، هي «الدارجة البيضاء» التي كرس لها منذ الاستقلال، في إطار سياسة التعريب، عبر وسائل الاتصال الرسمية كالإذاعة و التلفزيون، و استخدمت كثيرا أيضا في الدراما و السينما الجزائرية، وهي عبارة عن دارجة مهذبة توظف فيها كلمات فصحى كثيرة، ضمن مزيج يستغربه الجزائري نفسه، و يجده ثقيلا على اللسان، بعيدا عن الشارع، وهو ما يعمق الطرح، خصوصا و أن العربية الفصحى التي تعد لغة رسمية للبلاد منذ الاستقلال، ليست متداولة في الواقع، إلا داخل المدارس بمعنى أنها لغة بيداغوجية لا يمكن أن يستخدمها الإنسان للتواصل في محيطه، بما في ذلك داخل المؤسسات الاقتصادية و الإدارات، أين تهيمن عليها الفرنسية التي كثيرا ما تقف كحجر عثـرة أمام جيل معرب من الشباب الأقل تحكما فيها و إتقانا لها.
الأمر الذي خلف نوعا من العداء للفرنسية و ساهم في صعود مد المطالبين بإلغاء اعتمادها كلغة ثانية، و استبدالها بالإنجليزية، التي أصبحت متداولة كثيرا في السنوات الخمس الأخيرة، خصوصا مع اتساع رقعة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، وهو واقع لا يمكن التعبير عنه، إلا بأنه نوع من الانفصام اللغوي، فبين ما نتعلمه في المدارس و ما نستخدمه للتواصل اليومي و ما تتطلبه سوق العمل، يضيع الجزائري في دوامة لغة، يرى البعض بأنها منغلقة و غير عملية ويقول آخرون بأنها لغة إبداع أهملها الرسميون.
لسان يمتد بامتداد الجغرافيا
تعرف اللهجة بأنها مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي الى بيئة خاصة، وهي جزء من بيئة أوسع و أشمل، تضم عدة لهجات تشترك في مجموعة من الظواهر اللغوية و التي هي اللغة.
ولا يرتبط اختلاف اللهجة الجزائرية، بواقع أنها مزيج من الكلمات العربية و الفرنسية و الأمازيغية و التركية و غير ذلك، بل يكمن أيضا، في طريقة النطق التي تتميز بتسكين أغلب حروف الكلمات، كما أنها لغة تأثرت بتعدد اللهجات المحلية و اختلافها الناتج عن خصوصية كل منطقة جغرافية، فلسان الغرب لا يتطابق مع لسان الشرق، لأن الهاء حرف يكون حاضرا في معجم كلمات الوهرانيين « ماله» أو ما به.
كما تستبدل القاف في تلمسان بالألف و ينوب الكاف عن القاف في جيجل، و للشمال كذلك ميزته اللغوية « اللهجة العاصمية»، كما أن للصحراء و جبال القبائل قاموسا خاصا، لا يتقاطع معه في المعاني والكلمات، سوى قاموس بني ميزاب و الطوارق قليلا.
تنوع اللهجات بين المناطق في الجزائر، وفر كذلك رصيدا كبيرا من الكلمات و المرادفات، للتعبير عن أمر واحد وهو ما قد يشتت غير الملم بطبيعة اللهجة الجزائرية، فغاضب قد تعني «مغشش» و «زعفان» و «مقلق» أو «منارفي» أو «منرفز»، و تعرف السيارة أيضا، بكلمات عديدة، مثلا «لوطو» أو «طونوبيل» أو «كروصة» أو «طاكسي»، و القاموس ثري .
من ميزات الدارجة كذلك، عدم نطق الحروف، فالذال كثيرا ما يعوض بالدال، و الشين حرف للنفي في الدارجة، مثلا نقول « ما علاباليش» أو «ما تخرجش»، كما يكن أن يستخدم الحرف للاستفهام « واش؟» أو « علاش؟»، أما نون الجماعة فتستخدم للتعبير عن ضمير المتكلم « نروح « أو « نكتب».
الأصعب على الإطلاق
سنة 2015، أجرت شبكة « نت ورك دي زاد» الناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، استطلاعا للرأي شاركت فيه جنسيات مختلفة، وكان السؤال حول أصعب اللهجات في العالم العربي، لتكون اللهجة الجزائرية هي الإجابة رقم واحد، بنسبة 58.33 بالمئة.
النتيجة طبعا ليست مفاجئة، فعادة ما يصطدم الجزائريون المشاركون في مسابقات المواهب، التي تبثها القنوات العربية، بحاجز اللهجة، فيطلون على جمهور المتابعين بعد خسارتهم او انسحابهم ليؤكدوا، بأن مشكل التواصل اللغوي كان من أسباب الفشل، و كثيرا أيضا ما يطلق حكام هذه المسابقات تعليقات تبين إعجابهم بصاحب الموهبة، لكن صعوبة فهمهم لما يحاول قوله، على سبيل المثال، تحقق الأغاني التراثية التي يؤديها الجزائريون في الحصص العربية كثيرا من التفاعل الإيجابي، لكن التعليقات عليها تصب دائما في خانة واحدة وهي عدم فهم كلماتها أو معانيها حتى أن هناك من يعلقون « هل تتكلمون عربي؟ «. خلال خرجات إعلامية عديدة ، استخدم فنانون جزائريون شباب و إعلاميون لهجات مشرقية، أو على الأقل استعانوا بها بشكل كبير للتعبير، وهو ما وضعهم في عين الإعصار، إذ انتقدوا بشدة من قبل الجمهور الجزائري على المنصات التفاعلية، لكن ردهم كان واحدا في عديد المرات « نحن مضطرون، فلا أحد سيفهم ما نقوله» أو « أن الامتداد العربي يلزمنا بذلك».
و السؤال هنا هو لماذا يجد الجزائري صعوبة في التعبير بالدارجة، هل لأنها لغة قاصرة أم لمحدودية قاموس كلماتها؟ و لماذا لا تتطور الدارجة إلا عن طريق استيراد المفردات من اللغات الأخرى؟
باسم بلام أستاذ اللسانيات بجامعة سطيف
أصـــل لغـــة الجزائـــري « دينــــي»
في جوابه عن مجمل هذه الأسئلة يوضح باسم بلام، أستاذ اللسانيات بجامعة سطيف ومؤلف كتاب « العامية الجزائرية في لسان العرب ـ معجم في التأصيل اللغوي»، بأن اللغة التي يتحدثها الجزائري اليوم هي اللغة الدينية، بمعنى أنها أداء معجمي و صوتي ونحوي وأسلوبي خاص للغة الأم «العربية الفصحى».
وذلك بالنظر إلى معظم مفردات معجمها، فنسبة كبيرة من ألفاظها من أصل عربي، و قد قال عن ذلك العالم و المؤرخ الكبير أحمد توفيق المدني، بأن نسبة العربية في الدارجة الجزائرية، تعادل 98 بالمئة، خاصة في مناطق بعينها كالصحراء و السهوب و الهضاب العليا، طبعا ذلك باستثناء المناطق التي تسيطر فيها الأمازيغية، كمنطقة القبائل و الشاوية و بني ميزاب و الطوارق وغيرها.
الباحث قال أيضا، بأن اللسانيات هي العلم الذي يهتم بصور الأداء اللغوي الصوتي، مهما كان هذا الأداء، لذلك فإنه من الممكن إخضاع الدارجة لقوانينه وتلمس خصائصها الصوتية و المعجمية و اللغوية والأسلوبية، بما يؤكد بأنها لغة قابلة للدراسة، بدليل البحوث الكثيرة التي قدمت بهذا الخصوص، و تحديدا في مرحلتي الماجستير و الدكتوراه، و المؤكد، حسبه، هو أن الدارجة الجزائرية هي «منبت اللغة العربية الفصيحة»، وصلت إلينا في صورتها المعاصرة، بعد أن ساهمت في تكوينها عوامل عدة، منها الفتح الإسلامي و دخول الجنس العربي إلى الجزائر، وما رافق ذلك من انتقال لجموع الفاتحين، رفقة أسرهم إلى هذا الفضاء الجغرافي الممتد من مصر إلى المغرب، و الذي شهد قيام دول و ممالك بعضها أمازيغي و بعضها عربي، مجدت في معظمها اللسان العربي، لاقترانه بالقرآن الكريم، اقترانا وجوديا عجيبا، كما عبر.
أستاذ اللسانيات قال، إن الهجرة الهلالية التي حملت قبائل بني هلال و بني سليم، من صعيد مصر إلى بلاد المغرب الإسلامي، كانت كبيرة و مؤثرة، خصوصا و أنها مست حوالي مليون نسمة، كما يذهب إليه مؤرخون، و لذلك فالاعتقاد الأصح، حسبه، هو أن الدارجة الجزائرية التي نتحدث بها اليوم، ترجع في معظمها إلى الدخول الهلالي الكاسح للجزائر والمنطقة عموما، حيث قال العلامة البشير الإبراهيمي عن الأمر، أن تأثير بني هلال خالد، لأنهم عبروا المغرب الإسلامي إلى الأبد، بمعنى أن اللسان الغالب لأهل هذه البلاد صار العربية.
مهدي براشد كاتب و صحفي
الدارجة لغة كاملة الأركان مثلها مثل أي لغة أخرى
يؤكد الكاتب و الصحفي مهدي براشد، صاحب كتاب « معجم العامية الجزائرية بلسان عربي مبين»، بأن الجزائري يتحدث «العامية» و هي في مجملها أداء من الأداءات للعربية، مختلطة باللغة الأم الأمازيغية، و بعض الألفاظ التركية وشيء مما يعرف بـ «لغة الفرنكا»، وهي هجين لغوي ظرفي، كان يستعمل لدى البحارة و العبيد في أطراف المتوسط، كوسيط بين أجناس مختلفة، كالإسبانية و الإيطالية و المالطية و اليونانية، إضافة إلى القاموس الفرنسي الذي دخل و بشكل كبير بعد الاستقلال، وهي في حد ذاتها ظاهرة تستدعي البحث، خصوصا ما تعلق بحفاظ الجزائريين على صفاء لغتهم خلال الفترة الاستعمارية كلها، و تفرنسهم بعد الاستقلال، بل في أوج سياسة التعريب.وعن أصل كلمة «عامية»، أوضح المتحدث، بأن الكلمة تعني لغة عامة الناس، و تكاد تقابلها اللغة العالمة، وإن كنا هنا سنجد، حسبه، نصوصا راقية بالعامية، كما هو حال الشعر الملحون. هناك أيضا، كما أضاف، من يقولون بأن «الدارجة» هي ما درج عليه الناس، وفي عصرنا الحالي، و بعد التطور الذي عرفته علوم اللسان واللغة، فإن السؤال عن أصل العامية، و عما إذا كانت الدارجة لغة أم لا، لم يعد ذا معنى، لأن التعريف العلمي للغة، يقدم على أنها «نظام صوتي يكفل التواصل»، و بهذا المعنى المتعارف عليه، فالعامية أو الدارجة، هي أداة تواصل ولها نظامها وقوانينها المطردة، وإلا ما استطاع المتحدثون بها التواصل فيما بينهم .
علينا أن ننتبه أيضا، حسبه، إلى أنه لا يمكننا الحكم على أداء لغوي ما، بقوانين أداء لغوي آخر، بمعنى أنه لا يمكننا تطبيق القوانين التي تحكم العربية «الرسمية» على العربية الدارجة أو العامية، فعلى الرغم من أن العامية أداء من أداءات العربية الرسمية، إلا أنها تختلف عنها، لأن الدارجة لغة كاملة الأركان، مثلها مثل أية لغة أخرى، بدليل أن المالطية، خاصة المالطية القديمة، هي أداء من الأداءات في العربية، وهي معتمدة كلغة في الاتحاد الأوروبي.
العامية لغة إبداع
من حيث الحيوية، يرى الباحث، بأن «الدارجة أكثر قدرة على مسايرة الراهن، ذلك لأنها تستمد شرعيتها و قوتها من الاستعمال، لا من تقعيد المخبر اللغوي، و المقصود هنا هم النحاة و أصحاب القواميس و القاعدة قديمة جدا «اللغة وليدة السماع»، وهي بذلك تتمتع بسهولة عجيبة في الاقتراض و النحت و الاشتقاق و الترجمة، على عكس اللغة الرسمية التي تحتاج إلى وقت للحصول على صك الاعتراف من اللغويين».
و أضاف الباحث «هناك مقولة جاء فيها «إذا توفرت الفكرة، فلن تعوزنا الكلمات». و باستثناء المسائل الفكرية الصرفة، فإن الجزائري يجد صعوبة في التعبير بالفصحى أو الفرنسية، أكثر مما يجدها في الحديث بالدارجة، حتى أنه و في أوج انهيار الشعر العربي، أو ما يعرف بعصر الضعف « القرون 16 و17 و18 و19» ظهرت حركة شعرية رائعة وجد راقية، عرفت بالشعر العامي «الشعر الملحون»، و هناك مدونة ضخمة من هذا الشعر، تؤكد أن العامية لغة إبداع، كما أن أجمل الأفلام التي كبر بها الجزائري، كانت أفلاما بالدارجة و المسرح الجزائري ازدهر أيضا بالعامية».إن الجزائري يمارس، حسبه، حياته اليومية بالدارجة وليس بالفصحى أو الفرنسية، و حتى إذا نطق بالفصحى أو بالفرنسية، فإنه يفكر بالدارجة، ثم إن العربية المستعملة اليوم، عربية مدرسية، تشوبها الأخطاء نحوا وصرفا وتركيبا، والقاموس المستعمل جد هزيل، تترجمه لغة الإعلام اليوم، فلو جمعنا، على حد قوله، كل الصحف لن نجمع منها قاموسا يتجاوز 150 لفظة فقط، ومع هذا الهزال، تستعمل العربية بطريقة ارتجالية، حالها حال الفرنسية كذلك.
و أكد الباحث، بأنه لا وجود للغة صافية، فالفارسية الحديثة، أو ما يعرف بـ «البهلوية»، وتضم الفارسية و الباشتونية والتركية والعربية، تغلغلت إليها بعض المفردات الفرنسية و الإنجليزية أيضا، و المالطية توجد بها العربية والإيطالية والإنجليزية، يبقى أنه من مسؤولية المدرسة و الإعلام تربية الذائقة، لأن الأقوام الأخرى، تتعامل مع اللغة ببراغماتية كبيرة، و متى حققت اللغة التواصل بشكل ناجع لن يطرح هذا الموضوع من جديد.
عبد الحميد بورايو أستاذ الأدب الشعبي الناقد
الإهمـــال الرسمــي عرقـــل تطــور الدارجـــــة
يرى الناقد وأستاذ الأدب الشعبي عبد الحميد بورايو، بأنه إذا تم النظر إلى كل من طبيعة النطق والمعجم اللغوي، للغة الحياة اليومية الشفوية المستعملة، في رقعة جغرافية تمتدّ من حدود شمال إفريقيا، المحاذية للمحيط الأطلسي (الحدود الغربيّة للمغرب الأقصى والصحراء الغربية و موريطانيا الحسانية) إلى غاية الحدود الشرقية الليبية، فإن جميع الاستعمالات اللهجيّة العربية يمكن أن نسميها اللغة العربية الدارجة المغاربية، التي لها تراث أدبي متقارب في أشكاله و في معجمه، ومن السهل نسبيا على أهلها ، التواصل بينهم عن طريق هذه اللغة.
نمت هذه اللغة، حسبه، انطلاقا من لهجة بني هلال العربية التي أثرت فيها اللهجات البربرية، بشكل مختلف، عما عرفته العربية المسماة «فصحى» ، و التي تعتمد أساسا على التدوين، في تطورها منذ القرون الأولى للحضارة الإسلامية، والتي عرفت تأثيرا فارسيا واضحا، فاللغة العربية الدارجة المغاربية، نمت بين جماعات يجمع بينها التاريخ المشترك، والطابع المعاشي والثقافي المتشابه.
و هناك، كما قال، علاقة وطيدة بين اللغة العربية الفصحى و اللغة العربية الدارجة، بالنظر إلى أنهما انبثقتا من نفس المحيط اللغوي المتفاعل في فترة ما، قبل ظهور الإسلام فالأولى (الفصحى) اتخذت نسقا كتابيا وعرفت التقعيد وحافظت عليها النخب الحاكمة، و أصبحت لغة العلوم والممارسات الدينية، تغطي رقعة جغرافية أكثر شمولا، تمثلها البلاد العربية مشرقا و مغربا، وقد تعرضت لتغيير نسبي، بفعل ما يفرضه التقعيد من محافظة نسبية على النسق اللغوي.
أما الثانية (الدارجة)، فلم تعرف التقعيد، مما سمح لها بأن تتغير بحرية كبيرة، وأن يتماشى هذا التغير مع تغيرات نظام المعاش (مثلا من حياة البدو الرحل إلى حياة الفلاحين المستقرين ثم حياة الحواضر).
وقد كان للمهاجرين الأندلسيين، تأثير كبير فيها، كما كان للجماعات الإفريقية قدر من التأثير أيضا، و عرفت إلى جانب ذلك تأثيرات لغات المحتلين، مثل الفرنسية والإيطاليّة وكذلك الإسبانية والبرتغالية، ويتفاوت هذا التأثير من منطقة إلى أخرى، تبعا لعلاقتها بهذه اللغة أو تلك.
و ليست هناك لغة في العالم، سواء كانت حية أو ميتة، لا يمكن أن تستنبط منها القواعد، وأن تدون و توضع لها القواعد، فما بالك بلغة يستعملها عشرات الملايين من البشر، في رقعة جغرافية شديدة الاتساع عبر قرون من الزمن، لأسباب إيديولوجية محضة، يلعب فيها الدين والسياسة الدور الأكبر، لم يعتن بوضع قواعدها، ولم تؤلف فيها المعاجم ولم تدرس إلا في ما ندر، إذ نجد دراسات قام بها الأجانب لأسباب عملية، تتعلق بحاجتهم للتعامل مع أهلها، و ليس بهدف استعماري، كما يدّعي الرافضون لتقعيدها.
أستاذ الأدب الشعبي، قال بأن اللغة العربية الدارجة الحالية المستعملة في البلاد المغاربية، من إنتاج الجماعات البربرية، بعد احتكاكها بقبائل بني هلال، و هذا ما يجعلها مختلفة عن اللهجات العربية في مصر و الشام و الحجاز و اليمن، من حيث النطق و كذلك المعجم.
تتميز بثراء تراثها الأدبي وبالأخص الشعري، و ما حدث في العقود الأخيرة من القرن الماضي، واستمر إلى اليوم، هو الانتشار الواسع للتعليم و انتشار الكتابة في مختلف الأوساط ، مما أعطى أهمية للغات المكتوبة، مثل العربية و الفرنسيّة، على حساب اللغة العربية الدارجة المغاربية التي لم تضطلع النخب و المؤسسات الرسمية بتقعيدها وإدراجها في المنظومة التعليمية، والعناية بها في الإعلام.
إن إثارة مسألة استعمال المفردات الأجنبية في اللغة الدارجة مبالغ فيه، كما أضاف المتحدث، فالأمر يتعلق ببعض الاستعمالات في المدن الكبيرة، خاصة التي تواجد فيها المستعمرون، و أقامت فيها النخب المستغربة (مثل الجزائر العاصمة و وهران)، بينما نجد هذا الاقتراض يقل، كلما اتجهنا جنوبا نحو الهضاب العليا والصحراء، و يصدق هذا على جميع بلدان شمال إفريقيا.
و أكد أن «فكرة نقاء اللغة، غير سليمة علميا، لأن جميع لغات العالم تتأثر ببعضها وتتفاعل، ولا يعد ذلك نقيصة في اللغة، بل يمثل عامل قوة وقدرة على التجدد والاستيعاب والتكيف. لقد أثرت الفارسية واللغات القديمة على العربية، قبل تدوينها، وأثرت العربية في اللغات الأوروبية في العصور الوسطى، وأثرت الإنجليزية على الفرنسية وغير ذلك، و ما يقف حائلا دون تطور لغتنا العربية الدارجة هو عدم تكفل المؤسسة الرسمية، بتعليمها وتطويرها والإنفاق على التأليف فيها ودراستها، واستعمالها بالصفة اللائقة في الإعلام».
الدارجة ليست استعمالا لهجيا للعربية
يعتبر البعض بأن العربية الدارجة، هي مجرد استعمال لهجي للغة العربية الفصحى، وهو أمر غير دقيق، و به لبس ولا يراعي الواقع التاريخي، فإذا نظرنا إلى تاريخ اللغة العربيّة، نجد أنها عرفت لهجات متعددة في الجزيرة العربية، و تقاربت هذه اللهجات في الوسط النخبوي الذي ظهر قبل الإسلام بقليل، لتتشكل منها لغة موحدة أكدها القرآن و ثبت أركانها، ثم جاءت فترة التدوين لتوضع لها القواعد ولتصبح لغة مكتوبة، يتمكن مستعملها من ملكتها عن طريق حفظ القرآن والأشعار وقراءة المتون اللغوية ومعرفة القواعد.
أما اللهجات العربية في الأوساط العامة، فقد استمرت في تواجدها الشفوي في أرجاء الجزيرة العربية و انتشرت بعد الفتوحات الإسلامية تدريجيا، في الشام وفي شمال إفريقيا.و تكيفت مع الواقع اللغوي في كل من هذه المناطق، و تغيرت، حيث اتخذت صفتها الحالية في كل منطقة من هذه المناطق، وهي في تواجدها في نفس المجتمع إلى جانب اللغة العربية الفصحى الرسمية، ترتبط بعلاقة تأثير وتأثر معها.
إن النخب التي تستعمل اللغة الفصحى، كما عبر، هي نفسها التي تنشأ و تعيش في المحيط الذي يتكلم العربية الدارجة، و بالتالي من الطبيعي أن تكون هناك تأثيرات متبادلة في النطق وفي المعجم وفي طبيعة التركيب وفي التراث الأدبي بصفة خاصة، غير أنه من الملاحظ أن التغيرات التي تعرضت لها الفصحى مختلفة عن تلك التي تعرضت لها العربية الدارجة، بحكم استعمال الكتابة في الأولى واستخدام التواصل الشفوي في الثانوية. وأدت العناية بالكتابة والتكفل بتعليمها وتطويرها، إلى أن تكون اللغة المكتوبة مهيأة لحمل العلوم والتقنيات الحديثة، بينما ظلت اللغة العربية الدارجة فقيرة من هذا الجانب، نظرا لعدم استعمالها في هذا المجال. هذا الفقر عوّضته إلى حد ما، بممارسة التعبير الأدبي والفني الذي قد تتفوق فيه أحيانا على الفصحى أو تساويها على الأقل.
الإعلام لم يخدم الدارجة
قال الباحث، بأن اللهجات الشامية والمصرية، انتشرت عن طريق وسائل الإعلام والترفيه، مثل التلفزيون و السينما، و أصبح لها جمهور عريض منذ منتصف القرن الماضي، فيما ظلّت اللهجات الأخرى، مثل اللهجة العربية المغاربية، محدودة التأثير، بفعل عدم وجود نهضة إعلامية و سينمائية في البلدان المغاربية، إلى جانب ذلك نجد الآن توجها في مصر خاصة، و في بعض دول الخليج، إلى العناية بتدوين الأدب الدارج والترويج له، بينما لاتزال المجتمعات المغاربية، ومن بينها المجتمع الجزائري طبعا، تعاني من روح محافظة في مجالات الاستخدام اللغوي، ما حد من انتشار استعمالاتها اللهجيّة في العالم العربي.
إن ما أصاب اللهجة الجزائرية في تنوعات استعمالاتها المختلفة و تأثرها بالأمازيغية ولغات شمال حوض البحر الأبيض المتوسط والتركية واللغات الإفريقية مسألة طبيعية جدا، ولا يمكن أن نعتبرها نقصا أو عيبا، لأن احتكاك الجزائريين بهذه الأقوام، تنتج عنه مثل هذه التأثيرات التي اعتبرها، الباحث طبيعية جدا، وفكرة توحيد اللهجة ونقائها خاطئة وغير علمية، و إذا ما كانت المؤسسة الرسمية حريصة على الاستجابة إلى احتياجات المجتمع، عليها أن تُدمج اللغة الدارجة و فنونها في المنظومة التعليمية، لأن هناك حاجة ماسّة لإتقان اللهجات في الإعلام، وفي الفنون المختلفة، وفي الخطاب الموجه للمواطنين من عامة الناس، حتى لا يعيش المواطن اغترابا في بلده.
و أضاف الباحث، بأن وجود ازدواجية في الاستعمال اللغوي تجمع بين لغة مكتوبة ولغة شفوية أمر عادي، نعثر عليه عند جلّ الشعوب، غير أن تباعد المسافة واتساع الهوة بين اللغة المكتوبة ولغة التعبير اليومي، هي ظاهرة واضحة بخصوص علاقة اللغة العربية الفصحى باللغة العربية الدارجة، وهو أمر يحتاج إلى البحث والدراسة والنقاش، ويثير مسألة ضرورة تقعيد اللغة العربية الدارجة التي تتمتع بخصائصها التركيبية والمعجمية والنطقية المختلفة، عن مثيلتها في اللغة العربية الفصحى، من أجل ترقيتها والعناية بتراثها ونقله للأجيال الجديدة، لكونه جزء هام من هويّة المجتمع، ولا يمكن معرفة الإنسان الجزائري، إلا بالمعرفة العلمية للغة التي يستعملها و لتراثها الأدبي.