بدأت تأثيرات الحرارة القوية التي تجتاح ولاية قالمة في السنوات الأخيرة و في هذا الصيف على وجه الخصوص، تظهر بوضوح و تلقي بظلالها على يوميات السكان الذين يواجهون متاعب كبيرة، و لم يجدوا بديلا لقضاء عطلة مريحة يسترجعون فيها راحتهم و صحتهم قبل العودة إلى أعمالهم من جديد.
و قد سجل مقياس الحرارة بقالمة مستويات مقلقة منذ بداية فصل الصيف حيث اقتربت الحرارة من 50 درجة هذا الشهر، مما أثر على الحياة اليومية بما فيها النشاطات التجارية و الاقتصادية بعد أن تقلصت ساعات العمل إلى حد أدنى و تحولت عدة مدن و قرى إلى فضاءات أشباح بعد ان هجرها الناس هربا من ضربات الشمس القاتلة.
و يقول المهتمون بشؤون المناخ بقالمة بأن المنطقة قد تأثرت بالتغيرات المناخية المتسارعة، حيث ارتفعت بها درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، و تراجع بها الغطاء الغابي بسبب الحرائق المدمرة التي تندلع كل صيف بكبرى الأقاليم الغابية التي كانت الرئة الطبيعية الملطفة للمناخ و المساعدة على جلب الأمطار الموسمية.
و يعد موقع حوض قالمة الكبيرة من أسباب ارتفاع درجات الحرارة، حيث تقع مدينة قالمة و كثير من المدن و القرى المحيطة بها وسط منخفض تحيط به الحواجز الطبيعية من كل الجهات و تحول دون وصول التيارات الهوائية الشمالية الباردة، كما ان نسبة انعكاس أشعة الشمس من سطع الأرض على الفضاء ضعيفة جدا، حيث تبقى الكتل الساخنة متجمعة بالمناطق المنخفضة و ترفع درجات الحرارة مع بداية ساعات الصباح الأولى و إلى ما بعد منتصف النهار أين تبلغ الحرارة ذروتها كل يوم.
اختباء في المنازل أو هروب إلى شواطئ البحر
المتجول في شوارع مدن و قرى قالمة هذه الأيام يدرك حقيقة تأثير الحرارة على الحياة اليومية للسكان، شوارع خالية من الحركة تقريبا، محال تجارية مغلقة كأنها في إضراب غير معلن، القليل من الناس فقط يظهرون هنا و هناك بعد ان أجبرتهم الظروف على البقاء تحت أشعة الشمس الحارقة.
الكثير من سكان قالمة يقضون ساعات طويلة داخل بيوتهم، و منهم من يفضل الهروب إلى شواطئ البحر في رحلات جماعية و فردية في محاولة لتغيير الروتين الصيفي المتعب و قضاء أيام من الراحة و الاستجمام بعيدا عن صيف قالمة الذي أصبح لا يطاق.
و قد نشطت حركة الحافلات و سيارات الأجرة باتجاه شواطئ عنابة و سكيكدة و القالة، انطلاقا من مدن و قرى قالمة التي أصبحت منطقة صحراوية بقلب الشمال.
و بالرغم من ارتفاع تكاليف رحلات الشواطئ فإنها أصبحت بمثابة الخيار الوحيد للهروب من الحرارة و أيام العطلة الثقيلة، حيث تعاني قالمة من نقص كبير في مرافق الخدمات و الترفيه و حتى المسابح الموجودة تعاني من الإهمال و لم تتمكن البلديات منم ترميمها و وضعها في خدمة الشباب و العائلات الباحثة عن ملاذات للراحة و الهدوء.
و قال تجار بمدينة قالمة بأن نشاطهم قد تراجع بشكل مقلق هذا الصيف بعد أن خلت الشوارع و الساحات العامة من الناس و لم يعد هناك زبائن يشترون الملابس و الهدايا و اللعب و يتناولون وجباتهم داخل المطاعم الصغيرة التي أصبحت تشكو حالها لكل زائر أو عابر سبيل.
وقلصت وسائل النقل العامة من نشاطها بشكل واضح بعد تراجع حركة الناس بين مختلف المدن و القرى، و فضل الكثير من الناقلين الدخول في عطلة إجبارية في انتظار عودة الحياة إلى طبيعتها من جديد بنهاية شهر أوت القادم.
حرارة في النهار و ناموس بالليل
جفت أودية قالمة الكبرى هذا الصيف و لم تبق فيها إلا مجاري الصرف الصحي التي تحولت إلى بؤر للروائح و ملاذات لتكاثر الناموس الذي غزا مدن و قرى المنطقة وحول حياة السكان إلى جحيم إلى يطاق.
حرارة قوية في النهار و ناموس مزعج بالليل هكذا هي يوميات سكان حوض قالمة حيث يمتد نهر سيبوس الكبير من مجاز عمار غربا إلى وادي فراغة شرقا، لم يعد هذا الكائن الطبيعي العملاق صديقا للبيئة و الإنسان، كما كان على مدى عقود طويلة من الزمن ، جفت المنابع المغذية لها و سكنته أسراب الناموس و انتشرت فيه الروائح و المياه السوداء الراكدة، و أصبحت حياة السكان المجاورين له صعبة خاصة عندما ترتفع درجات الحرارة.
وقد عجزت أغلب البلديات عن إيجاد حلول لمشكل الناموس و مازال السكان المعذبون بالنهار و الليل يطالبون بتدخل فرق النظافة و الصحة لرش المستنقعات الراكدة وفراغات العمارات و مواقع الحشائش و النفايات التي تتكدس ساعات طويلة ببعض المواقع قبل ان تصل إليها الشاحنات.
و كان سد بوحمدان المطهر الرئيسي لمجرى وادي سيبوس و بعد أن تعرض للجفاف قبل عامين توقف ضخ المياه العذبة وسط المجرى، فارتفع منسوب مياه الصرف الصحي و تكاثر الناموس بشكل غير مسبوق بعد أن وجد البيئة الملائمة ، و أضاف متاعب أخرى للسكان.
المواقع السياحية الحموية..الملاذ الوحيد لقضاء ليالي السمر
مع بداية كل صيف تتحول المنتجعات السياحية الحموية إلى قبلة لسكان قالمة الباحثين عن أماكن للراحة و الهدوء ، كل ليلة تتوجه أعداد كبيرة من الناس إلى منتجعات حمام أولاد علي و حمام دباغ لقضاء ساعات طويلة من الليل بعيدا عن فوضى المدن و جحيم المنازل.
و تحاول هذه المنتجعات تقديم أحسن الخدمات للزوار و مساعدتهم على قضاء أوقات من الراحة و الهدوء في غياب مرافق بديلة بالمناطق المحرومة بما فيها مدينة قالمة التي تصاب بالشلل كل صيف بالرغم من الجهود التي يبذلها القائمون على شؤون الثقافة و المسرح و الشباب من خلال سهرات فنية و نشاطات ترفيه بين حين و آخر ، لكن هذه الجهود لم تصل بعد إلى مستوى تطلعات السكان.
وكل ليلة تنتشر أعداد كبيرة من الزوار بمحمية العرائس الأسطورية بمدينة حمام دباغ لقضاء ليالي السمر تحت ضوء القمر و بخار المنابع الحارة المتدفقة من الشلال الشهير الذي اكتسى حلة جديدة هذا الصيف بعد خضوعه لعملية تهيئة واسعة، ويتوقع ان يفتح أبوابه للزوار خلال أيام قليلة.
ويعد الناموس الذي غزا المنتجعات السياحية هذا الصيف النقطة السوداء التي عكرت مزاج هواة السمر الباحثين عن الراحة و الهدوء.
و يقضي الزوار ساعات طويلة من الليل بمحمية العرائس الشهيرة يتناولون المثلجات و القوة و الشاي و أطباق الشواء قبل العودة إلى ديارهم و الاستعداد ليوم آخر من الحرارة و الروتين و الملل.
المنتجعات الغابية..هروب من نوع آخر
بعد التغيرات المناخية التي تعرفها ولاية قالمة في السنوات الأخيرة و خاصة في فصل الصيف بدأ المشرفون على شؤون المنطقة يتوجهون إلى بناء منتجعات جبلية و تهيئة مواقع استجمام طبيعية تشجيع الناس على الذهاب إليها في فصل الصيف لمواجهة الحرارة القوية و النقص الكبير لبدائل الراحة و الترفيه داخل المدن الكبرى.
و تعد منتجعات ماونة، بني صالح، طاية و جبل عربية و بومهرة احمد من بين المواقع التي يقصدها سكان قالمة كلما اشتد الصيف و شعر الناس بتأثيره المقلق.
و تعمل محافظة الغابات بقالمة على حماية هذه المنتجعات من الحرائق المدمرة و ذالك بتنظيفها من الحشائش و تهيئة المنابع المائية المتواجدة فيها و إصلاح المسالك المؤدية إليها، حتى يسهل على هواة الطبيعة الوصول إليها و تحويها على بديل للبحر و المنتجعات الحموية كلما دعت الضرورة لذالك. و يعتقد سكان قالمة بأن حرائق الغابات تعد من بين أسباب الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة بالمنطقة، حيث أدت الحرائق التي تندلع كل صيف إلى تراجع مساحة الغابات و بداية ظهور مواقع التصحر كما يحدث بسهل الجنوب الكبير و خاصة بمنطقة عين آركو التي تكاد تتصحر تماما بعد ان كانت جنة خضراء على مدى عقود طويلة. و بدأت موجات الحر المتعاقبة على المنطقة نؤثر تأثيرا بليغا في عادات و تقاليد سكان قالمة، حيث أصبحوا يميلون إلى الكسل و العصبية و يختفون في بيوتهم ساعات طويلة من النهار، و يعد النشاط الاقتصادي و التجاري الأكثر تضررا من التغيرات المناخية الصعبة التي تعرفها المنطقة في السنوات الأخيرة.
مسابح مغلقة و مطالب بتصنيف الولاية منطقة شبه صحراوية
ارتفاع درجة الحرارة بقالمة دفع ببعض نواب الولاية في البرلمان إلى مطالبة وزارة الداخلية بإعادة النظر في تصنيف المنطقة و إصدار قرار باعتبارها منطقة شبه صحرواية تنطبق عليها قوانين الجنوب في مجالات العمل و الدراسة و برامج التنمية و الطاقة و غيرها من المجالات الأخرى ذات العلاقة بالظروف المناخية القاهرة. و قد دعم السكان هذا المطلب و رفعوا أصواتهم منادين باتخاذ مزيد من الإجراءات لمواجهة الظروف المناخية الاستثنائية التي تعرفها واحدة من أسخن المناطق بالمغرب العربي و شمال إفريقيا. و تعد مرافق الصحة و دعم الكهرباء و الخدمات الأخرى و في مقدمتها المسابح، و الحدائق العامة، و المنازل الصديقة للبيئة، في مقدمة مطالب السكان الموجهة للسطات المحكلية و المركزية لمواجهة التحديات المناخية التي تشهدها المنطقة في السنوات الأخيرة.
روبورتاج : فريد.غ