سوسة.. جوهرة الساحل التي تحدّت الإرهاب بالسياح الجزائريين
أحيت تونس قبل أسابيع قليلة الذكرى الثانية للهجوم الإرهابي الذي شهده أحد فنادق مدينة سوسة، غير أن مدة سنتين لم تكن كافية لمحو تبعات هذا الاعتداء الدموي الذي أودى بحياة 38 سائحا أجنبيا، حيث أغلقت العديد من النزّل و يواجه عشرات تجار المدينة شبح الإفلاس، وسط كل ذلك، لا يزال الجزائري وفيّا للوجهة التونسية، التي يقصدها حتى من أقصى غرب الوطن بحثا عن خدمات مُريحة لم يجدها في بلاده، و هو واقع وقفت عليه النصر في زيارتها لجوهرة الساحل التونسي، التي يبدو أن اقتصادها المعتمد على عائدات السياحة، لم يتعاف بعد.
إذا لم تزر مدينة سوسة من قبل، فقد لا يخطر ببالك و أنت في الطريق إليها برّا، أنك في طريقك إلى واحدة من أفخم الوجهات السياحية بمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، فالطرقات المؤدية إليها قدوما من الحمامات، كانت غير معبدة و مهترئة، حتى أن طريقة وضع الممهلات كانت عشوائية و غير خاضعة للمقاييس المعمول بها، بينما وجدنا أن معظم المنازل متواضعة جدا و لا تتألف من أكثر من طابق، كما لم تكن مطلية باللونين الأزرق و الأبيض اللذين تشتهر بهما منازل الجارة الشرقية.لكن مع الاقتراب أكثر من المنطقة السياحية سوسة- مرسى القنطاوي و الواقعة بالوسط الشرقي لتونس، تبدأ معالم الحداثة تتراءى للناظر شيئا فشيئا، إلى أن يجد نفسه وسط شوارع لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة في العواصم الأوروبية، خاصة من ناحية النظافة و فخامة بناياتها العصرية المحاطة بطرقات و أرصفة أنجِزت بإتقان و تناسق. معظم البنايات عبارة عن فنادق و مركّبات سياحية فخمة تطل على شاطئ البحر و تتوفر على خدمات متكاملة أغنت العديد من السياح عن الخروج من أسوارها، فيما تمتد على طول الشارع الرئيسي مراكز أعمال عصرية معروضة للكراء و بنوك و فضاءات تجارية كبيرة و كذلك مقاهي كانت طاولاتها تعجّ بالزبائن خلال ساعات المساء، فيما يبدو أن معظمهم تونسيون و جزائريون، بالنظر للوحات ترقيم السيارات المركونة بالقرب منه.
و أكثر ما يأسر زائر هذه المنطقة، هو تزاوج الحداثة مع الأصالة، من خلال عربات "الكاليش" التقليدية التي تجرّها الأحصنة، والتي تمرّ من حين إلى آخر مزينة بالزهور و الألوان الزاهية، حيث يركبها الكثير من السياح الأجانب و الجزائريين و يوجد بها موقف خاص بوسط المدينة، أين يأخذ الزوار صورا بقربها، فيما يفضل الكثيرون ركوبها مقابل حوالي دفع 6 دنانير لكل 5 كيلومتر، و هي تجربة خضناها و زاد سحرها صوت حوافر الأحصنة التي استطاعت أن تشق طريقها بسلاسة غريبة، رغم كل تلك المركبات التي كانت تسير بالشوارع الرئيسية و التي لاحظنا أن ترقيم العديد منها من ولايات الجزائر بجهاتها الأربع، أما القطار الخشبي المكشوف، فهو متعة أخرى، إذ لا يُعد وسيلة نقل فحسب، بل فرصة للترفيه من خلال ترديد الأغاني الجميلة على متنه على إيقاع “الدربوكة». مرسى القنطاوي القريب من مدينة سوسة، يُعدّ هو الآخر واحدا من أهم المرافئ السياحية في تونس، حيث فاق عدد الوافدين إليه خلال السداسي الأول من السنة الجارية بحسب إحصائيات رسمية أخيرة، 277 ألف سائح، مسجلا زيادة بنسبة 11 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، و هو رقم ترى السلطات التونسية أنه مؤشر على «عودة تدريجية للأسواق السياحية الكلاسيكية».لاحظنا أن الإقبال على القنطاوي يرتفع في ساعات المساء، و ما زاد من شعبيته وسط السياح، هو توفره على يخوت سياحية و أماكن للترفيه و التسلية تضم حديقة للحيوانات و مطاعم كبرى و حظيرة ألعاب وجدنا أنها مليئة بالعائلات الجزائرية، التي يظهر من لهجاتها أنها قدمت من عدة ولايات، إلى درجة أن من يدخل “حنبعل بارك” لأول مرة، قد يعتقد لوهلة أنه في الجزائر، فحتى الأغاني المشغلة كانت جزائرية، و الأعلام المعلقة جزائرية أيضا!
كما تُعد المدينة العتيقة لسوسة التي أدرجتها منظمة اليونيسكو ضمن التراث العالمي، واحدة من أهم المعالم السياحية، فقلاعها التي تعود إلى القرن التاسع ميلادي جعلت المكان أشبه بمتحف مفتوح، و لعل أبرزها مبنى الرباط و هو قلعة كبيرة شيدها الأمير الأغلبي زياد الله بن ابراهيم لحراسة المدينة من الهجمات الآتية من البحر الأبيض المتوسط، و كذلك المسجد الجامع الذي بناه الأمير الأغلبي أبو العباس محمد، و أيضا القصبة، و هي قلعة ضخمة تقع فوق ربوة، لتطل بمنارتها على كامل المدينة، مُشكلة منظرا بانوراميا فريدا يحاكي إلى حد بعيد مدينة غرداية. و لا يمكن دخول وسط مدينة سوسة دون التوغل في أزقتها العريقة و أسواقها المسقوفة التي تضم عشرات الدكاكين، حيث يختص أغلب التجار هناك في بيع السلع التقليدية من الألبسة إلى الحقائب الجلدية و الفخار و النحاس، حتى التوابل بروائحها المميزة و الحلويات التقليدية موجودة هنا، وسط نغمات الأغاني التونسية الصادرة من بعض المحلات، فيما صنع بائعو الفل و الياسمين ديكورا جميلا بهندامهم الكلاسيكي الأنيق و زهورهم البيضاء التي تنبعث منها روائح زكية، أما مُزّينات الحناء فتحوّلن إلى جزء من هذه المدينة، فهن نساء و فتيات يجلسن فوق كراسٍ قرب الأسوار أو وسط الطريق، و يضعن طاولات يعرضن عليها معدّات الحناء و النقوش التي يختارها الزبائن حسب أذواقهم، و الملفت أن العديد من النساء و حتى العجائز، يمتهنّ التجارة في “لبلاد عربي” مثلما يسميها التونسيون، حيث تنشط أغلبهن في بيع الألبسة النسوية التقليدية و خاصة “القندورة».
و الملاحظ أن السلع المعروضة تباع بأسعار مماثلة بين جميع تجار المدينة العتيقة، لكن هذا لا يمنع من مفاصلة التاجر الذي قد يخفض الثمن، و بشكل يدعو إلى الدهشة، إلى النصف أو ربما إلى أقل من ذلك بكثير إذا كان الزبون مصرّا و ملمّا بالأسعار. النصر كان لها حديث مع بعض التجار الذين أكدوا أن الهجوم الإرهابي الذي استهدف سياحا أجانب يوم 26 جوان من سنة 2015 بسوسة، شكّل نقطة تحوّل في نشاطهم الذي كان في الأصل متأثرا بعد أحداث الثورة التونسية في عام 2011، حيث أن مداخيلهم تراجعت بشكل كبير.رغم ذلك قال أحد تجار الفخار بتفاؤل “كل يوم برزقه”، حيث أسرّ لنا بأنه يعلق آماله على توافد السياح الجزائريين خلال فصل الصيف الذي يتزامن مع بدء الإجازات السنوية، خصوصا أنهم معروفون بأنهم أكثر إنفاقا مقارنة بالأوربيين و أيضا الروس الذين لا يعتبرون، برأيه، سياحا لأنهم لا يخرجون من عتبة الفندق. و خلال جولتنا التي لاحظنا فيها غيابا كليا للسياح الأجانب، باستثناء أعداد قليلة تُعدّ على الأصابع، لجأ أحد التجار إلى مناداة الجزائريين لدخول دكانه الذي كان خالٍ من الزبائن و راح يهتف “تفضلّوا يا الدزيرية»، بما يعكس حجم الأزمة التي يتخبط فيها تجار المنطقة، بعدما اعتمد نشاطهم طيلة السنوات الماضية على السياحة، في وقت أوردت تقارير صحفية تونسية مؤخرا، أن تجارا بمنطقة القنطاوي أغلقوا محلاتهم لمطالبة الحكومة بالتدخل بعدما أوشكوا على الإفلاس.
ليس التجار وحدهم من تأثروا من تراجع مداخيل السياحة، فقد تضرر العديد من الموظفين الناشطين في القطاع و كذلك سائقو «الطاكسي» الذين يشكلون العصب الحيوي لأي مدينة سياحية.. عز الدين هو واحد من عشرات سائقي الأجرة الذين لا زالوا يعانون من تبعات هجوم سوسة، حيث قال للنصر إنه ينشط في هذه المهنة منذ 25 سنة، و لم يشهد خلال هذه الفترة ركودا في الحركية السياحية كالذي سُجل في السنتين الأخيرتين، معلقا بحسرة “الأمور تغيّرت كثيرا بعد الثورة و الهجمات الإرهابية، ففي السابق كنت أقِلّ معي كل يوم سائحين جدد من مختلف الجنسيات حتى أني صرت أتكلم 5 لغات بحكم احتكاكي معهم”.أما رشيد و هو سائق طاكسي دردشنا معه قليلا خلال نقلنا من الفندق إلى وسط سوسة، فقد بدا أكثر تفاؤلا، و قال إن السياحة الداخلية التي بدأت تنتعش مؤخرا، يمكن أن تعوّض العجز الحاصل، لكنها تحتاج، برأيه، إلى التأطير، كما أضاف أن استمرار توافد السياح الجزائريين أو “الدزيرية» كما سمّاهم، و كذلك القرار الأخير الذي أصدرته بريطانيا بالرفع النسبي لحظر السفر عن رعاياها إلى تونس، سيكون لهما بالتأكد أثر إيجابي.. رشيد أرجع هذا القرار إلى التحسن الذي شهده الوضع الأمني لتونس، و يظهر ذلك بجلاء، من خلال التواجد المكثف الذي لاحظناه لرجال الأمن المسلحين في عدة محاور من المنطقة السياحية، فيما كانت دوريات الأمن السياحي و الشرطة تمّر باستمرار عبر الطرقات، و قد تصادف تواجدنا بمدينة سوسة في الأسبوع الأخير من شهر جويلية، مع احتضان هذه الأخيرة «كرنفال أوسو» الشعبي الذي اقتصرت المشاركة فيه على 4 دول تتصدرها الجزائر، حيث أشرف على اختتامه وزراء تونسيون بينهم وزير الداخلية الهادي مجدوب، بما فُهم على أنه رسالة طمأنة لاستقرار الوضع في تونس، بهدف تنشيط الحياة الثقافية و السياحية.
و قد التقينا ببعض العائلات الجزائرية خلال فترة تواجدنا بتونس، و كان من بينهن أسرة قدِمت إلى سوسة من ولاية وهران، بعد أن قضت 36 ساعة مشيا في الطريق على متن حافلة، حيث ذكر أفرادها أن السفر كان متعبا جدا، لكن وسائل الراحة و الترفيه التي يقولون إنهم لم يجدوها في الغرب الجزائري و لا حتى في المغرب، جعلتهم يتحمّلون كل هذا العناء. هذا التفسير لم يختلف كثيرا عمّا وجدناه عند العائلات القادمة من ولايات أخرى، كما أن سهولة قدوم الكثير منها بسياراتها الخاصة و استئجار منازل بدل الإقامة في الفنادق، شجّعها على القدوم إلى تونس، يأتي ذلك في وقت تتوقع السلطات التونسية بلوغ عدد السياح الجزائريين هذا العام المليوني سائح، بعد أن وصل إلى 1.5 مليون العام الماضي، فيما ساهم توافد الجزائريين على تونس، بأعداد هائلة خلال السنة الفارطة، في إنقاذ قطاع السياحة الذي يعتبر شريان الاقتصاد التونسي، خاصة مع تراجع السياح الأوربيين، كما استقطبت مدينة سوسة لوحدها ما يقارب 120 ألف سائح جزائري العام الماضي فقط، لتأتي في المرتبة الثانية بعد مدينة الحمامات.
روبورتاج و تصوير: ياسمين بوالجدري