تحتضن ورشة «باجين» بالمدينة القديمة بقسنطينة، كل مولع بالفن و عاشق للموسيقى، فرغم مساحتها الضيقة التي لا تكاد تكفي لكل الآلات الموسيقية و أدوات إصلاحها، إلا أن أبوابها تظل مفتوحة أمام الذين يقصدونها للاستنجاد بخبرة حفيد بابا عبيد، واحد من مشايخ الموسيقى القسنطينية، فأنامل الفنان، لا تجيد فقط العزف على الأوتار، بل يمكنها أن تعيد الروح للآلة كذلك. يشتهر الفنان شريف رقيق، باسم باجين، بين أبناء المدينة وتعد دُكانته مزارا لمحبي فنها، حيث يقصدونه لأجل النهل من خبرته التي يزيد عمرها عن 50 سنة، فلا يتوانى هو في الإغداق عليهم بكل ما جادت به جعبته من أسرار عن الموسيقى والآلة، لتصبح بذلك ورشته الضيقة فضاء رحبا يجمع شمل أهل الفن و الموسيقى.
* ربورتاج / أسماء بوقرن
متحف للآلات القديمة و الأنتكيا
عند مدخل حي سيدي جليس، بنهج معمر بيطاط، وتحديدا على بعد ثلاثة أمتار من النبع القديم، نجد ورشة باجين لإصلاح الآلات الموسيقية، دكان يعتبره الفنان عالمه المفضل و لا يجد راحته إلا بين جدرانه، فيما يشعر زائره بأنه في قلب متحف للآلات الموسيقية و محل للأنتيكا، لما يحتوي عليه من آلات موسيقية قديمة أغلبها وترية، منها العود و القيثار و الماندولين يزيد عمر بعضها عن المئة عام، كما توجد في المحل كذلك آلات أخرى إيقاعية مثل الطار و الفحل الذي يزين سقف الورشة، التي تضم عدة أدوات و وسائل خاصة بالتصليح منها عتاد لقطع الخشب.
يتخصص باجين، في إصلاح الآلات و وضبط إيقاعاتها ورغم ضيق محله، إلا أنه لا يتردّد في عرض قطع ديكور قديمة يزين بها المكان، منها مصباح و خزانة خشبية جميلة يعتبرها جزء من ورشته و مصدر طاقة له، حيث يستمد الإيجابية كما قال، من كل ما هو عريق.
في المحل، كانت الآلات الموسيقية معلقة في كل الزوايا وبالقرب منه وضع قيثارة الكهربائية، يعمل على تصليحها أما المساحة المتبقية، فترك جزءً كبيرا منها للعود القسنطيني، الذي حدّثنا عن خصوصيته، قائلا بأنه يختلف عن العود العربي في كونه أصغر حجما، كما يضم أربعة أوتار مزدوجة، أي ثمانية أوتار موزعة على أربعة مسارات، على خلاف العود العربي الذي يضم ما بين 10 إلى 12 وترا.
حرفة ترتبط بحي سيدي جليس
الفنان المخضرم شريف رقيق، من تلاميذ مدرسة الشيخ معمر براشي، وقد عاصر جيلين من أعمدة الفن القسنطيني، و ينبع ارتباطه بالمدينة القديمة من ذكرياته في المكان، لذلك يرفض أن يمارس حرفته بعيدا عن دكاكين حي سيدي جليس العتيق، رغم أنه فقد جزء كبيرا من خصوصيته بعد الترحيلات التي أفرغته وسقوط عدد كبير من مبانيه، وحجته في ذلك، رمزية المكان و تعلقه الشديد به فالحي يجعله دائم الصلة بذكريات الماضي الجميل، كما يستمد من عبقه راحة نفسية و يجد فيه مصدرا للإلهام، كما أن التواجد في المنطقة وتحديدا في محله محاطا بكل الآلات التي يملكها أو يصلحها، يخلصه من ضغط الحياة و يسافر به في عوالم الموسيقى، كما يجعله يمارس حرفته بإتقان، وقد علق على الأمر قائلا، بأن رمزية الشارع هي بمثابة الوقود الذي يحرك شراعه، لذا لا يمكنه ممارسة حرفته بعيدا عن هذا الحي العتيق.
محدثنا أضاف، بأنه رغم الظروف الصعبة لم يفكر يوما في تغيير مقر ورشته و منزله، و سيبقى متمسكا بجدران المحل الذي لا تتجاوز مساحته المترين، ليواصل مشواره ويجمع عشاق الأصالة و المعاصرة، في فضائه الرحب الذي يعد قبلة مفضلة للفنانين و بالأخص الشباب، ممن يلتقون في المكان كل أمسية ليطربوا أسماع الذين تبقوا من سكان الحي العتيق بوصلات غنائية و موسيقية رائعة، يصل صداها إلى جدران بيوت «عرب»، و يعيد نغمها الروح للحي العتيق الذي غادره أهله.
خبرتي في العزف مكنتني من تعلم الحرفة
قبل أن يكشف لنا باجين عن أسرار حرفته، التي جعلته مقصدا لفنانين من مختلف ولايات الوطن، عاد بذاكرته إلى زمن الصبا، ليحدثنا عن بداياته في عالم الموسيقى و الغناء قائلا، بأنه من عائلة فنية، فهو حفيد بابا عبيد قارة بغلي بن عبد الرحمن، أحد شيوخ و أعمدة الفن القسنطيني، الذي رحل باكرا تاركا أثرا جميلا، فقصص ابنته عنه ربت حب الفن في الطفل باجين منذ الصغر، ولذلك فقد تحسر دائما على عدم لقاء جده، غير أنه ورث عنه الأذن الموسيقية التي هذبها خلال تردده على لقاءات الفنانين، ليبدأ في تعلم قواعد الموسيقى والعزف على يد الشيخ معمر براشي، معلمه الذي لقنه أصول العزف على مختلف الآلات الموسيقية و مكنه من الإلمام بكل الطبوع القسنطينة. و قد أصبح باجين عازفا و هو في سن 12، فكانت أول آلة يتقن مداعبتها هي الفحل ثم الكمان و العود و الميزان و الطار فباقي الآلات، و قد كان أخوه الذي يكبره سنا بنحو عقد من الزمن، رفيق دربه في مجال الفن، إذ يعد هو الآخر من عشاق الغناء و الموسيقى، وقد رافقه منذ بداياته و شقا طريقهما معها إلى أن أسسا جوقا موسيقيا، ظل ينشط في إطار ضيق، قبل أن يبزغ نجمه و يصبح من أهم الفرق التي تتسابق العائلات على طلب خدمتها في الأفراح، ليتوسع نشاطهما إلى إحياء السهرات و المناسبات الدينية، داخل و خارج قسنطينة، لكن الفرقة تراجعت تدريجيا بعد وفاة بعض أعضائها و اعتزال آخرين، ولم يبق سوى باجين ناشطا مصرا على العزف في المناسبات وخصوصا في مولد خير الأنام.
هكذا تعود الروح للآلة
تعد الآلات الموسيقية الصديق الوفي لباجين، فلم يشأ الابتعاد عنها رغم الظروف، حيث يستمتع بالعزف على بعضها و الاستماع لإيقاعات الأخرى دائما، حتى أن الفضول دفعه لتفكيك بعض أجزائها لمعرفة طريقة صنعها، ومن هنا تحديدا بدأ في تعلم الإصلاح، ليصبح مع مرور الأيام أهم مصلح آلات موسيقية في المدينة وعنوانا أول لأهل الفن من الشباب والهواة، حيث كان يتخذ من غرفته مكانا لممارسة حرفته بإتقان، فيتفنن في سحب الأوتار بعناية و إصلاح أضلاع الآلة دون الإضرار بباقي أجزائها، و كذلك إصلاح ظهر العود أو القصعة و الصدر و الرقبة، وهي عملية تتطلب الدقة المتناهية وكثيرا من الإتقان. و قال الفنان، للنصر، بأنه يصلح آلات قديمة جدا ليحافظ عليها، إذ يقضي في ورشته الضيقة المتواجدة بحي سيدي جليس العتيق، وقتا ليعيد إليها الحياة، مضيفا، بأنه يفضل فتح باب ورشته بعد صلاة الظهر، حين يغادر غيره من الحرفيين المدينة، و تتراجع الحركية في الشارع لكي يتمكن من الاستمتاع بالهدوء والتركيز جيدا.
يقصده اليوم، فنانون وشباب من مختلف ولايات الوطن على غرار باتنة و سوق أهراس و عنابة، و كثيرا ما تتحول ورشته إلى فضاء للقاء الفنانين، أين يستغل مجالسته لهم في نقل خبرته الفنية للمهتمين، و تعليمهم خصوصية كل طابع و كيفية التفريق بين الطبوع الأندلسية.. الزيدان و الحسين و رمل المايا و المزموم... و يستقبل أيضا خلال الجلسة، استفساراتهم بصدر رحب ليجيب عنها بالتفصيل وفي مرات تصبح الجلسة طربية و تغلب عليها الموسيقى والإيقاعات التي تعيد إحياء التراث القسنطيني.
جمعية نجوم فنون قسنطينة لتعليم الأجيال
رغبة الفنان باجين في نقل خبرته للأجيال الصاعدة، دفعته إلى تأسيس جمعية فنية سماها «نجوم فنون قسنطينة»، لتعليم الموسيقي للفئات ما بين 14 إلى 30 سنة، حيث يقدم حصصا تعليمية على مستوى دار الشباب بحي فيلالي، أين اكتشف مواهب عديدة تستدعي الاهتمام، فيما لم يلمس لدى جيل الفنانين الجدد شغف تعلم حرفة التصليح، بقدر رغبتهم في التركيز على تعلم أبجديات العزف و أسرار الإبداع في الغناء.
و تأسف في ختام حديثه، على وضع الفن في بلادنا، وقال بأنه ناتج عن تراجع الاهتمام بالمجال عموما، حيث يرى بأن الاهتمام بالغناء على حساب الإنتاج الموسيقي، يعد من العقبات التي تعيق التقدم الثقافي.
أ ب