غطى السماء دخان كثيف، و تفحمت بقرة وسط حقل أسود و بقيت أخرى جاثمة بلا حراك، و تكدست جثث الغنم فوق بعضها البعض وسط إسطبل منهار، و صرخ طفل من شدة الحرارة و الدخان، و هو بين حضني أمه الهاربة من الجحيم، و تهاوت أشجار الزيتون و الفلين العملاقة، و عم الخراب و السواد، و ذهل الرجال من هول الكارثة التي وصفوها بالفناء الذي حل بتلك الربوع الآمنة بمشاتي نشماية بقالمة، فقضى على مقومات الحياة فيها في غضون دقائق قليلة، مرت بسرعة كأنها حلم مفزع في ليل طويل.
قبل منتصف يوم الأربعاء 7 أوت 2019 اندلع حريق بمنطقة تقع على حدود ولايتي قالمة و عنابة، و اعتقد سكان مشاتي بلدية نشماية بقالمة بأن الخطر بعيد عنهم، و أن النار لا يمكن أن تقطع كل هذه المسافة الطويلة لتصل إليهم، معتقدين بأن فرق الإطفاء ستوقف الحريق و تخمده قبل أن يتوسع. كان الوقت قيلولة، و كان أغلب السكان في منازلهم، و قطعان المواشي في الإسطبلات مختبئة من الحرارة القوية التي تجاوزت 50 درجة تحت الشمس في هذا اليوم الحزين.
هبت رياح قوية من البحر القريب من المنطقة، و غيرت مسار الحريق و دفعته باتجاه الغابات و الأحراش و الحقول الزراعية، و المشاتي الواقعة غرب نشماية، و حجب الدخان ضوء الشمس، و بدأت نداءات الإغاثة تصل من سكان 7 مشاتي كانت في مرمى الحريق المدمر. نداءات عن طريق الهواتف الجوالة و موقع التواصل، كان الناس يطلبون الحماية المدينة و فرق الغابات، و صهاريج المياه، و يتحدثون عن رعاة محاصرين وسط الغابات و الاحراش مع قطعان الأغنام و الأبقار.
«هذه نكبة لن ننساها»
أعلنت حالة الطوارئ وتحركت فرق الحماية المدنية نحو مشاتي نشماية لصد الحريق، لكن الوضع كان خطيرا وتحولت جهود الإطفاء إلى إجلاء السكان وإخراجهم بسرعة من دائرة النيران، التي ظلت تتوسع بسرعة كبيرة حتى أصبحت على مشارف مدن قالمة، هليوبوليس، الفجوج، قلعة بوصبع و بوعاتي محمود.
يقول العيد عشاشرة من مشته قابل الكاف الواقعة غرب نشماية “في حدود منتصف النهار رأينا النار و الدخان من مسافة بعيدة، لم نكن ندرك بأن الخطر قادم، كان الدخان يقترب و يغطي سماء المنطقة و يحجب الرؤية، كانت تلك السحب السوداء تسبق النار التي كانت تتقدم خلفها بسرعة، بدأت الحرارة ترتفع و بعد دقائق قليلة وصل الحريق إلينا وحاصرنا من كل الجهات، و لم يبق أمامنا إلا إخراج النساء و الأطفال و الشيوخ من المنازل بسرعة، و الهروب إلى مناطق آمنة”.
و يردف العيد قائلا “تركنا كل شيء و هربنا، عندي 3 إسطبلات لتربية الدجاج أصبحت أثرا بعد عين، انهارت تماما كما ترون، مشتة قابل الكاف أصبحت منكوبة، لم يعد الناس يملكون شيئا، لم نكن نتوقع هذا عندما نهضنا في الصباح و ذهبنا إلى أعمالنا في الحقول الزراعية و المراعي و الإسطبلات المنتشرة بكثرة في المنطقة، و هي مصدر معيشة أغلب السكان. لقد فقدنا كل شيء، هذه نكبة لن ننساها.. ربما نحتاج إلى صبر قوي لتجاوز آثار هذه الكارثة، أتحدث عن الآثار النفسية و الصدمات فهي الأخطر، كل الناس هنا فقراء و من الصعب أن يعيدوا بناء حياتهم من جديد”.
من هنا مرّ الدمار!
كانت الحرارة قوية و الرؤية صعبة والدخان يحبس الأنفاس عندما كنا نتحرك على الطريق الوطني 21 الرابط بين قالمة و عنابة متجهين إلى المشاتي المشتعلة بنشماية، كانت النار المتأججة تحاصر مساكن قرب غابة مطلة على مدينة قلعة بوصبع، اعتقدنا أنه حريق جديد اندلع هناك في يوم اشتعلت فيه غابات و أحراش قالمة من هوارة و نشماية إلى ماونة و دباغ و عين مخلوف، و لم نكن نعلم بأن هذا الحريق الذي يمكن رؤيته من مدن قالمة، هليوبوليس، الفجوج و قلعة بوصبع، هو الذي بدأ صغيرا قرب العلمة بولاية عنابة و اجتاح مشاتي نشماية و هو الآن على مشارف مدن و قرى أخرى بعيدة.
عندما وصلنا إلى منطقة الفج، و هي أعلى قمة على الطريق الوطني 21 بدأت المشاتي المنكوبة تتراءى لنا من بعيد، و الدخان يتصاعد منها، لقد مر الدمار من هناك و أحرق كل شيء.
دخلنا إلى مدينة نشماية و سألنا عن الطريق المؤدي إلى مشته قابل الكاف، و عبر مسلك ترابي انحرفنا باتجاه طريق بلدي معبد يعد شريان الحياة بالنسبة لسكان المشاتي الواقعة غرب نشماية.
كلما اقتربنا تبدأ معالم الكارثة تتضح أكثر. مساحات واسعة من حقول الحصيدة احترقت، و قطعان مواشي متجمعة وسط حقول الطماطم الصناعية التي انتهت بها عملية الجني منذ أيام قليلة، هذا ما تبقى من مراعي و البقية سواد على مد البصر، كانت السيارات و الشاحنات و الجرارات الفلاحية المجهزة بصهاريج المياه في حركة دؤوبة على الطريق الذي يخترق الإقليم الريفي الأسود، كانت النار مشتعلة بجذوع أشجار زيتون منهارة و أخرى مازالت لم تتهاو بعد، كان يمكن إنقاذ بعض أشجار الزيتون لكن كل الناس و فرق الإطفاء تعمل على إنقاذ الأرواح البشرية المحاصرة هناك، و ما يمكن من المواشي و المنازل، لم يعد أحد يهتم بشجرة الزيتون و حقل الحصيدة و حتى مستودع الدجاج.
كان جمال الدين البالغ من العمر 30 سنة أمامنا يقود دراجة نارية على الطريق المؤدي إلى مشتة قابل الكاف، قبل أن يتوقف عندما نزلنا من السيارة لتصوير مشهد أشجار الزيتون و هي تحترق و تتهاوى أرضا، عرض علينا المساعدة و قال لنا بأنه شارك في جهود إنقاذ سكان المشتة و ممتلكاتهم منذ بداية الحريق.
“إنها كارثة، سترون بأنفسكم، أبقارا و أغناما متفحمة، مستودعات و منازل منهارة، لم نتمكن من إطفاء النار بسبب الحرارة و الرياح القوية، مشته قابل الكاف انتهت، كنا نسابق النار و الزمن لإنقاذ مشاتي أخرى، لكننا واجهنا وضعا صعبا، و رغم هذا استطعنا حماية مستودع للدجاج مغطى بالبلاستيك، هذا كل ما استطعنا فعله، الناس هنا فقراء و أصبحوا بلا ممتلكات”، هذا ما قاله جمال الدين بتأثر كبير و هو يعاني من الإجهاد و الفحم الأسود يغطي وجهه.
وصلنا إلى قلب مشتة قابل الكاف المنكوبة، كانت المداجن منهارة و مازال الدخان ينبعث منها، و النار مشتعلة بأكوام الأعلاف و حزم التبن، و عجلات بعض المركبات القديمة التي احترقت داخل حظيرة صغيرة وسط المشتة.
جثث أغنام متناثرة
تجمع حولنا السكان و طلبوا منا نقل صور و مشاهد الدمار الذي حل بهم و قلب حياتهم رأسا على عقب، هذا منزل صغير هوى أرضا و تحولت خزانة الملابس و التلفاز و المكيف و الثلاجة إلى رماد، و هناك عتاد فلاحي ثمين أحرقته النار المتأججة، و هنا قرب مستودع أسود منهار تتناثر جثث الأغنام و الأبقار المتفحمة في مشهد محزن و مثير، و كأن المشته الصغيرة قد تعرضت لقصف عنيف بقنابل دمار حارقة، حتى أشجار التين الشوكي المقاومة للحريق تهاوت، و أسوار الحجارة المحيطة بالبساتين تفحمت و تحولت إلى قطع سوداء من شدة الحرارة الناجمة عن الحريق.
كانت جثث الأبقار و الأغنام المحترقة تنتفخ بسرعة و تلقي بأحشائها وسط ركام أسود، منذرة بكارثة وبائية إذا بقيت هنا لمدة طويلة، و وسط الرماد الأسود كانت هناك بقرة حية جاثمة على قدميها بلا حراك، و عليها آثار الحريق، كانت تنظر إلى الناس من حولها لكنها لا تقوى على الوقوف، ربما ستموت بعد قليل ، تاركة وراءها الخراب و الدمار و بشرا بلا ضمير و بلا إنسانية.
و تعد عائلة حمودة الأكثر تضررا من الحريق الذي دمر مشته قابل الكاف حيث أصيب عدة أفراد منها بحروق، منهم عبد الله الذي يرقد بالمستشفى في وضعية صعبة.
يقول حمودة عبد المجيد “لقد احترق منزلي بكل محتوياته، أطفالي أصيبوا أيضا منهم رضيع، لم نعد نملك شيئا، حتى الثياب التي نلبسها احترقت، لم يعد لنا منزل ننام فيه، لست أدري ماذا أفعل و إلى أين اذهب أنا و عائلتي”.
و فقد هشام حمودة كمية كبيرة من القمح و الشعير و عتادا فلاحيا ثمينا و مستودعا، و بدا في غاية الحزن و التأثر و هو يتفقد بقرة محترقة مازالت تقاوم داخل الإسطبل المتفحم.
جرحى و صدمات نفسية عنيفة، رؤوس مواشي متفحمة، منازل و إسطبلات منهارة، دراجات نارية و سيارات قديمة و عتاد فلاحي و مؤن التهمتها النيران، خلايا نحل و أشجار تين شوكي و زيتون أصبحت أثرا بعد عين، و أعداد كبيرة من الدجاج و مراعي و غابات واسعة، و أحراش و ممتلكات أخرى كانت من مخلفات الحريق الكبير.
إنقاذ 8 أشخاص حاصرتهم النيران
و قالت الحماية المدنية إن الحريق شمل عدة مشاتي بينها قابل الكاف، أولاد شيحة، وادي المنجل، فج الشعير، المنشورة، السبع، و الفرن ببلديات نشماية، قلعة بوصبع و هليوبوليس.
و أضافت بأن رجلا يبلغ من العمر 81 سنة قد أصيب بحروق، و أن فرق التدخل أنقذت 8 أشخاص حاصرتهم النيران داخل منزلين، مؤكدة بأن الخسائر المادية كانت ثقيلة حيث دمرت منازل و مستودعات و أكواخ و أكثر من 2800 شجرة زيتون و الآلاف من الدجاج و المئات من خلايا النحل و مساحات كبيرة من الأدغال و الأحراش.
و قد تدخلت الفرق المتخصصة يوم الخميس الماضي لتطهير المنطقة من جثث الأبقار و الأغنام تفاديا لانتشار الأمراض وسط السكان، في ظل حرارة قوية تجتاح المنطقة هذه الأيام، في حين تقوم هيئات أخرى بجرد الخسائر و تقديم المساعدات للسكان المتضررين في واحد من أسوأ الحرائق، و أكثرها تدميرا بولاية قالمة منذ عقود.
ف.غ