انتشرت بشكل لافت في السنوات الأخيرة ، خدمات النقل و التوصيل المجاني للجنائز، و أصبحت تستقطب أعدادا معتبرة من المتطوعين، في إطار جمعيات خيرية توفر سيارات مجهزة لنقل الجثامين إلى أبعد نقطة في التراب الوطني، و أحيانا أخرى إلى البلد المجاور تونس، إلى جانب تكفل المتطوعين من الرجال و النساء، بغسل و تكفين الراحلين و الراحلات، و حتى في أوج جائحة كورونا و ارتفاع أعداد الضحايا، واصل المتطوعون رسالتهم التضامنية النبيلة، رغم المخاطر و الظروف الصعبة، ما جعل بعضهم يصابون بالفيروس المستجد.
النصر التقت بعينة من هؤلاء المتطوعين الذين تحدثوا عن تجاربهم و كيف يقضون يومياتهم في انتظار مكالمة هاتفية من إحدى العائلات، لنقل جثمان أحد أفرادها، من أي مكان في بلادنا الشاسعة، فقد اختاروا عن اقتناع تجارة مربحة مع الله.
مركبات مجهزة لنقل الموتى
بدأنا الروبورتاج من أمام مصلحة حفظ الجثث بالمستشفى الجامعي الحكيم ابن باديس بقسنطينة، حيث وجدنا السيد رابح قاسمية، 57 سنة، جالسا داخل مركبة كبيرة « فورغون» ، مخصصة لنقل الجنائز و تضم مستلزمات غسل و تكفين الموتى، تابعة لمجلس سبل الخيرات.
اقتربنا منه و تحدثنا عن عمله، فقال لنا إن السيارة كان يملكها المرحوم حمودي عامر الذي فارق الحياة منذ أشهر، و كان يملك أيضا سيارة أخرى من نفس الحجم، و قام بتجهيزهما قبل سنوات، بغرفتي تبريد و عدة غسل الموتى، و وضعهما تحت تصرف المواطنين عبر ربوع الوطن لنقل موتاهم.
بعد وفاته تولى شقيقه تسيير السيارتين، كما قال السيد رابح، مشيرا إلى أن أغلب الجمعيات الخيرية التي تخصص سيارات لنقل الجنائز، تجهزها أولا بغرف تبريد، حفاظا على كرامة الميت، و نقله في ظروف ملائمة، و تفاديا لتعفن جثمانه، خاصة في فصل الصيف و ارتفاع درجات الحرارة.
و قال رئيس جمعية مسك الختام السيد عبد المالك بليل للنصرمن جهته، إن جمعيته تخصّص ثلاث سيارات من نوع « جي 5» لنقل الجنائز، و قد تمت تهيئتها و تجهيزها بغرف تبريد بفضل تبرعات المحسنين، مشيرا إلى أن خدمات التوصيل تشمل مختلف أنحاء الوطن، و هو ما وقفنا عليه فقد قامت إحدى سيارات الجمعية بنقل جثمان من مستشفى المنى لأمراض القلب، صوب مدينة عين الدفلى.
أما الكاتب العام لجمعية النفس المطمئنة لمدينة عين مليلة، السيد عبد الرزاق قرابصي، فقال في اتصال هاتفي بالنصر، أن جمعيته التي تنشط في مجال نقل الجنائز منذ 2013 ، تخصص أربع سيارات مجهزة و مهيأة لنقل الجثامين عبر عين مليلة بولاية أم البواقي و الولايات الأخرى، بينما قال لنا السيد الهادي بوعروج، رئيس جمعية الشهاب بالمدينة الجديدة علي منجلي، إن جمعيته تخصص سيارة إسعاف تملكها إحدى المتطوعات، لنقل الجنائز عبر مختلف بلديات قسنطينة، إضافة إلى 17 ولاية شرقية.
و تنسق هذه الجمعيات خدماتها في ما بينها، في الكثير من الأحيان ، كأن تتقاسم جمعية من الشرق، مسافة نقل جنازة ما، مع جمعية أخرى في الجنوب أو الغرب، من أجل توصيلها في أحسن الظروف إلى أهلها، كما لا يستثني هذا العمل الخيري المواطنين الذين توفوا في بلاد المهجر، حيث تتولى نقل جثامينهم بعد وصولها إلى إحدى المطارات لدفنها في أرض الوطن.
و توكل لمتطوعين و متطوعات مهمة غسل و تكفين الراحلين، و حتى إعداد الكفن و تقديمه بالمجان لمن يحتاجون إليه ، كما تنظم الجمعيات دورات تكوينية حول طرق الغسل و التكفين.
جمعيات تحظى بدعم المحسنين
تعرض عشرات الجمعيات الخيرية التي تحظى بدعم أهل البر و الإحسان، خدمات تجهيز و توصيل الجنائز، و ينخرط في صفوفها مئات المتطوعين ، و أغلبهم من المتقاعدين و محبي العمل الإنساني، كما اكتشفنا خلال قيامنا بهذا الروبورتاج.
قال السيد الطاهر زويوش للنصر ، و هو متقاعد و سائق متطوع في صفوف جمعية مسك الختام لولاية قسنطينة ، أنه يعمل بانتظام طوال أيام الأسبوع، ماعدا يوم واحد للراحة، حيث يقوم بنقل الجنائز إلى عدة ولايات، على غرار أدرار، جيجل، الجزائر العاصمة،و و هران.
و بناء على تقديرات رئيس الجمعية الذي يستقبل يوميا عديد الاتصالات الهاتفية، تكون الأولوية للولايات البعيدة، فيوجه السائق إلى مكان تواجد الجثمان، سواء في منزل أو مستشفى أو عيادة.
و أكد الطاهر أن مهمته كمتطوع، هي نقل الميت إلى أهله، بعد استخراج الوثائق اللازمة، مهما كانت الظروف، و لا تهم المسافة أو طبيعة المنطقة التي يقصدها، فهو يعمل على مدار السنة و في مختلف الأحوال الجوية، و قد جاب مناطق جبلية و تضاريس وعرة، كجبال القبائل الكبرى، لينقل جثمان أحد المتوفين، و خلال حديثه مع النصر، كان السيد الطاهر، يستعد لنقل تابوت لأحد سكان ولاية عين الدفلى، الذي فارق الحياة في مستشفى أمراض القلب في حي المنى بقسنطينة.
أغلب المتطوعين متقاعدين من سلك الشرطة و التعليم و الإدارة
قال زميله عزوز بلرقط، 67 سنة، متقاعد و متطوع هو أيضا لنقل الجنائز ، إنه على مدار أربع سنوات، نقل جنائز عبر 48 ولاية، و حتى إلى تونس، و أحيانا يتم التنسيق مع جمعيات من ولايات أخرى، لتقاسم المسافات البعيدة، بينما يخرج يوميا السيد رابح قاسمية 57 سنة، من الثامنة صباحا، ليتوجه صوب مصلحة حفظ الجثث بالمستشفى الجامعي الحكيم بن باديس بقسنطينة، على متن سيارة الجمعية المخصصة لنقل الجنائز، في انتظار أن يطلب منه أحد المواطنين نقل جثمان أحد أفراد عائلته ، و قد لا يعود السيد رابح إلى منزله الذي غادره باكرا ، إلا بعد يوم أو يومين، إذا كان المتوفي من ولاية بعيدة.
و أكد عبد المالك بليل ، رئيس جمعية مسك الليل، أن جمعيته تضم 80 متطوعا من النساء و الرجال الذين يقومون بغسل و تحضير الكفن و التكفين، و كذا نقل الجنائز ، و أغلبهم رجال متقاعدين من سلك الشرطة و التعليم و الإدارة و غيرها.
و جميعهم، كما أكد، على أهبة الاستعداد للعمل التطوعي و تحمل كل المشاق في التنقل إلى أبعد مكان من أجل القيام بمهامهم على أكمل وجه، و في هذا الإطار قال المتحدث إن جمعيته لوحدها نقلت في حدود 1000 جنازة خلال 2019 إلى كل ولايات الوطن .
في حين قال السيد الهادي بوعروج، رئيس جمعية الشهاب بعلي منجلي ، أن المتطوعين في جمعيته يتكفلون يوميا بنقل من 4إلى 5جنائز، سواء داخل قسنطينة أو خارجها ، و هم مستعدون في كل وقت للقيام بهذه الخدمة الإنسانية .
السيرة الحسنة شرط مهم للتطوّع
تشترط هذه الجمعيات الخيرية أن تتوفر في المتطوعين جملة من المعايير، أهما السيرة الحسنة ، و في هذا الإطار قال السيد عبد الرزاق قرابصي، الكاتب العام لجمعية النفس المطمئنة لمدينة عين مليلة، إن أول شرط لقبول المتطوع لنقل الجنازة أن يكون عارفا بقواعد التغسيل ، إلى جانب السيرة الحسنة، و كذلك القيادة الجيدة للمركبات.
أما عبد المالك بليل فتحدث عن القانون الداخلي لجمعيته و يضم 42 مادة من بينها المادة التي تضبط شروط قبول المتطوعين، ممن تتوفر بهم معايير أخلاقية أهمها السيرة الحسنة ، و في هذا الإطار قال إن الجمعية تستقبل عديد طلبات التطوع تتراوح بين 6 إلى 8 كل شهر، و أغلبها من الرجال ، و تضع الجمعية شروطا لقبولهم أهمها الجانب الأخلاقي من إخلاص و صبر و كتم الأسرار، فهم يدخلون البيوت و يغسلون الموتى لذا فهم مطالبون بالسرية، و قال السيد الطاهر زويوش، أن المتطوع في هذا المجال يجب أن يستعد لأي ظرف أو طارئ، قد يقابله عند نقل جثمان و خاصة التعامل مع أهل المتوفي.
يتحدون كوفيد 19
الكثير من الجمعيات الخيرية لنقل الجنائز واصلت عملها التطوعي خلال الجائحة، كما استمر المتطوعون في غسل و تكفين الموتى و نقل جثثهم حتى خارج الولايات، رغم قرار الحجر الصارم ، و منهم من تعرضوا للإصابة ، و في هذه الجانب أكد السائق رابح قاسمية، أنه أصيب بكورونا بسبب استمراره في تغسيل الموتى أثناء الموجة الأولى من الجائحة ، و أصيب الكثير من المتطوعين و المتطوعات بالعدوى ، جراء غسلهم لموتى كانوا مصابين بالوباء لكن عائلاتهم أخفت الأمر، حسب المتحدث.
و قال السيد عبد الرزاق قرابصي إن جمعيته غيرت نمط عملها أثناء الجائحة، خاصة في ما يتعلق بغسل الموتى غير المصابين بالفيروس ، بعدما منعته المستشفيات ، و أصبح يتم في المنازل ، بينما تواصلت خدمة نقل الجنائز عبر كل التراب الوطني، بفضل الحصول على ترخيص النقل الذي سهل المهمة ، لكن انتقد إخفاء الكثير من العائلات إصابة موتاهم بكورونا، ما تسبب في نقل العدوى إلى الكثير من المتطوعين.
و أكد من جهته الهادي عروج، رئيس جمعية الشهاب، أن الجمعية لم تتوقف طيلة السنة الفارطة في نقل الجنائز، رغم أزمة كورونا و كل المخاطر التي تهدد المتطوعين.
استخراج الوثائق يعرقل عمل الجمعيات الخيرية
غالبا ما تصطدم هذه الجمعيات بعائق استخراج الوثائق الإدارية للمتوفي و ترخيص النقل من المصالح البلدية، و كذا رخصة تشميع التابوت من مصالح الأمن ، و قد تستغرق هذه الإجراءات أكثر من يوم، ما يتسبب في تأخر نقل الجثمان إلى أهله من أجل إكرامه بالدفن.
و يدعو السيد عبد الرزاق قرابصي من جمعية النفس المطمئنة عين مليلة، إلى منح للجمعيات الخيرية، صلاحية استخراج بعض الوثائق و تسهيل منحها التراخيص من أجل نقل الموتى، خاصة الذين يقيم ذووهم في ولايات بعيدة كالجنوب و الغرب. بينما يرى السائق المتطوع الطاهر زويوش، أن الحل هو إنشاء مكاتب خاصة على مستوى المستشفيات، تتكفل بمنح هذه التراخيص ، و تحديدا لمن يقطنون خارج الولاية، و يصطدمون بعدة عراقيل و يجدون صعوبة في التنقل بين المديريات، و هو نفس ما ذهب إليه السيد الهادي بوعروج عن جمعية الشهاب الذي أكد أن مشكل منح التراخيص، أصبح أكبر عائق في وجه من يتطوع لنقل الجنائز.
وهيبة عزيون