الدلالة، الحلاوجية، القصادرية، أسماء حرف و أنشطة ارتبطت بحي سيدي جليس العريق، بوسط مدينة قسنطينة، و لا يزال بعض الحرفيين صامدين إلى غاية اليوم، نظرا لارتباطهم الوثيق بنشاطاتهم و تعلقهم بالمكان، الذي فقد الكثير من عبقه، بعد ترحيل معظم سكانه، و تراجع الحركية به، فيما لم يصمد العديد من الحرفيين، و اختاروا وجهة أخرى لبعث نشاطهم من جديد، و غيب الموت البعض الآخر و ظلت ذكراهم عالقة في ذاكرة كبار الحي الذين ظلوا أوفياء له، و يزورونه باستمرار، مثل الشيخ عبد العزيز الذي التقته النصر بنبع هذا الحي القديم.
روبورتاج / أسماء بوقرن
يحافظ بعض حرفي المدينة على جزء من خصوصية حي سيدي جليس العريق، من خلال تمسكهم بحرف تقليدية ذات ارتباط وثيق بالمكان، و لا تزال بعض دكاكين بيع و تصليح النحاس و صناعة الحلوى و بيع الأزياء التقليدية و الألبسة القديمة و كذا المجوهرات و تصليح الأدوات الكهرومنزلية، تحافظ على نشاطها، و برر أصحابها صمودهم برمزية المكان و وفاء بعض الزبائن لهم.
من تطأ قدماه، حي سيدي جليس صباحا، يقف على أحد شواهده و رموزه التي أبت الاندثار و تصارع مرارة ترحيل السكان، فظلت بعض أبواب دكاكينه صامدة، رغم ما تخفيه من أنقاض، لتحافظ على الحرف القديمة، منها ثلاثة لتصليح و إعادة البريق للأواني النحاسية، و أخرى لـ «الأنتيكا» تعرض قطع ديكور قديمة جدا، كما ظل محل نور الإسلام، لبيع المجوهرات يعرض خدماته على زبائنه، و أكد صاحبه السيد منذر رامول، بأنه بالرغم من فتح فروع عديدة لمحله في المدينة الجديدة و وسط المدينة، إلا أنه لم يشأ غلق ذاك الكائن أسفل بيت والده بسيدي جليس الذي أصبح، كما قال، معزولا عن المدينة، نتيجة تراجع الحركية به، خاصة بعد الثانية زوالا، حين يتوقف نشاط الحرفيين، لكن صلته الوطيدة بالحي و تعلقه بمنبع سيدي جليس جعلته يصمد، إذ يجد في صوت خرير مياهه، ما يبعث الطمأنينة و السكينة في روحه، إلى جانب بقاء بعض العادات الفنية، التي لا تزال دار الوصفان تحييها، بمقرها المقابل لمتوسطة ولد علي.
«الدلالة».. نشاط يأبى الاندثار
تأبى حرفة «الدلالة» الاندثار، بأحد أعرق أحياء المدينة القديمة، فأرضية الحي الحجرية و جدران «ديار العرب» الشامخة، لا تزال تحتضن ممتهنيها الشيوخ، كخالتي وردة التي بالرغم من بلوغها سن 80 ، إلا أنها لا تزال تمارس نشاطها.
وجدناها تعرض في الجهة العلوية للحي، خلف متوسطة ولد علي، جيل فيري سابقا، ألبسة قديمة، خاصة بمختلف الفئات العمرية على الأرض، فيما تستعمل جدران البنايات رغم أنها على مشارف الانهيار، لوضع المشاجب و تعليق المعاطف و كذا الفساتين و العباءات، بينما كانت زبونتان تختاران ما يناسبهما و تسألانها عن ثمنها.
رفضت في البداية الحاجة وردة، كما يلقبها أبناء الحي، الحديث إلينا، غير أنها و بعد محاولات منا، قالت بأنها قضت 50 سنة من عمرها في ممارسة نشاط الدلالة، أي منذ كانت في 25 سنة من عمرها، و لم تتمكن من التوقف، بالرغم من تقدمها في السن، و انتقالها للعيش بالمدينة الجديدة علي منجلي، قائلة بأن تعلقها بحي سيدي جليس، جعلها تتكبد عناء التنقل اليومي و بعد المسافة، و ذلك لا لشيء، إلا لقضاء بعض الوقت به.
تقصد المتحدثة المكان في الصباح الباكر، و تقضي به نحو ست ساعات يوميا، حيث تجد متعتها في الحديث إلى زبائنها و توفير ما يلبي أذواقهم، و فرز الألبسة القديمة التي تقتنيها أو يتصدق بها محسنون، فيما تقضي وقت فراغها في مشاهدة المارة و الاستمتاع بالذكريات الجميلة التي تربطها بالمكان، متحسرة على ماضي الحي الجميل الذي فقد جزءا كبيرا من عبقه، خاصة بعد ترحيل معظم سكانه و مغادرة عديد التجار و الحرفيين المكان، و تخليهم عن ممارسة نشاطهم لأسباب قالت بأنها ترتبط بالانتقال إلى مكان آخر لمزاولة النشاط أو الوفاة.
كما أن عمي عبد الحميد بريغت، يمارس أيضا نشاط الدلالة، و يستغل دكانا محاذيا لدار الوصفان، لتخزين الألبسة المستعملة و عرضها بجداره الخارجي.
تحسر هو الآخر على وضعية الحي، و تراجع الحركية و النشاط الحرفي به، قائلا بأنه كان رمزا للحرف التقليدية كحرفة الدلالة، التي كانت تشمل بيع المصوغات، و صناعة الجوزية و الحلي و غيرها من الحرف، التي تشتهر بها المدينة، و كانت التجارة تشهد ازدهارا كبيرا به، غير أن ترحيل السكان، أفقد المكان خصوصيته، و حتم على الكثيرين التوقف عن ممارسة حرفهم و تغيير نشاطاتهم.
غير أن عمي عبد الحميد، و رغم انتقاله للإقامة بالمدينة الجديدة علي منجلي، رفض غلق دكانه و ظل يمارس نشاط الدلالة، التي تعتبر، كما قال، مصدر رزق، ليس لممتهنيها فحسب، و إنما حتى لربات البيوت اللواتي تدفعهن الحاجة إلى بيع الألبسة المستعملة، بدل التخلص منها ، ما يمكن، حسبه، من توفير خيارات عدة للزبون الوفي، مشيرا إلى أن نشاطه ازدهر خلال الجائحة، لتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، و لجوئهم لبيع أغراض قديمة، فيعيد بيعها بأسعار رمزية، تبدأ من 200 دينار و لا تتجاوز ألف دينار، غير أنه نشاط في طريقه للاندثار، كما أكد.
صناعة الحلوى.. تقاوم
محلات صناعة الحلوى، التي كان عددها يفوق 30 محلا، هي الأخرى تقاوم الظروف الصعبة، فلم يبق سوى محلان، أحدهما فقط لا يزال يحافظ على نشاطه اليومي، و صاحبه هو الحرفي نور الدين مكري، أحد أبناء سيدي جليس، و هو مختص في تحضير مختلف أنواع الحلوى، كحلوى المطارق و حلوى الحلزون و النوقا، و كانت تسوق و توزع تقريبا عبر مختلف ولايات الوطن، غير أن رواجها عرف تراجعا رهيبا ، ما دفع تجارا للتوقف عن النشاط.
قال الحرفي بأنه لم يتمكن من التوقف عن النشاط، لتعلقه بالحرفة التي يمارسها منذ 38 سنة، و قضى أجمل سنوات عمره بهذا الحي الذي تربطه به ذكريات جميلة، مشيرا إلى أن ساحة الحي كانت تحتضن باعة أنواع الخضار و الحليب و مشتقاته و التمر، كما كان محله مقصدا لسكان المدينة، و حتى زوارها من مختلف ولايات الوطن، كسطيف و العاصمة، أما اليوم فلم يعد يقصد الحي، سوى بعض التجار و بعض الأولياء الذين يعاني أبناؤهم الحساسية من الملونات الغذائية، فيشترون لهم كميات من الحلويات التي تحضر بمواد طبيعية، حسب طلبهم، أي دون ملونات أو مواد حافظة.
حرفيو «تشبيب» النحاس متمسكون بالمكان
تربط حرفة صناعة النحاس و «تشبيب» أو تبييض النحاس القديم، علاقة وثيقة بالحي، و لا يزال بعض ممارسيها يقاومون رغم الوضع الذي آل إليه الحي، حيث لا تزال ثلاثة محلات فقط صامدة، منها من تمتهن البيع فقط، و أخرى تعرض تصليح و إعادة البريق للأواني النحاسية القديمة، أو ما يعرف ب»التشبيب» أو التبييض ، الذي يمر بعدة مراحل.
وجدنا هناك أحد الحرفيين و هو في العقد السادس من عمره، منهمكا في تنظيف «سينية»، قائلا بأنه قد يقضي نصف يومه في تنظيفها و تلميعها، فيجلس على الأرض في ساحة الحي، للقيام بنشاطه، بدل البقاء داخل دكانه، و قد يغير مكانه للجلوس بجانب عين أو نبع سيدي جليس، عند قيامه بتنظيف الأواني النحاسية، فيما يعرض بمحله، مختلف الأواني النحاسية، التي كان وجودها أساسيا في كل بيت قبل عقود، على غرار «المحبس» و «المرش» و «الكيروانة» و «القصعة».
المحلات الصامدة.. قبلة الأوفياء
لا تزال المحلات الصامدة، مقصدا لأبناء المدينة، و قبلة مفضلة لأبناء الحي الذين تم ترحيلهم ، يشدهم حنينهم إلى المكان و إلى منازلهم التي لم يبق من بعضها سوى الهيكل الخارجي، و كذا للارتواء من نبعها العذب ، و اقتناء الحلوى أو «تشبيب» الأواني النحاسية، و ذلك للحفاظ على علاقتهم بمسقط رأسهم، من بينهم الشيخ السعيد المولود سنة 1949.
التقت به النصر أمام النبع يروي عطشه، فتحدث عن صلته بالمكان، قائلا بأنه قضى طفولته و عقودا من عمره بسيدي جليس، ليغير مسكنه بعدها و ينتقل إلى حي باب القنطرة، الحي الذي اختار العيش فيه، لقربه من سيدي جليس الذي ظل يزوره يوميا، فبالرغم من بلوغه 73 سنة من عمره، إلا أن علاقته بحيه ظلت متينة، و زيارته له تدخل ضمن أولويات يومياته، و يعتبره محطة للاستراحة و الارتواء من العين التي تزين ساحته، و تبث الحياة في أرجائه المهجورة، و تعد أحد رموزه ، فقد ساهمت في الحفاظ على الحركية بالحي، حتى و إن كانت محتشمة، و اعتبره منفذا مفضلا يسلكه للوصول إلى حي الرصيف و رحبة الصوف.
سيدي جليس .. بين الماضي و الحاضر
عاد بنا ابن حي سيدي جليس العتيق، السيد عبد العزيز عياش، أحد التلاميذ القدامى بمدرسة جيل فيري بسيدي جليس، إلى ذكريات الصبا، ليرسم لنا صورة عن ساحة سيدي جليس و الأنشطة و الحرف القديمة، التي كانت تمارس بدكاكينه بعد الاستقلال، مثل نشاط «تشبيب» النحاس.
قال لنا أن عمي السعيد القصادري، معروف بممارسة هذا النشاط، و هناك أيضا عمي محمد الحلواجي، و كان يمارس النجارة التقليدية الحرفي بوحجرة ، و كان الاسكافي «سارجان» من أشهر الإسكافيين بالمدينة، و ذكر أيضا مقهى بلقج، و مخبزة بوشويكة ذات الشهرة الكبيرة بالولاية، و كان يقصدها زبائن حتى من ولايات مجاورة، لجودة خبزها.
و ذكر أيضا طاولات بيع التمر و اللبن، و نشاط الدلالة الذي اشتهرت به الجهة العلوية من الحي، كما كان الطرق و الدق على صفائح النحاس، من بين خصوصيات الحي، الذي كان يفوح منه عبق شهر رمضان مسبقا، و كانت تتزين ساحة الحي العتيق و تغلق دروبه و مسالكه خلال الشهر الفضيل، لإحياء السهرات الفنية، من قبل أبناء الحي، و يحضرها سكانه الذي وصفهم المتحدث بأهل الجود الكرم، و اعتبر الحي، المكان الذي احتضن «الفقيرات». أ ب