\
تحارب الزمن و تقلباته، لتبقى السند القوي للزوج و العائلة ، متحملة قسوة الطبيعة و المناخ و وحشة الظلام، لتوفير ظروف العيش الكريم، و المحافظة على موروثها الثقافي و هويتها، رغم تغير نمط الحياة.. هي المرأة الشاوية التي التقت بها النصر في قلب الأوراس و رافقتها في نشاطها اليومي وهي تخدم الأرض و ترعى قطيع الغنم ، فروت لنا تضحياتها التي تعكس صورة المرأة الشجاعة الصلبة التي لا يهزمها الزمن.
ربورتاج / أسماء بوقرن
سيدات الأوراس.. سمعتهن تتخطى الحدود الجغرافية، لاشتهارهن بقوة الشخصية و الجمال و الشجاعة في رفع السلاح ضد الاستعمار الفرنسي الذي جعلنه يخرج مستسلما من أعالي جبال الشاوية.. هي صفات لا تزال تتسم بها جل الشاويات اللائي التقت بهن النصر، بأعالي منطقة منعة، الواقعة على الحدود بين ولايتي باتنة و بسكرة، و عدد من الدوائر المجاورة لها، و أغلبهن تجاوزن نصف قرن من العمر.
المرأة الشاوية ..شخصية قوية و تفاني في العمل
سلكنا طريقنا نحو دائرة منعة التي تبعد عن وسط مدينة باتنة بنحو 90 كيلومترا، مرورا بعدد من الدوائر نذكر منها تازولت و واد طاقة و ثنية العابد و البلديات التابعة لها، و استغرقت الرحلة نحو ساعتين من الزمن، غير أننا لم نشعر بطول الوقت، فقد خطفت أنظارنا المناظر الخلابة و نظافة المسالك التي مررنا بها، وما أضفى على الطبيعة جمالا على جمال جموع النسوة اللائي وجدناهن بعد قطعنا لمسافات طويلة، يحملن على ظهورهن « شلامة»، و هي قطعة قماش مخصصة لحمل الأعشاب و العلف للماشية و كذا بعض اللوازم كالمنجل المستعمل في قطع الأعشاب، و وجبة الغداء ، و يسير أمامهن قطيع الماعز و الغنم.
خدمة الأرض متجذر ة في روح الأوراسيات
عند وصولنا إلى التجمعات السكانية، شاهدنا مجموعة من السيدات بصدد تنظيف باحات منازلهن بواسطة مكنسة تقليدية مصنوعة من جريد النخيل، و أخرى بأغصان شجرة العرعار، مشكلات صورة جميلة تدل على حرصهن على العيش في بيئة نظيفة، فلم نصادف أي كيس قمامة على الرصيف أو نفايات مبعثرة هنا و هناك، كما يحدث في مناطق عديدة.
ما أثار انتباهنا أيضا، أن أغلب قطعان الماعز و الغنم التي رأيناها، تقودها نسوة تتراوح أعمارهن بين 50 و 80 سنة، يحرصن على القيام بمهامهن و العودة لديارهن محملات بالعلف و بعض الخضر التي يقطفنها لتحضير وجبة الغداء أو العشاء، و قد بدت على ملامح أغلبهن عند حديثنا إليهن آثار التعب و الإرهاق ، كما ارتسمت التجاعيد على وجوههن المشرقة و أعينهن التي تدل نظراتها على قوة شخصيتهن و شجاعتهن.
العصا و الكبريت سلاحهن في الجبال
في طريقنا نحو أعالي منطقة منعة ،خطفت أنظارنا سيدة تقود قطيعا يضم عشرات رؤوس الغنم و الماعز ، و تتكئ على عصا تارة و تركض و راء القطيع تارة أخرى، كما تحمل على ظهرها « شلامة»، وفق تسميتها في المنطقة مملوءة بالأعشاب و العرعار و غيرها من بقايا الأشجار التي يتناولها الماعز، ما دفعنا للتوقف أمامها و و الحديث إليها.
رحبت بنا المرأة باللهجة الشاوية و قالت لنا بأنها لا تفهم اللغة العربية، غير أننا تمكننا من تبادل أطراف الحديث معها، بفضل مرافقنا نور الدين الذي ساعدنا في مهمتنا لأنه ينحدر من المنطقة و يتقن الشاوية.
اسمها خديجة صاولي ، 60 عاما، وجدناها ترعى الماشية، و هي منحنية الظهر و قد غطت مشاق الحياة جمال وجهها الأبيض و عينيها الخضراوين، قالت لنا عن خصوصيات المرأة الشاوية ، بأن أهم ما يميزها عن باقي نسوة جهات الوطن الأخرى، أنها تقتسم مع زوجها مسؤولية العائلة و مشاق الحياة، لكون تضاريس المنطقة صعبة و أرضها تنبت ثمارا موسمية، و تتطلب تضافر جهود الطرفين للحصول على القوت اليومي، مضيفة بأنها منذ أن كانت شابة، تساعد والدتها في رعي الأغنام و تنظيف البساتين، بالإضافة إلى غزل الصوف و صناعة الأواني الفخارية.
رعي الغنم و الماعز ..نشاط أغلب النساء
كلها أنشطة ورثتها المرأة الشاوية عن أمها و جدتها، و تحرص، على القيام بها، بالإضافة إلى أشغال البيت، بعد زواجها ، و أكدت ابنة الأوراس بأنها لا تزال تحافظ على قيمها و مبادئها و تراثها، كما أنها وفية لأرضها تسعى جاهدة لخدمتها، قائلة بأنها تستيقظ باكرا لإتمام مهامها، ثم ترعى القطيع الذي يتجاوز 40 رأسا، منذ سنوات عديدة ، كما تحرص على نظافة الإسطبل الذي يبيت به، و تتكفل بحلب الماعز، و يشكل الحليب و الزبدة و ما تستخلصه منها من سمن و أجبان تقليدية كالكليلة و غيرها، مصدر رزق للأسرة.
و تحرص السيدة خديجة على ارتداء ألبسة مصنوعة من الصوف لمجابهة البرد القارس في الشتاء، و تضع وشاحين على رأسها، فيما تحمل على ظهرها «شلامة» مملوءة بالأعشاب في الظاهر، غير أنها تحتوي على أغراض أخرى على غرار زاد يومها و هو عبارة عن قطعة من الكسرة و قارورة لبن» و حبات تمر ، بالإضافة إلى علبة كبريت تستعملها ، لإشعال النار في حال تشعر بالبرد.
الزرابي التقليدية.. حرفة تقاوم ..
محدثتنا أوضحت بأنها تمارس أيضا الحرف التقليدية، حيث تعشق حياكة الصوف و نسج الزرابي، التي تعتبرها موروثا ثقافيا يقاوم من أجل البقاء، في ظل ما تشهده صناعة الزرابي من تطور، مؤكدة بأنه و بالرغم من تخلي الجيل الصاعد عن هذه الحرفة ، إلا أنها لا تزال تقاوم لتظل زربية منطقة الأوراس صامدة.
بخصوص طريقة صنعها، قالت بأنها تغزل الصوف، و تحرص على شد خيوطها بدقة كبيرة، لإنجاز أشكال و رسومات تزينها و تتمثل أساسا في الأزهار و الحيوانات، مضيفة بأن هناك من تزين الزربية برموز أخرى مستوحاة من الأدوات التي تستعمل في حياتنا اليومية، و تحمل ألوانا و دلالات اجتماعية عميقة و أبعادا إنسانية معبرة ، تعكس تراث الجزائر الأمازيغي القديم.
و أشارت المتحدثة إلى أنها لم تعد تحيك الزرابي بنفس الوتيرة التي كانت عليها في الماضي، بسبب تقدمها في السن و عدم قدرتها على مزاولة مختلف الأنشطة، إلا أن هذا لم يمنعها من مواصلة الحياكة، و قطعت كلامها المشوّق إلينا لتركض وراء القطيع و راحت توجهه صوب طريقها ، مستعملة عصاها و مطلقة العنان لحنجرتها ، و رفضت العودة إلينا لمتابعة الحديث معنا.
فواصلنا طريقنا و كلنا عزم على معرفة المزيد عن المرأة الشاوية التي حققت عديد الانتصارات بفضل تحدياتها و شهامتها و استماتتها لتحقيق البطولات، كما فعلت الأختين سعدان و لبؤة الأوراس مسيكة زيزة و مريم بوعتورة ، و قابلنا في قلب الأوراس و جباله الشامخة، سيدات أخريات سردن حكاياتهن علينا ..
«الشلامة».. المرافق الدائم
مررنا بعديد البلديات، و لفتت انتباهنا مسنة بدت منحنية الظهر من ثقل حمولة الأعشاب التي تضعها على كتفيها، و كان يرافقها طفل صغير، لاحظنا أنها كانت ترتدي تنورة شتوية و سترة من الصوف، و وجهها محمرا و تجاعيد وجهها بارزة للعيان، ما جعلنا نوقف السيارة، و نسرع نحوها قبل أن تدخل إلى بيتها.
سألناها إذا كانت موافقة على الحديث إلينا، فرحبت بالأمر و عرفت بنفسها و ملامح الخجل تطبع محياها، قائلة بأنها تدعى ظريفة بوذة ، و ذكرت خصال سيدات الأوراس ، مؤكدة بأنها لا تزال متمسكة بطريقة عيش أسلافها، و تحرص دائما على تقاسم مسؤولية البيت و الأسرة مع زوجها، معتبرة المبدأ الأساسي الذي يجب أن يقوم عليه الزواج هو التعاون و مواجهة مشاق الحياة سويا، و لا ترى حرجا في رعي المرأة للغنم و تربية النحل و العمل في الفلاحة، رغم التطورات التي طرأت على نمط المعيشة في هذا العصر.
حرص الأوراسيات على خدمة الأرض، نابع من حبهن لوطنهن، قالت لنا السيدة حدة قالة التي التقينا بها رفقة والدتها العجوز ذات 90 عاما ، و هما تتعاونان من أجل خدمة أرض الآباء و الأجداد، التي لا تزال تنتج خضرا و فواكه، رغم وفاة الوالد و انتقال الأخ للعيش في العاصمة.
كانت السيدة حدة تنظف البستان من أوراق الشجر المتساقطة، بواسطة مكنسة مصنوعة من جريد النخيل، تعرف في المنطقة بـاسم « أيمصلح»، و قالت لنا بأن الأوراق تضر الزرع و تتسبب في انتشار الديدان عند تهاطل الأمطار ، مشيرة إلى أنها تحرص على جني محصول سليم و صحي، و قد اكتسبت خبرتها في مجال الزراعة من والدتها الطاعنة في السن التي ترافقها يوميا لخدمة الأرض .
و أضافت المتحدثة ، بأنها تغرس جل الفواكه التي تشتهر به المنطقة ، كالمشمش و التفاح، بالإضافة إلى الخضر بأنواعها، التي تشكل الغداء اليومي لعائلتها بعد قطفها . و أكدت لنا بأنها ستظل وفية لهذه الأرض الطيبة التي تعيش من خيراتها.
و لا يكاد يمر يوم دون أن تزور حدة بستانها، لتنظيفه و تخليصه من الأعشاب الضارة و سقيه، و تجمع نساء أخريات يشتغلن في هذا المجال، بقايا أوراق الأشجار و بعض أغصان الشجر و أوراق الشيح و العرعار، لإطعام الماعز.
وجدنا حدة تضع « الشلامة» أمامها، و بها دلو صغير به كمية من الزيتون قطفتها ، و كذا حذاء من البلاستيك، قالت بأنها تستعمله للعمل و منجل لقطع الأعشاب .
طاعنات في السن في ثوب شابات
المار بالجهة الجنوبية لولاية باتنة، يلمس تميز المرأة الشاوية و تفانيها في العمل، فبالرغم من تقدم جل من تحدثنا إليهن في السن ، إلا أنهن لا يزلن يشتغلن بنفس الوتيرة التي كن يتبعنها و هن في ريعان شبابهن.
من بينهن السيدة خديجة كالة التي قاربت 90 عاما، و لا تزال تبذل قصارى جهدها لضمان القوت اليومي لعائلتها، فبدت في صورة المرأة الشاوية الحرة القوية.
شاهدناها و هي قادمة من أعالي جبال منعة مرتدية تنورة من صوف و وضعت خمارا على رأسها لفته بوشاح سميك، وجهها مائل للاحمرار نتيجة تعرضها لأشعة الشمس مطولا، و تحمل على ظهرها كمية كبيرة جدا من الأعشاب و الخرشوف، ربطتها بحزام في صدرها ، و يصعب حتى على الرجال حملها، نظرا لثقلها. طلبنا منها أن تضع حمولتها على الأرض إلى غاية إنهاء حديثها إلينا، إلا أنها رفضت، مؤكدة بأنها متعودة على حملها و الوقوف لمدة طويلة عند الحديث مع جاراتها و قريباتها.
و بخصوص اللباس التقليدي للمرأة الشاوية الذي يعرف باسم «الملحفة» أو كما يسمى في منطقة منعة «اللحاف»، الذي كانت تحرص على ارتدائه في حياتها اليومية، قالت لنا المجاهدة مهنية قلوح ، ذات 83 عاما، بأنه يعتبر جزءا من هوية الأوراسيات، و لا يزلن يحافظن عليه عبر الأجيال، و يعتبر قطعة أساسية في جهاز العروس. و يتمثل، كما أوضحت ، في قطعة قماش كبيرة تسمى « الشليق»، كان في الماضي ينسج بخيط رفيع ، و تكون لها فتحتان في الجانبين، و يتم ربطه على الكتفين، و يرفق بحزام مصنوع من صوف و وشاح خفيف يغطي الشعر و يسمى بـ « الطاسة» ، حسبها .
و أضافت محدثتنا بأن الملحفة التي ترتديها الأوراسية في الأيام العادية تختلف عن تلك التي ترتديها في المناسبات و الأفراح، إذ تحمل اللون الأسود المفضل لديهن، و تغطي القوام و يتدلى جزء منها في الأسفل، ليغطي كافة جسد المرأة، و يرفق الزي التقليدي بحلي من الفضة.
و يتميز اللحاف الذي ترتديه المرأة في الأفراح بتنوع ألوانه و تزيينه بخطوط ملونة و نقوش تعبر عن أصالة الثقافة الأمازيغية ، و ترمز للحرية و نبذ القيود، مع استعمال حلي من الفضة منها الخلال، و هو إكسسوار يمسك به طرفا الملحفة بين الكتف و أعلى الصدر ، بالإضافة إلى الخلخال الذي يلبس في الرجل و يكون كبير الحجم، ليغطي كوع المرأة ، و كذا الجبين و الحزام و المقياس الذي يوضع في معصم المرأة، و المشرف في الأذن .
و اللافت أننا لم نصادف سيدات يرتدين الملحفة الشاوية، و هو ما أرجعته السيدة مهنية، إلى كون النسوة أصبحن يملن لارتداء ملابس عادية ، خاصة في فصل الشتاء، مشيرة إلى أن ذلك لا يدل على تراجع ارتداء الزي التقليدي ، حسبها، فالملحفة لا تزال رائجة في منطقة الأوراس، و تمكنت من تجاوز الحدود الجغرافية، و أعربت عن استحسانها لعصرنتها، لتجد مكانا لها وسط الجيل الجديد.
هكذا ساهمت «الشاويات» في طرد العدو من قلب الأوراس..
تعتبر الثورة الجزائرية المظفرة جزءا من ذاكرة الأورسيات ، لمساهمتهن في طرد العدو الغاشم من جبال الأوراس، رغم صعوبة تضاريسها ، فمن بينهن المجاهدة بمالها ونفسها و الفدائية والمسبلة والمناضلة التي قامت بواجبها بكل إخلاص، فحاربن العدو الفرنسي في الأرياف والجبال والمدن والقرى كجنديات في جيش التحرير، كما قالت المجاهدة وريدة نجاي ، مشيرة إلى أن المرأة الشاوية عالجت المرضى والجرحى من المجاهدين في المراكز الصحية، وتعرضن إلى السجن والاعتقال والتعذيب والتنكيل ، فكن نماذج لكل نساء العالم في التضحية و الفداء، أمثال مريم بوعتورة و الأختين سعدان و غيرهن كثيرات.
المجاهدة وريدة، ابنة منعة بباتنة ، روت للنصر بأنها كانت في ريعان شبابها خلال ثورة التحرير، و كانت تتحلى بالشجاعة و القوة ، و قدمت ما بوسعها لتنال الجزائر استقلالها ، قائلة بأنها عانت ويلات الحرب لتنعم الجزائر بالأمن السلام.
و تحدثت عن تلك الفترة بتأثر شديد ، مستذكرة حادثة فقدانها لابنتها الرضيعة التي داسها جندي فرنسي بحذائه على مستوى البطن، فلفظت أنفاسها الأخيرة و ألقى بها وسط الثلوج، و قد تجرعت حينها مرارة الأسى و الحزن لفقدان فلذة كبدها ، وسجنت بعد ذلك لمدة 7 أشهر في سجون المحتل، و ذاقت مرارة التعذيب الذي لا تزال آثاره بارزة بجسدها النحيل، إلا أن ذلك لم يثن من عزيمتها الثورية و ظلت صامدة في وجه آلة التعذيب ، مشيرة إلى أنها كانت تخيط ألبسة للمجاهدين و تحضر لهم المؤن و تنقلها إليهم لمسافات بعيدة في الظلام الدامس، متحدية صعوبة التضاريس و برودة الطقس ، كما عملت في نقل الرسائل بين المجاهدين.
و أكدت المجاهدة مهنية بأنها كانت تتحدى كل الصعاب و المخاطر من أجل تحرير الجزائر، فكانت تحارب إلى جانب زوجها حاملة السلاح في وجه العدو و قطعت عشرات الكيلومترات للوصول إلى مخابئ المجاهدين و تزويدهم بالأسلحة و الألبسة و الأدوية، كما كانت تتبع خطوات « الحركى» و ترمي برسائل تهديد تحت أبواب منازلهم، في محاولة لإعادتهم إلى صفوف النضال .
أ/ ب