تتحول صناديق التين الشوكي التي تنتشر سنويا على حواف الطرقات في بلادنا، إلى ديكور يومي يميز كل نهاية صيف و بداية خريف، فهذه التجارة كانت ولا تزال حلا مؤقتا للكثير من البطالين، خصوصا و أنها لا تتطلب في الغالب رأس مالا معينا للاستثمار فيها، فالهندي، فاكهة تنمو في الجبال دون عناية و تحمي نفسها بفضل أشواكها، وهو تحديدا ما أكسبها شهرة كفاكهة للفقراء، مع ذلك فقد عرفت أسعارها ارتفاعا غير مسبوق هذه السنة، مقارنة بما كانت عليه، و السبب حسب الباعة و الفلاحين يعود بالدرجة الأولى إلى تأثير الجفاف، كما يأتي تهديد الصناعات التجميلية في المرتبة الثانية.
تين «فلتان» الأفضل على الإطلاق
رغم توسع آفاق زراعة التين الشوكي، في مدن عديدة، على غرار قالمة و تبسة و سوق أهراس، و تنوع المحاصيل وكثرتها، إلا أن تين البساتين الطبيعية المنتشرة عبر جبل فلتان، الممتد من قرية بن بولعيد، مرورا بأولاد فايد و عرامة و بقطاش و أولاد نهار و أولاد يعقوب، وصولا إلى بلدية واد سقان، يبقى الأفضل على الإطلاق، لأن طعمه الحلو لا يمكن أن يقارن بغيره، كما أخبرنا أصحاب بساتين و باعة جوالون قابلناهم خلال استطلاع قمنا به بعدد من نقاط البيع المختلفة.
انطلقنا في استطلاعنا من قرية بن بولعيد، التابعة إداريا لدائرة التلاغمة بولاية ميلة، وهناك علمنا ممن قابلناهم من باعة و فلاحين، بأن المحصول المنتشر في الأسواق و على امتداد طرقات مدن الشرق و بالأخص، قسنطينة، متنوع المصادر، و تعود نسبة كبيرة منه إلى بساتين قالمة و تبسة، وهو منتوج نوعي و مطلوب جدا ، مع ذلك يبقى محصول بساتين جبل فلتان، الأكثر شهرة و طلبا من قبل الزبائن، لأنه طبيعي يعود عمر شجيراته إلى مئات السنين، ويتمتع، كما قالوا، بلذة فريدة وحلاوة شديدة.
تجارة موسمية مربحة
محدثونا أوضحوا، بأن سكان الجبل و امتداداته، يطلقون على شجيرات صبير التين الشوكي، تسمية شجيرات البركة و الخير خصوصا، لأن محصولها وحده قادر على إنعاش جيوب بطالي القرى و المداشر المحيطة بالمكان، علما أن موسم الجني يفتح أبواب الرزق كذلك، أمام الكثيرين ، منهم الأطفال و المراهقين و حتى النساء، فهناك من يجنون محاصيل بساتينهم المتوارثة أبا عن جد، ويبيعونها للاستفادة من دخلها دون عناء، على أن يتداول رجال العائلة استغلال البستان بصفة دورية، ليعم الخير على الجميع، بالمقابل يوظف آخرون أطفالا وشبابا لجني المحصول وبيعه و يدفعون لهم من أرباح العملية، و يقوم الباقون بتأجير البستان ومحصوله لشباب القرى القريبة، مقابل تكلفة تتحدد، حسب المساحة المؤجرة ، و تنطلق عموما من 5 ملايين سنتيم إلى غاية 15 مليون سنتيم، فيما تفضل النساء في العادة ، جني محصولهن بمفردهن و تكليف الشباب أو الأطفال ببيعه.
أما من هم من خارج المنطقة، أو من لا يملكون بساتين خاصة، ولا يتوفرون على مبلغ لتأجيرها، فينشطون على خط قالمة و تبسة، حيث يشترون صناديق جاهزة من التين بسعة 250 إلى 300 حبة، مقابل مبلغ 1300 إلى 1500 دج، و يعيدون بيع محتواها مجددا، من أجل هوامش ربح متفاوتة، تصل إلى 800 دج أحيانا، و هم باعة يشغلون الأسواق و حواف الطرقات في العديد من المناطق و الولايات القريبة من قسنطينة.
وعن عملية الجني، أخبرنا شهاب ميهوب، تلميذ في الثانوية، يشتغل في بيع محصول العائلة، بأن الأمر يتعلق بالتعود، فتجارة التين تستوجب الاستيقاظ باكرا لجني المنتوج، و من ثم التنقل إلى نقطة البيع لقضاء اليوم هناك، بين تصريف البضاعة و التخلص من الأشواك العالقة على الجلد.
من جانبه قال هارون لعزيز، بأن باعة التين تعودوا على أشواكه، حيث يكون الأمر صعبا في البداية فقط، ذلك لأن اختراقها للجلد يسبب كثيرا من التقرحات و الجروح، لكن الأمر يتحسن مع مرور الوقت و تأثيرها يقل حتى يتعود الإنسان على الألم، موضحا بأن هناك تقنيات مختلفة للتخلص من الأشواك، إما عن طريق سحبها بملقط، أو من خلال فركها بقطعة قماش خشن.
أما إذا اخترقت شوكة في عين أحدهم، فإن كبار القرية وحدهم يجيدون سحبها، و ذلك عن طريق لعق العين المصابة باللسان وهي طريقة تقليدية قديمة، كما أشار.
من 3 إلى5 دج زيادة و 30 دج للثمرة مقشرة
«كول يا قليل» أو «الحبة بـمية و عشرة بألف « أو « هيا الهندي و الموس من عندي»، كلها عبارات نحفظها جميعنا، وفق لحن معين تعزفه ذاكرة الطفولة، كلما استرجعنا صور الباعة و هم يجوبون الأحياء بشاحناتهم من طراز «بيجو 404»، لكسب مزيد من الزبائن، أو ينتشرون على امتداد الطرقات و عند مداخل الأسواق ومخارج المدن، طبعا هذه الصورة لم تختلف كثيرا اليوم، وهو واقع تأكدنا منه خلال جولتنا، فالباعة لا يزالوا نشطين و زادت أعدادهم و اختلفت أعمارهم كما تنوعت جملهم وأساليبهم في جذب الزبون، لكن ما اختلف فعلا هي الأسعار، فحبة التين التي كانت قبل سنوات قليلة تباع بـ 3 إلى 5 دج، قفزت هذه السنة إلى8 وحتى 9 دينار، علما أن آلية البيع تغيرت و لم تعد تعتمد على طريقة التجزئة، فقد لاحظنا بأن غالبية الباعة، حددوا سعرا واحدا للبيع بالجملة و هو 100 ثمرة مقابل 800 دج، و القليل جدا منهم يبيعون بضاعتهم باحتساب سعر الحبة، كما كان شائعا من قبل.
من جهة ثانية، توصل شباب و باعة آخرون، إلى حيل إضافية للكسب، فمنهم من يقترح عليك شراء الفاكهة مقشرة و جاهزة دون عناء، وهو اقتراح مغر، خصوصا و أن تقشير « الهندي»، عملية تتضمن كثيرا من المشقة، لكن المفارقة تكمن في سعر الثمرة الواحدة و الذي يتراوح بين 20 و 30 دج، ما لا يتناسب بتاتا مع دخل الكثير من العائلات البسيطة، على اعتبار أن هذه الفاكهة محبوبة و لذيذة ولا يمكن لآكلها أن يكتفي بثمرة أو اثنتين فقط.
سألنا الباعة و بعض أصحاب البساتين بقرية بن بو العيد عن سبب ارتفاع الأسعار هذه السنة، فقالوا بأن للأمر علاقة بالجفاف الذي شهدته المنطقة الأشهر الماضية، و حسب لعزيز هارون، صاحب أحد بساتين منطقة فلتان، فإن المحصول قليل جدا هذا الموسم، و لم ينضج جيدا، كالمعتاد، وذلك بسبب شح الأمطار و كثرة الجليد في الشتاء، الأمر الذي أثر، حسبه، على كمية و حجم و نوعية الثمار، لدرجة أن بستانا كاملا قد لا يثمر ، كما أوضح، سوى 40 إلى 50 صندوقا من التين، و جولة صباحية تزيد عن ساعتين داخله، لن تسفر عن جني أكثر من 100إلى 200 حبة، محدثنا أشار أيضا، إلى أن المحصول بدأ في التراجع، قبل قرابة سنتين تقريبا، و ليس هذه السنة وحدها.
تجارة الجمال تهدد المحاصيل الطبيعية
من جابه، ذكر هارون بن خليفة، تاجر و فلاح ، بأن عاملا ثانيا أثر على بساتين التين الشوكي، و تسبب في تراجع عددها وضعف محصولها، وهو عامل بشري يرتبط بإتلاف النبتة من أجل أغراض ربحية، حيث يوجد فلاحون و بطالون يقومون سنويا بقطع أجزاء من صبير التين الشوكي، ويبيعونها إلى الورشات و المصانع التي تشتغل في مجال صناعة زيوت و مستحضرات التجميل، وهو أمر مؤسف، حسبه، لأن الربح الذي تدره هذه العملية، لا يساوي حجم الخسارة، خصوصا و أن قطع النبتة بطريقة عشوائية وغير مدروسة، يتسبب في إتلافها، و استخلافها كثيرا ما يفشل بسبب التغيرات المناخية وعدم الاهتمام بالموضوع و إغفاله نهائيا في غالب الأحيان، ناهيك عن كون العملية تتطلب في حال تمت فعلا، عقودا طويلة من الزمن، كي يتم استرجاع ما تم إتلافه، ذلك على اعتبار أن الحقول و البساتين المستغلة حاليا، هي نتاج ما زرعه الأجداد قبل مئات السنين.
تجدر الإشارة بهذا الخصوص، إلى أن الحصول على لتر واحد من زيت صبير التين الشوكي، يتطلب ألف كيلوغرام من الثمار، و يعد هذا المستخلص من أكثر المنتجات التجميلية طلبا في العالم، نظرا لفائدته الكبيرة في ترطيب البشرة و تجديدها و محاربة آثار الشيخوخة، بفضل غناه بمضادات الأكسدة، هذا في ما يتعلق بالصناعة.
أما في ما يخص الغذاء، فقد دعت منظمة الأمم المتحدة في سنة 2017، إلى نشر الوعي بأهمية زراعة و حماية التين الشوكي، و ذلك على اعتبار أنه سيكون « غذاء المستقبل»، في ظل التحديات المناخية و تنامي خطر الجفاف عالميا.
هدى طابي