السعيد بومعراف.. ثانوية ريفية تقلب موازين التفوق بقسنطينة
استطاعت ثانوية الشهيد السعيد بومعراف المختلطة ببلدية بني حميدان، الكائنة على بعد 27 كلم من وسط مدينة قسنطينة، أن تكسر الصورة النمطية لثانويات المناطق المعزولة التي عادة ما تأتي في آخر الترتيب، بسبب الظروف الصعبة التي يواجهها التلاميذ الذين يقطن أغلبهم بقرى و مشاتي بعيدة عنها.
و قد خاضت ثانوية الشهيد السعيد بومعراف غمار المنافسة مع مؤسسة عريقة بقلب مدينة قسنطينة في نتائج البكالوريا، و تمكنت هذا الموسم، رغم جائحة كورونا و تبعاتها، من احتلال المرتبة الثالثة ولائيا، محققة نجاحا بنكهة خاصة، بفضل تغلب تلاميذها على الظروف القاهرة، و كذا بفضل ما بذله طاقمها التربوي و الإداري من جهود جبارة لرفع مستوى التلاميذ و تعزيز ثقتهم بأنفسهم.
ربورتاج / أسماء بوقرن
مؤسسة حديثة التأسيس في منطقة نائية تنافس أعرق الثانويات
تعد بلدية بني حميدان من البلديات الفقيرة بولاية قسنطينة، و تصنف قُراها كمناطق ظل، تسعى الدولة في ظل سياستها الجديدة، لرفع الغبن عن سكانها و توفير العيش الكريم لهم، إذ يعاني الكثير منهم من الفقر و ظروف اجتماعية قاهرة، خاصة قاطني المشاتي و القرى الموزعة عبر مسافات بعيدة، و التي يضطر أبناؤها لقطع مسافات طويلة، مشيا على الأقدام، من أجل الوصول إلى موقف حافلات النقل المدرسي، لنقلهم إلى الثانوية التي تم تدشينها سنة 2009 الكائنة وسط بلدية بني حميدان، منهم من خطفته يد المنية قبل أن يتذوق طعم النجاح و منهم من حرم من الدراسة، بالرغم من حصوله على معدلات جيدة.
هذه المعاناة شكلت حافزا قويا عند الأجيال الجديدة و زادتهم إصرارا و عزيمة على تحقيق التفوق، و تأكيد أن أبناء المناطق النائية مجتهدون و قادرون على تحقيق التميز، بالرغم من الحرمان و سياسة التهميش و الإقصاء التي طالما تعرضوا لها، و لم يكتفوا بحصد النجاح و الانتقال، و إنما رفعوا التحدي، لتعتلي ثانويتهم الصدارة، و تنافس أنجح و أعرق ثانوية بوسط المدينة، و ذلك طيلة خمس سنوات.
آباء يحملون أولادهم على أكتافهم في الشتاء
النصر زارت ثانوية الشهيد السعيد بومعراف، لنقل على لسان تلاميذها و تلميذاتها و عمالها أسرار تميزها و نيلها شهرة كبيرة تعدت حدود الولاية، فأكدوا لنا بأن الالتحاق اليومي بالثانوية، تحدي، و مغامرة، خاصة بالنسبة للفتيات، و يستيقظ التلاميذ و التلميذات في آذان الفجر، ليحضروا أنفسهم و يتناولون وجبة الإفطار، ثم يغادرون البيت في الظلام الدامس، ما يبث الخوف و الذعر في نفوسهم، خاصة في فصل الشتاء، حيث يضطر الأولياء إلى حملهم على الأكتاف إلى غاية الوصول إلى الطريق، لأن المنحدرات التي يسلكونها وعرة، كما يخافون على فلذات أكبادهم من الكلاب الضالة، و حيوانات أخرى قد تكون مفترسة، لأن تلك المناطق غابية، خاصة القاطنين منهم بمشتة المارة و الحمري و بمشاتي مجاورة لجبل سيدي إدريس، الذين يقطعون عشرات الكيلومترات يوميا.
rمدير الثانوية وليد لقرين
تلاميذ يشتغلون في الفلاحة بعد الدوام و تلميذات ممتازات توقفن عن الدراسة
أكد مدير ثانوية الشهيد السعيد بومعراف، التي احتلت المرتبة الثالثة في نتائج البكالوريا بولاية قسنطينة، بنسبة 67.05 بالمئة، بأن الإشراف على تسيير مؤسسة تربوية في منطقة نائية، ليس بالأمر السهل، موضحا بأنه و قبل مباشرة مهامه، حاول أن يدرس طبيعة المنطقة و ظروف معيشة سكانها، فوقف على واقع مؤلم و صُدم بالظروف الاجتماعية القاهرة لعديد التلاميذ.
و أوضح الأستاذ وليد لقرين، الذي تولى مسؤولية إدارة المؤسسة، ابتداء من الموسم الدراسي 2014، 2015، أنه اكتشف أن الكثير من تلاميذ الثانوية يضطرون للعمل في الفلاحة بعد الدوام، من أجل الحصول على دخل مادي.
و أضاف أنه قرر مساعدة هؤلاء التلاميذ، خاصة بعد أن لمس فيهم حسن الأخلاق و احترامهم و تقديرهم لأساتذتهم و كل العاملين في المؤسسة، خلافا لما هو رائج في عديد المؤسسات التعليمية، كما لمس طيبة بقية أبناء المنطقة، و كلها عوامل بعثت فيه روح التحدي، لكي تحصل الثانوية على مكانة رفيعة، و تحفيز تلاميذها على الدراسة و الاجتهاد، و تخليصهم من الشعور بالتهميش و الحقرة و اهتزاز ثقتهم في أنفسهم و قدراتهم.
المدير وضع مشروعا في بداية مهامه، أطلق عليه « ترقية الحياة المدرسية و تحسين النتائج»، و ذلك بعد أن قام بتشخيص دقيق للوضعية العامة للتلاميذ الذين رصد نقاط ضعف لديهم، حصرها في تدني المستوى في اللغات الأجنبية، الشعور بالنقص و التهميش، و غياب الثقة بالنفس.
في المقابل لمس لديهم الرغبة في الدراسة و النجاح، لتحسين وضعهم الاجتماعي، معتبرا ذلك سلاحا قويا لرفع التحدي.
و أضاف أنه لم يكتف بدراسة الوضعية البيداغوجية، بل حاول رصد ظروف التلاميذ الاجتماعية، و فضل زيارة عائلات عدد منهم، فوقف على حالات اجتماعية مزرية ، استدعت برمجة عمليات تضامنية شارك فيها الأساتذة و الطاقم البيداغوجي و حتى متطوعين من خارج الثانوية، لتقديم يد العون و توفير بعض اللوازم و حتى تهيئة أحد المنازل الذي لم تكن توجد به نوافذ تقي سكانه من البرد و الصقيع، معتبرا التكفل بالجانب الاجتماعي للتلاميذ، مسؤولية في حد ذاتها، تضاف إلى المسؤولية التربوية، كما رفع مع الأساتذة تحديا لضمان تحصيل علمي جيد لهم و بذل كل ما بوسعهم لجعلهم يستوعبون الدروس و يحسنون مستواهم.
و أرجع ذات المسؤول سر تميز المؤسسة، إلى تظافر جهود كل العاملين بها دون استثناء، حيث ساهموا في تجسيد كل الأهداف التي تم تسطيرها في المشروع الذي أعد منذ نحو 5 سنوات، و تتمثل في فرض الانضباط و الصرامة، وتجنيد الطاقم التربوي و الإداري لتطبيقهما فكان على قدر المسؤولية، تقديم دروس الدعم للتلاميذ يومي الجمعة و السبت، تفعيل نشاط المكتبة و إثرائها بكتب تعليمية و تثقيفية، تهيئة المحيط و إعطاء وجه جديد لحديقة المؤسسة من قبل الأستاذ عزوز مزداد الذي خصص 13 مليون سنتيم، من إمكاناته الخاصة لتهيئتها.
كما يحرص على وضع برنامج لاستضافة أساتذة لهم ثقلهم العلمي و المعرفي من أجل تقديم محاضرات بالثانوية، و من بينهم الأستاذ الباحث علاوة عمارة، الذي يعد من أبناء المنطقة الذين تحدوا الظروف و حققوا نجاحا باهرا ، كما أنه يعتبر قدوة يحتذي بها التلاميذ، مشيرا إلى أن المحاضرات تشمل عدة تخصصات كالتاريخ و الصحة و الدين و غيرها، من أجل توسيع الآفاق العلمية للمتمدرسين و تعزيز ثقتهم بأنفسهم.
و أضاف بأنه يحرص خلال كل فصل، على عرض نتائج كل قسم أمام التلاميذ ، و إبراز نقاط الضعف و الحث على تداركها في الفصل الموالي، مع تقديم دعم نفسي لهم، فيما تم فتح صفحة فايسبوك للتواصل معهم، و نشر إعلانات، و كذا تقديم تمارين و حوليات و الإجابة عن استفسارات التلاميذ.
و أشار المسؤول في ختام حديثه، إلى أن ثانوية الشهيد السعيد بومعراف، تنافس منذ سنة 2015، ثانوية الحرية على المرتبة الأولى، فحازت سنتي 2015 و 2017 على المرتبة الثانية، و افتكت المرتبة الأولى سنة 2018، بنسبة 82.27 بالمئة، فيما نالت نوال زحاف، و هي تلميذة في ذات الثانوية، في سنة 2019 المرتبة الأولى ولائيا بمعدل 17.95 من 20 .
«مواهب تجد فضاءات لاحتضانها»
قال أستاذ التربية البدنية هشام زعطوط للنصر، بأنه يقطن بوسط مدينة قسنطينة، غير أنه فضل التدريس بثانوية بني حميدان، بعد أن وجد نفسه مرتاحا في العمل مع طاقمها و بالأخص تلاميذها، الذين يكنون كل الاحترام للأستاذ، و قد أرجع سر التفوق بهذه ثانوية للانضباط و الاجتهاد و تمتع التلاميذ بإرادة قوية كما أنهم يملكون مؤهلات و مواهب، غير أنها مكبوتة، نظرا لافتقار البلدية لفضاءات رياضية و ثقافية تحتضنهم، مشيرا إلى أنه لطالما سعى إلى توجيههم نحو جمعيات بوسط المدينة، غير أن مشكلة النقل و الظروف الصعبة، منعته.
«متفوقات تم توقيفهن إجباريا عن الدراسة»
من جهتها قالت الأستاذة، فتيحة بن ناصر، بأن مسار تلاميذ ثانوية بني حميدان التعليمي مليء بالمطبات، فإلى جانب الفقر و إقامة الكثير منهم في قرى نائية و منعزلة، يواجه تلاميذها و بالأخص التلميذات، مشكل التوقف الاضطراري عن الدراسة.
و أضافت أنها وقفت على حالات لآباء أرغموا بناتهم عن الدراسة في السنة الثانية أو الثالثة ثانوي، بالرغم من حصولهن على معدلات ممتازة، و ذلك لتزويجهن أو إجبارهن على البقاء في البيت.
وفاة تلميذة تكشف عن الوجه الخفي للفقر
مستشارة التربية عائشة شروانة، ذكرت قصة مؤلمة لا تزال عالقة في ذهنها، و لم تستطع نسيانها، تتمثل في وفاة تلميذة، تقطن في قرية جنان الباز التي تبعد عن الثانوية بنحو 30 كلم ، و ذلك قبل أن تفرح بنجاحها في البكالوريا.
و أضافت المتحدثة أن الفقيدة وافتها المنية بعد عودتها إلى البيت، لأسباب لا تعرفها، و ما حز في نفسها و آلمها الظروف المعيشية التي وقفت عليها، بعد تنقلها مع الطاقم التربوي لأداء واجب العزاء، حيث صدمت بالتضاريس الصعبة للمنطقة، مما اضطر المعزون إلى المشي على الأقدام، إلى غاية بيت التلميذة المتوفية، كما أن البيت يفتقر لأدنى شروط العيش الكريم ، و لا توجد به حتى النوافذ التي تقي سكانه من البرد، فشعرت الأستاذة بالندم لأنها كانت تستدعي والد الراحلة إلى الثانوية.
فيما أكد الناظر عبد الحميد شروانة أن ظروف العمل في الثانوية، أهم عنصر لتحقيق التميز، حيث يعمل كل أعضاء الطاقم التربوي و الإداري كخلية نحل، كل يقوم بمهامه على أكمل وجه، و يتطوعون أحيانا لتقديم يد المساعدة مجانا لمن يحتاج إليها، سواء الأساتذة أو العمال أو المساعدين التربويين.
تلميذات يكشفن سر تفوقهن
تحدثت التلميذة هالة خميسي، القاطنة بمنطقة الشعايبية، البعيدة جدا عن الثانوية، عن معاناتها اليومية للالتحاق بالثانوية، حيث تستيقظ في آذان الفجر، لتلتحق بحافلة النقل المدرسي، مؤكدة بأن الظروف قاسية جدا حتى أنها تجعلها أحيانا تشعر بالفشل و الإحباط، غير أنها سرعان ما تتحلى بالعزيمة القوية لتحقيق النجاح و التفوق، و لم تمنعها الظروف من الحصول على المرتبة الأولى بمعدل 18 من 20.
و قالت التلميذة أحلام عبيد الشارف، تلميذة في السنة الثالثة شعبة آداب و فلسفة، تقطن بشعبة المذبوح، أنها تحولت من ثانوية الجلولية إلى ثانوية بني حميدان، نظرا لسمعتها و نتائجها الجيدة، مؤكدة بأنها تتحمل مشاق النقل من أجل التحصيل العلمي الممتاز، حيث تمكنت من الحصول على معدل 17 من 20، مرجعة سر التفوق إلى توفر أجواء مريحة تساعد على الدراسة، إلى جانب دعم الأساتذة و معاملتهم الجيدة للتلاميذ.
و أكدت زميلتها أماني شروانة، الحاصلة على معدل 16 من 20 ، أن الاجتهاد و المثابرة سر تفوق تلميذات الثانوية، و قالت التلميذة فاتن بريغت، الحاصلة على معدل 16 من 20، و القاطنة بمنطقة حويمة، بأن الإرادة و الانضباط عاملان أساسيان ، للفوز بمرتبة مشرفة.
أ ب