كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال و هو موعد التحاق المرضى الصغار بمصلحة طب الأطفال بالمستشفى الجامعي ابن باديس بقسنطينة بقاعة التعليم، و هناك يقضي البراعم سويعات في التعلم و المراجعة تحت إشراف معلمتهم، وكلهم عزم على مواصلة مشوارهم التعليمي و قهر المرض الذي يثقل أجسامهم الصغيرة، فتلك القاعة داخل المستشفى تشكل فسحة أمل و إرادة للتغلب على مشاكلهم الصحية ، بعيدا عن أسرة المرض و وخز الحقن و العلاج الكيميائي.
براءة تتحدى المرض في سبيل العلم
أول ما لفت انتباهنا خلال وصولنا إلى مصلحة طب الأطفال، و قبل انطلاق الدراسة بقاعة التعليم و التسلية ، كما يطلق عليها، هو لهفة المرضى الصغار على مواصلة مسارهم التعليمي.
شرعت الأستاذة نسيمة درويش في جولة عبر مختلف قاعات مصلحة طب الأطفال ، لتفقد الحالة الصحية للصغار، و جمع تلاميذها بالاستناد إلى حالتهم الصحية التي تتغير من يوم لآخر، فمنهم من يمنعه المرض من مغادرة سريره و منهم من يسير بخطى متثاقلة نحو القسم و قد رسم الابتسامة على محياه، قبل الجلوس على مقعده ليباشر الدرس.
و كانت الحصيلة سبعة تلاميذ يدرسون بالطورين الابتدائي و المتوسط، التحقوا بالقسم ، فقضوا ثلاث ساعات بين حل التمارين و المطالعة و الرسم و كانت كافية لمنحهم جرعة إضافية من الإرادة لمواصلة مسار العلاج و التعلم معا.
الأستاذة نسيمة درويش
تعلمت حب الحياة من الأطفال المرضى
بابتسامة لا تفارق وجهها، كانت الأستاذة نسيمة درويش تتنقل بين قاعات العلاج لتجمع أطفالها المتمدرسين و تباشر تعليمهم، وفق برنامج يومي ينطلق من الثالثة بعد الزوال إلى غاية السادسة و النصف مساء، حيث تقوم خلال هذه الفترة بإعداد دروس، حسب المقررات الدراسية لوزارة التربية، و تماشيا مع الفئات العمرية و مستويات التلاميذ في الطورين الابتدائي و المتوسط.
و قالت نسيمة في حديثها للنصر، أنها تتبع المناهج الرسمية و تكيفها مع الأطفال المتواجدين بالمصلحة، مع التركيز على المواد الأساسية كالرياضيات، اللغة العربية و غيرها، و غالبا ما تقدم دروسا مشتركة لتلاميذ السنوات المتقاربة، كالسنة الأولى و الثانية ابتدائي، و كذا تلاميذ الثالثة و الرابعة ابتدائي و هكذا..و مع بداية الدخول المدرسي الجديد، فقد اكتفت بمراجعة الدروس.
و عن مدى استعداد الأطفال المرضى للدراسة و المراجعة، قالت الأستاذة نسيمة أن هذه الشريحة لديها رغبة كبيرة في الدراسة و هو ما لمسته خلال تجربتها بالمصلحة لمدة ثلاث سنوات متتالية، بعد مسار 24 سنة في تدريس الأطفال الأصحاء، مؤكدة أنها تعلمت الكثير خلال تعليم المرضى ، خاصة حب الحياة و التمسك بالأمل ، مضيفة أن الأطفال و رغم مرضهم و معاناتهم، فهم يواظبون على دروسهم، إلا في حال تدهور حالتهم الصحية، خاصة بالنسبة لمرضى السرطان و بعض الحالات المتقدمة من المرض.
الفترة الصباحية للتسلية و المسائية للدروس
إدارة المصلحة قسمت برنامج الأطفال داخل هذه القاعة بين التسلية في الفترة الصباحية و التدريس في الفترة المسائية، و قالت المعلمة نسيمة درويش أن هذا التقسيم يأتي من منطلق أن الصغار يخضعون للكشف و التحاليل و العلاج بالفترة الصباحية، كما يمكنهم زيارة القسم من أجل التسلية و الترفيه، خاصة و أنها مجهزة ببعض الألعاب الالكترونية و ألعاب أخرى من البلياردو إلى تنس الطاولة و غيرها ، فيما تخصص الفترة المسائية للدروس، بعد موعد الزيارات العائلية عند الثالثة مساء. و يكون التحاق الطفل بالقسم بعد استشارة الطبيب المتابع لحالته الصحية، لأنه المؤهل لتحديد مدى قدرته على الدراسة ذلك اليوم، فالحضور عموما غير إجباري ، كما يمكن للطفل مغادرة القسم في أيه لحظة، لتناول الدواء أو للاستراحة، إذا أحس بالتعب.
تكاثف الجهود يثمر قسم التسلية و التعليم
يعتمد قسم التسلية و التعليم بمصلحة طب الأطفال بالمستشفى الجامعي ابن باديس على إعانات الجمعيات الخيرية لتأثيثه و تجهيزه بمختلف الألعاب و الطاولات و الكراسي، فيما تكفلت إدارة المصلحة بطلائه و تزيينه برسومات و جداريات، لإضفاء أجواء من الراحة و البهجة عليه.
من جهتها تقوم الأستاذة نسيمة درويش، و إدارة المؤسسة التعليمية جمعوي صالح التي كانت تدرس بها و تم تحويلها منها نحو المستشفى، بشراء الكراريس و الأقلام و كل ما يحتاجه الأطفال من أجل الدراسة و التسلية خلال الحصص المخصصة للرسم و التلوين، كل الجهود أثمرت عن هذا الفضاء التعليمي و الترفيهي الذي يفتح أبوابه للأطفال المرضى طوال السنة.
الطفل محمد علي يتفنن في الرياضيات و الحساب الذهني
خلال تواجد النصر في القسم ، خصصت المعلمة الحصة الأولى للرياضيات و المراجعة العامة، فلفت انتباهنا الطفل محمد علي، 9 سنوات، من قالمة، الذي يتمتع بقدرة كبيرة على حل العمليات الحسابية، و لا يستغرق سوى بضع ثواني لإيجاد النتائج النهائية لعمليات الضرب و الجمع و كذا الطرح، كما أنه يبادر بالصعود إلى السبورة لكتابة الحلول التي عجز عنها بعض رفاقه الأكبر سنا منه، و أخبرنا أنه يحب الرياضيات كثيرا، و دائما يحصل على نتائج جيدة خلال الاختبارات، كما أنه يقضي وقت فراغه في حل المسائل الرياضية .
أطفال يستعملون القلم و الورق لأول مرة بالمستشفى
لا يقتصر التعليم على المتمدرسين في الطورين الابتدائي و المتوسط، فالمكان يستقبل أيضا الأطفال المرضى الذين لم يبلغوا بعد سن الدراسة، و هناك من يكتشف الورق و القلم لأول مرة بهذا القسم الذي يخصص بعض الطاولات لأطفال التحضيري، على غرار الطفلة مريم من ولاية ميلة، التي كانت أولى القادمين إلى حجرة الدرس. وجدناها جالسة قبالة طاولة بلاستيكية مزينة بالألوان و طلبت من معلمتها أوراقا و قلما لتتعلم الرسم و التلوين و الكتابة و كلها سعادة بهذه التجربة ، بعدما حرمها المرض من الالتحاق بالمدرسة لأول مرة،و هو حال الكثيرين، حسب المدرسة نسيمة درويش، التي أكدت أن هناك الكثير من الصغار عاشوا أول تجربة دراسة داخل جدران المستشفى .
مرضى السرطان الصغار الأكثر تشبثا بالحياة
القسم متنفس حقيقي للكثير من الأطفال، و تحديدا مرضى السرطان الذين غالبا ما يمنعهم المرض من الالتحاق بمقاعده، خاصة في فترات العلاج الكيميائي ، رغم هذا فهم يبذلون قصارى جهدهم لعدم الانقطاع عنه، و خلال هذا الروبرتاج لم يتسنى لنا الالتقاء بهم، لأن أغلبهم خضعوا في الصباح للعلاج الكيميائي الذي يتطلب الكثير من الراحة، لكن المدرسة نسيمة درويش تحدثت عنهم و الدموع تملأ عينيها، مؤكدة أن هؤلاء الصغار هم الأكثر تمسكا بالحياة و بالدراسة ، و غالبا ما تتعالى ضحكاتهم داخل القسم، و حماسهم كبير للتعلم و الحصول على أكبر قدر من المعارف ، غير أن المرض ، كثيرا ما ينهك أجسامهم الصغيرة ، و ذكرت المتحدثة أنها قضت يوما مميزا مع تلاميذها في العام الدراسي الفارط ،و كانت من بينهم طفلة صغيرة مصابة بالسرطان، تفاجأت في اليوم الموالي بفاجعة وفاتها ، و هي التي أحبت الدراسة كثيرا و كانت بين تلاميذها المميزين.
عرجنا خلال هذه الزيارة إلى بعض غرف المرضى الصغار من أجل الالتقاء بمرافقيهم و أغلبهم أمهاتهم، فعبرن عن رضاهن في ما يتعلق بتخصيص قسم لتدريس أطفالهن، بغض النظر عن استمرارهم في الدراسة خلال فترة مكوثهم بالمصلحة.
إن القسم بصيص أمل حقيقي، و ملاذ لهؤلاء الأطفال الذين حرموا من اللعب و الالتحاق بالمدارس كأقرانهم، و غالبا ما ينتظرون بفارغ الصبر وصول موعد الالتحاق بقاعة الدراسة بالمصلحة ، فيسرعون لاستقبال معلمتهم و حجز مقعد داخل القسم.
هيبة عزيون