تستهوي الجبال بتضاريسها وهوائها العليل، فضلا عن شموخها الذي يصنع مناظر خلابة وهو يشق سقف السماء، هواة الرياضات الجبلية، هناك يندمج المغامرون مع الطبيعة باحثين عن الراحة النفسية والسكينة، فيُوهَبُون شجاعة تحفزهم على رمي أنفسهم داخل مغامرات وتجارب جديدة مثل تسلق الجبال، هذه الرياضة التي أصبحت تستقطب شرائح عديدة منها فتيات، كما فتحت "ألبوم" صور ولاية قسنطينة لتُحدث عن جمال مناطقها الطبيعية.
روبورتاج/ إيناس كبير
يتخفى موقع غار حمام، أسفل قرية "تافرنت" التابعة لجبل وحش، بولاية قسنطينة، يُطل على واد يمتد إلى واد الرمال، ويقطع الوصل بين جبله وجبل "كاف صالح"، ويأخذ من الموقع اسمه أيضا، كما أخبرنا المدرب الدولي في الإستغوار، شوقي جغيم، قائدنا إلى المنطقة، أنه كان من أجمل الأودية قبل أن يُلوث، ويمكن النزول من خلاله إلى غاية واد الرمال.
الحادية عشرة صباحا، كان ميعاد انطلاق رحلتنا وسط الطبيعة التي فتحت لنا مساراتها لممارسة رياضة المشي، وكنا كلما توغلنا داخلها اندمجنا مع أصواتها واتخذنا منها معيلا لنا في جولتنا، تارة نغرس أقدامنا مثبتين أرجلنا على أرضها لنحمي أنفسنا من الانزلاق، وأخرى متخذين من شجيراتها ركائز تعيننا في النزول إلى السفح.
طربنا أيضا بمقطع غنائي عزفته زقزقة الطيور، التي تتحدى رقتها صوت نعيق الغراب، ثم يُفتح مجال لترانيم حفيف أوراق الأشجار، وقد مُنعت أصوات الشاحنات المنبعثة من الطريق السيار، شرق غرب، وأخرى قادمة من محجرة قريبة، من تعكير هدوء المكان، ورغم صعوبة المسارات لكننا استمتعنا بمشاهدة جبال قسنطينة وتضاريسها، وقد استحوذ جبل "كاف صالح" على اهتمامنا، خصوصا بعد أن أخبرنا القائد شوقي أنه يحتوي على كهوف داخله، كما يرتبط بأسطورة شهيرة تقول إنه يحتوي على سبعة قلال مليئة بالذهب.
جولتنا في الموقع رقم خمسة كما يطلق عليه مرافقنا، تميزت بسمتها العلمية فتبادل أحاديث عن تاريخ المنطقة، والقيمة الأثرية لجبالها، فضلا عن تواجد نباتات نادرة تشتهر بها ولاية قسنطينة مثل نبتة "بخور مريم"، جعلتنا نتناسى برودة الطقس منصبين اهتمامنا على إشباع فضولنا بصريا ومعرفيا.
مغامرة دون مخاطرة
وصلنا إلى قطعة من الخيال تختبئ وسط الجبل وتحفها الأشجار، تطل على واد غار حمام، هناك حيث استعد المدرب وفريقه لممارسة رياضة التسلق، انتبهنا إلى أن المسارات قد حُددت سابقا في أعلى الصخور، وفور وقوفنا هناك بدأ الفريق بتوزيع المهام بينهم، بعد أن أخرجوا عتادهم والحبال الخاصة وقاموا بتنظيمها، وأول ما نبه إليه شوقي ارتداء الخوذات والأحذية الخاصة بالتسلق، وحزام الأمان، وقد ساعدهم في ذلك متأكدا من إغلاقها بإحكام، ووفقا له، فإن الإجراءات الوقائية ضرورية في أي نشاط جبلي، خصوصا إلزامية ارتداء الخوذة والحزام الواقي.
بعدها قام المدرب بإسداء تعليماته للمتدربين، وكانت المهمة الأولى تنظيف الموقع من الغبار وبعض الحشائش، والحصى، وتهيئته، تسلق شوقي أولا وبدأ في تنظيف المسار ثم ركب الحبال، بعدها ساعد كل من برهان وعبد الجليل في ربط حبالهم والتأكد منها.
ثم عم السكون عندما بدأ الشابان في تجهيز نفسيهما لتسلق المسار، فكان كل من شوقي وعبد الجليل يراقبان بهدوء برهان وهو يربط الحبال، وعندما انتهوا قال لنا القائد "إن الهدوء أثناء ربط الحبال مهم، حتى لا يتوتر المغامر بسبب التشويش، بينما توجه له التعليمات من شخص واحد فقط في حالة أخطأ"، وأضاف معبرا "المتسلق يأخذ من الجبال الهدوء والتركيز".
وأردف المدرب موضحا، أن تعلم التسلق يُمَهَّد له بالمشي الطويل للفت الانتباه لهذا النشاط، أيضا يكون وفق مراحل، في اللقاء الأول يتعرفون على بعضهم، ثم يُقدم لهم دروسا داخل قاعة يحدثهم فيها عن المغامرة بكل أنواعها سواء استكشاف كهوف، أو تسلق، ويتطرقون أيضا إلى تاريخ هذا النشاط في الجزائر، بالإضافة إلى التعرف على العتاد، بعدها تكون لهم خرجة يتعلمون فيها المغامرة دون مخاطرة وتقنيات التعامل مع العتاد واستخدامه في الحماية، حيث يعلمهم كيفية ربط العقد وفكها، والتسلق بطريقة صحيحة والنزول بأريحية، بالإضافة إلى تلقينهم عبارات رمزية للتواصل بينهم، مثل شد الحبل أو إرخائه قليلا للنزول، وتُعرف هذه التقنية، وفقا له، بـ"موليني".
ويختلف سلم تسلق المبتدئين عن المخصص للبالغين، حيث يبدأ الأول من ثلاثة "أ" إلى 9، بينما الآخر يكون من ثلاثة "أ" إلى 17، وشرح شوقي، أن كل رقم يرمز إلى صعوبة المسلك التي تتحدد بمكان وضع اليدين والرجلين، كما يشترط لممارسة هذه الرياضة الصحة البدنية والعقلية وتصريح الأبوين للأطفال.
ولكل رياضة تقنياتها وحبالها الخاصة فضلا عن عتادها، الذي يحمي المتسلق من السقوط، وقد تطورت بمرور الزمن، يقول المدرب، "عتاد التسلق تطور كثيرا عما كان عنه سابقا، خصوصا في جانب الحماية، فمثلا يوجد جهاز يمنع المتسلق من السقوط في حالة لو غفل مراقبه عن تنبيهه"، وتأسف المتحدث لعدم توفر هذه الأجهزة في الجزائر وغلائها، وقد اعتبرها من العراقيل التي تتسبب في عزوف الشباب عن الرياضات الجبلية.
إرث ننقله إلى الشباب
ومن خلال تعامل المدرب شوقي مع الشابين عبد الجليل وبرهان واهتمامه بهما، لاحظنا أن علاقة صداقة تربطهم قبل أن يكون مدربا لهما، خصوصا وهو يؤكد لنا على أهمية تواجد الشباب في الرياضات الجبلية، وهو ما دفعنا للتساؤل عن السر الذي يربط بينهم، وعبر قائلا "أعامل المتدربين مثل أبنائي، أنا أراهم أمانة، تربطنا علاقة أخوة وصداقة"، وأردف أنه لا يسعى إلى مقابل مادي انتفاعا بما يقوم به، قائلا "أنا أحمل رسالة نبيلة، الذين علموني هذه الرياضة لم يأخذوا مني مقابلا ماديا وكذلك أفعل أنا".
ثم استرسل يحدثنا عن بداية تدريبه للشباب، الذي شرع فيه سنة 1992 متحولا من استكشاف الكهوف، إلى النشاط الكشفي بسبب العشرية السوداء، ثم سنة 2013 فكر مرة أخرى في إحياء نادي الاستغوار لولاية قسنطينة وأنشأوا جمعية هدفها خلق مدرسة تدريبية، معتمدين في ذلك برنامج على المدى القصير والطويل لتدريب أشخاص يساعدونهم في نشاطاتهم، بهدف نقل هذا الإرث للشباب، هكذا عبر شوقي عن الغاية التي دفعتهم إلى ذلك، خصوصا بعد تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، أين خرج نادي الاستغوار للوجود وتعرف الناس على هذا النشاط الذي لم يكونوا على دراية أنه متاح في الولاية، وأردف محدثنا أنهم وجدوا حماس الشباب في انتظارهم وقد اتصلوا بهم للانخراط فيه.
للفتيات حضور في النادي
وللفتيات حضور أيضا في النادي، وقد وصفهن المدرب بكونهن عنصر نشط يتحلين بالشجاعة والاندفاع لإبراز قدراتهن، كما أنهن يتميزن بالحذر، وللتغلب على الخوف، قال شوقي جغيم، إنه لا يبخل عليهن بالنصائح كما يعطيهن كل الوقت لتجاوز مخاوفهن، وهو حاليا بصدد تأهيل ثلاث فتيات ليصبحن مدربات.
وفي هذا السياق وجه المدرب الدولي والقائد في الكشافة نصائح للشباب الذي يريدون ممارسة الرياضات الجبلية، بالحرص على التدرب مع مختصين، وممارسة هذه الرياضة بشغف دون الوقوع في اليأس، مركزا أيضا على تقنيات الحماية والأمان.
ومن خلال لقائنا ببرهان وجليل لمسنا فيهما تأثرهما بمدربهما أو كما يناديانه "القائد"، خصوصا في جانب التأثر بمبادئه الأخلاقية، فقد كانا يمشيان بجانبه وكأنه صديقهما بالرغم من فارق السن بينهم، وعبر برهان الدين شايب، ذو 18 سنة طالب جامعي، وجوال في الكشافة، قائلا "في بداية ممارستنا لرياضة تسلق الجبال كنا نخاف من الحبال، لكن القائد كان يدفعنا للتجريب، وقد قضى على مخاوفنا وزاد من شجاعتنا إلى أن أصبحنا حاليا نتسابق لتجربة العتاد"،
كما يثري "القائد" أيضا رصيدهم المعرفي والعلمي، فقد أخبرنا الشاب أنهم زاروا في آخر خرجة كهوف قسنطينة، وقد زودهم المدرب شوقي بمعلومات علمية وتاريخية عنها، كما تعرفوا على أماكن جديدة مثل، درب السياح.
وقد اختار برهان الدين، بعد انضمامه للمخيم الكشفي سنة 2024، فوج المغامرة مدفوعا بحبه لتجريب نشاطات جديدة، قائلا إن هذه الخرجات تساعده في تحسين مزاجه، وتؤثر إيجابا على نفسيته، يضيف بأنها عززت ثقته بنفسه، فضلا عن قوة التحمل، ونصح برهان الدين بممارسة نشاطات مماثلة لأن الفراغ، وفقا له، يقتل الإنسان خصوصا الشاب الذي يكون في حاجة إلى ملئ وقته بنشاطات مفيدة تُبعده عن الآفات الاجتماعية.
من جهته قال عضو الكشافة عبد الجليل قرفي صاحب 23 سنة، حاصل على شهادة تدريب ومساعد للقائد شوقي، إنه يحب رياضة تسلق الجبال خصوصا وأنه مارسها منذ البداية وفق قواعد منظمة، كونه انضم سنة 2021 للكشافة، وقد تعلم الكثير بفضلها مثل المحافظة على الطبيعة والآثار، معقبا بأن هذا النشاط مكنه من تجاوز ضغط العمل، إذ أنه يشعر بالراحة نفسية بعد كل خرجة.
رياضة تسلق الجبال مفيدة للصحة البدنية والنفسية
لوهلة تظن أن المدرب شوقي في عمر الشباب، لكن بعد لقائنا به اكتشفنا أنه يبلغ 55 سنة، إلا أنه مازال محافظا على لياقته البدنية، فضلا عن رشاقته أثناء المشي، وبعد دردشتنا معه، أخبرنا أنه منذ أن كان في سن 17 سنة وهو يمارس هواية الترحال وأحيانا كان يضطر للتسلق في حالة وجود مطبات أو لصعود بعض الأودية، كما كان منذ صغره محبا لاكتشاف أماكن جديدة، ولطالما كان يفضل الخروج من الحيز الضيق للمدينة.
وأفاد بأن هذه الرياضة ساعدته كثيرا خلال شبابه، حيث وهبته قدرات عالية تمكن بفضلها من الدخول إلى الكشافة برتبة قائد سنة 1992، وقد كشف لنا أنه تسلق تقريبا كل جبال قسنطينة منذ أن بدأ في ممارسة تسلق الجبال سنة 2011 مع جمعية حيزر من بويرة، مردفا في سياق ذي صلة، أن هواة هذه الرياضة يستطيعون ممارستها في الشتاء أيضا، بل وأكد أن أمهر المتسلقين يتسلقون عند تساقط الثلوج، لكن مع الحرص على التهيئة النفسية ومعدات الأمان، وتجنب المغامرة والمخاطرة بالنفس في حال عدم امتلاك الخبرة الكافية".
قسنطينة مناسبة لممارسة رياضة التسلق
كانت جولتنا مليئة بالمناظر الطبيعية رغم صعوبة المسارات، وطِوال سيرنا كان مرافقونا يؤكدون لنا أن هناك مناطق أخرى تخطف القلوب، وقد وقفنا فعليا على ما حدثونا به، وفي هذا السياق لفت المدرب الدولي في الاستغوار شوقي جغيم، بأن قسنطينة مؤهلة طبيعيا لممارسة الرياضات الجبلية، ولا تحتاج لإنشاء جدران للتسلق على سبيل المثال، فالصخر الطبيعي بها مميز جدا ويضع المغامر أمام مسارات عديدة تجعله يستمتع بالتجربة، مضيفا، بأن قسنطينة تحتوي على أكثر من 40 كهفا أجملها غار الحجر، وكهف راس الدوامس، الذي أعادوا تسليط الضوء عليه سنة 2014، وفقا له، كما ذكر أنواعا أخرى من الكهوف منها الطبيعية، وأخرى تاريخية، أشهرها كهف الأروية، الدببة، والحمام.
لذلك قال شوقي، إنهم يطمحون لجعلها رائدة في المجال من خلال إعادة تهيئة أماكن كثيرة حتى يمارس الهواة رياضة التسلق بأريحية، وقد قاموا بفتح مسار جديد منذ أيام، قال إنه موثق وقد وضعوه تحت تصرف هواة التسلق في قسنطينة، محدثنا أكد أيضا على مساهمة الرياضات الجبلية في تنشيط السياحة خصوصا وأنه نشاط يلفت الانتباه، وقد نوه إلى ضرورة المحافظة على المناطق الطبيعية التي تُمارس فيها هذه الرياضة.
إ.ك