فوضى الغرس و التقليم تفسد الغطاء النباتي الحضري
يتسبب الإهمال الذي طال الأشجار الغابية والمثمرة المغروسة في الوسط الحضري بقسنطينة، في تشويه المنظر العام بشكل كبير مع اهتراء أجزاء من الأرصفة وتدلي أغصان هشة ما يهدد سلامة المواطنين، ويرى مختصون في البيئة والعمران أن تقليم الأشجار يجب أن يتم وفق برنامج مضبوط قائم على أسس علمية يطبقها خبراء في المجال، حتى نستفيد من الغطاء النباتي بيئيا وجماليا.
رميساء جبيل
أغصان تعيق المارة وأشجار تحجب الرؤية
وقفنا خلال جولة استطلاعية، شملت عددا من النقاط بوسط مدينة قسنطينة، على تراجع في الاهتمام بالغطاء النباتي، فعلى مستوى حي فيلالي الذي يتميز بكثافة وتنوع الأشجار المحيطة بالمساكن والمؤسسات، كان المنظر فوضويا بفعل تناثر أوراق الشجر في الطرقات و على الأرصفة وعند مداخل العمارات، مع وجود عدد من الأغصان المكسورة و المرمية بشكل يعيق حركة السير، فضلا عن إهمال مساحات خضراء مخصصة للجلوس، والتي نمت أشجارها بشكل كبير جدا و تدلت أغصانها بطريقة باتت معيقة للحركة، كما أنها تشابكت كثيرا للحد الذي شكل حاجزا أمام الأشعة، ما حرم النباتات الصغيرة المزهرة من الضوء الذي يساعدها على النمو.
بعض السكان عبروا للنصر، عن انزعاجهم من الغرس العشوائي لأشجار لا تتناسب على حد قولهم مع الأوساط الحضرية داخل المدينة، قائلين بأنها تسببت في تكاثر الحشرات والقوارض، خصوصا خلال فصل الصيف، فالوضع حسبهم لا يطاق، فيما قال آخرون أن بعض الأشجار صارت ضخمة جدا و قد تجاوز ارتفاعها طول العمارات ما بات يعيق عملية تهوية المنازل و يتسبب في غلق النوافذ و الشرفات طوال السنة.
واصلنا السير باتجاه عمارات « السطوح» أين تتجاور أشجار مثمرة وأشجار نخيل مع أشجار ميتة عند مداخل العمارات، بعضها مائل و متهاو بشكل يوحي بأنها قد تقع على المارة في أيه لحظة، خصوصا وأن جذوعها جافة جدا ومتضررة، أما المساحات المحاذية للبنايات فتغطيها أوراق الشجر التي تشكل في كل زاوية كومة تجمع النباتات بالقمامة ما شوه منظر المجمع السكني.
وأخبرنا مواطن خمسيني، أن الأشجار المغروسة لا تلقى اهتماما من أحد، حيث لا يتم تقليمها إلا نادرا الأمر الذي تسبب في تحسس كثيرين من حبوب الطلع المتناثرة في الهواء خصوصا في فصل الربيع، ناهيك عن تشابك الأغصان مع الأسلاك الكهربائية من جهة وسقوط بعضها من جهة ثانية، وهو تهديد صريح حسبه لسلامة المواطنين.
غابات وسط الأحياء
توجهنا بعدها إلى محطة نقل المسافرين الشرقية «صحراوي»، أين تنمو النباتات والأشجار بشكل عشوائي على طول الطريق المحاذي للأقواس الرومانية، ما انعكس سلبا على جمالية المحيط، وعند اقترابنا من المكان تبين أنه تحول إلى أشبه بمفرغة فكثافة الغطاء النباتي الأقرب إلى الغابة، دفعت بالبعض إلى استغلال غياب الصيانة لرمي القاذورات فيه، كما شد انتباهنا وجود أغصان تعيق حركة المارة، لدرجة أن المرور من هناك يتطلب الانعطاف أو تغيير المسار.
ويتكرر الأمر نفسه على طول الطريق المقابل لجهة محطة « صحراوي» اليمنى، والتابع لحي بن تليس، أين تحولت المنطقة جراء كثافة غطائها النباتي الذي يمتد بشكل عشوائي، إلى أشبه بغابة وسط مدينة، حيث تتدلى فروع الأشجار وأوراقها على طول السور المتواجد بالمكان مع ظهور نباتات ضارة وأشواك، حسب شاب التقينا به فإن المنطقة مهملة منذ مدة طويلة لدرجة أنها باتت أقرب إلى غابة استوائية.
سكان من الحي، أخبرونا بأن مشكل سقوط أغصان الشجر بات متكررا و يطرح كمعضلة حقيقية تهدد سلامة الكبار و الصغار و المنازل و السيارات، ناهيك عن تسبب الأغصان في قطع الأسلاك الكهربائية خصوصا عند هبوب رياح قوية.
* حمزة جعلاب متخصص في العمران البيئي
توزيع الغطاء النباتي في المدن يستوجب تخطيطا تقنيا
يرى المختص في العمران البيئي المهندس حمزة جعلاب وهو رئيس اللجنة العلمية لجمعية حماية الطبيعة والبيئة بقسنطينة، أن الهدف من المساحات الخضراء لا يقتصر على تجميل المناطق الحضرية فقط، فالأشجار ضرورية لإقامة مدن صحية صالحة للعيش باعتبار أنها رئة الكوكب الأزرق، فهي تساهم في التخفيف من وطأة التغيرات المناخية وتحسن التهوية في المدن وتنقيها ناهيك عن زيادة التنوع البيولوجي فالشجرة الناضجة يمكن لها أن تمتص ما يصل إلى 150 كيلوغراما من ثاني أوكسيد الكربون بشكل سنوي. ويؤكد المهندس، أن التخطيط المسبق والمدروس لمواقع الأشجار في المدن، من شأنه أن يساعد في تبريد الهواء من درجتين إلى 8 درجات مئوية، وبالتالي الحد من تأثير «الجيوب الحرارية»، مضيفا، أن الأشجار العملاقة تلعب دور المرشح ضد الملوثات الحضرية، وسدا منيعا في وجه السيول الفيضانية، كما تقلل من خطر الانجراف وانزلاقات التربة، لذا يقلل زرع الأشجار حول المباني حاجة المواطن لتكييف الهواء بنسبة تصل إلى 30 بالمائة.
ويضيف جعلاب، أن عملية الغرس والتقليم يجب أن تتم وفق مخطط تقني، و تتحدد بناء على مواعيد وكيفيات فالتقليم مثلا مرتبط بالكميات، ويمكن حصره في موعدين أولهما شتوي و الثاني صيفي، يمكن أيضا أن يكون متواصلا ومستمرا و يجرى في أي وقت، خصوصا ما تعلق بإزالة الفروع الجافة والمكسورة والمصابة بأمراض معينة.
و تختلف طرق إجراء التقليم، و تتمثل في التقصير بإزالة جزء من الفروع، إلى جانب أنواع أخرى متمثلة في تقليم «التربة والإثمار والتجديد والعلاج»، ويمكن أن يكون تقليما خفيفا أو متوسطا سواء على مستوى قمة الشجرة أو في جذورها.
وتكمن فوائد تقليم الأشجار، في تنظيم نموها بالتخلص من الشجيرات الجانبية التي تؤذي الفرع الرئيسي، مع إزالة الفروع والأغصان التالفة والميتة التي تجهد الشجرة والتخلص من الفروع الضعيفة والعمل على تجديدها، وعند مراعاة كل هذه التدابير نكون قد حافظنا حسبه، على المظهر الجمالي للمدينة، إلى جانب التحسين من الصحة العامة للأشجار، وخلق مساحات يعبر من خلالها الهواء وأشعة الشمس إلى الأوراق، فالضوء كما قال، أمر ضروري في عملية التمثيل الضوئي، أما عدم تقليمها فسيتسبب لا محالة في تطاير الفروع الميتة بفعل الرياح، نظرا لتحللها وهشاشتها، ما يشكل خطرا يهدد سلامة الإنسان وممتلكاته.
ليست كل الأشجار صالحة للمدن
ودعا المتحدث، إلى ضرورة تكثيف الجهود من أجل العناية بتقليم الأشجار، كونها كائن حي ينمو ويكبر ويشيخ مثل الإنسان تماما، مع الانتباه إلى نوعية ما يغرس في المحيط الحضري، فليست كل الأشجار صالحة، فمنها ما يتسبب في إصابة كثيرين بالحساسية وأخرى تتميز بانتشار جذورها بشكل كبير تحت الأرض، ما يؤدي إلى تشقق الطرقات وبعض المباني واقتلاع بلاط الأرصفة، مشيرا إلى وجوب اختيار المكان المناسب للغرس، للوصول إلى الهدف الأساسي وهو تشكيل حدائق عامة نظيفة وذات مظهر مرتب يضفي جمالية على المنظر العام ويشعر الأفراد بالراحة النفسية.
* بوجابي نوال أستاذة بمعهد التسيير والتقنيات الحضرية
التأطير ضروري في عمليات الغرس والصيانة
من جانبها، ترى الأستاذة بمعهد التسيير والتقنيات الحضرية بجامعة قسنطينة 3 بوجابي نوال، أن المساحات الخضراء المغروسة في المدن والأوساط الحضرية، لها فوائد بالغة الأهمية تؤثر بشكل كبير على الإطار الحضري والمعيشي للإنسان من ناحية الأبعاد البيئية والجمالية والصحية وحتى الاجتماعية. وقالت إن الدراسات والملاحظات لطالما تطرقت إلى إشكالية النقص الكبير في المساحات الخضراء بالمدن مع إهمال عمليات الغرس والتشجير التي من شأنها أن تحقق التوازن الإيكولوجي، لهذا وجب العمل على تكثيفها من أجل الوصول إلى المعدلات المنصوح بها عالميا.
في المقابل، تقول بوجابي، أنه من الجدير طرح معضلة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وتتعلق أساسا بكيفية تسيير وصيانة هذه المساحات الخضراء، وتسليط الضوء على الأضرار الناجمة عن اختلال إحدى هذه العمليات فعند التطرق إلى زبر وتقليم الأشجار، نجد حسبها، أن غالبية الأشجار التي يتم غرسها بمحاذاة الطرقات أو فوق الأرصفة وحتى بالمساحات العمومية والتجمعات السكنية تنمو بشكل عشوائي، ما يشوه مظهر المدن والأحياء ويقلل من جماليتها، فضلا عن التسبب في حوادث مرورية فالأوراق والأغصان المتدلية والأشجار الضخمة من شأنها حجب الرؤية عن مستعملي الطريق من سائقين وحتى راجلين.وتتأسف المتحدثة، لعدم الاهتمام الكافي بعملية التقليم والصيانة، فقلما يتم القيام بها وتكون في غير فتراتها الموسمية المناسبة، وأرجعت ذلك إلى أسباب عديدة على رأسها التكلفة المالية، فضلا عن قلة الإمكانيات التي تتوفر عليها مؤسسات التسيير من أجل تغطية مثل هذه العمليات خصوصا على مستوى المدن الكبرى.
وتؤكد في ذات السياق، وجوب اختيار عينات من الشجيرات والأشجار التي تتلاءم مع الوسط الحضري وغرسها من طرف مختصين أكفاء لتفادي تسجيل أية مشكلات خصوصا على مستوى الحواجز التي تفصل بين الطرقات، قائلة، إنه يحبذ أن يتم غرس شجيرات صغيرة من نوع « إكليل الجبل» كون طولها لا يحجب الرؤية على سائقي المركبات، ناهيك عن تأقلمها بشكل جيد مع الأوساط الحضرية.
مخاطر غرس النخيل في المحيط العمراني
أما على مستوى المجمعات السكنية والأرصفة فلا ينصح بغرس أشجار ضخمة من عائلة النخيل و الصنوبر، كون جذورها تمتد بشكل كبير، الأمر الذي من شأنه الإضرار بأساسات البنايات والمنشآت، فضلا عن لزوم الانتباه للمسافات الكافية بين كل شجرة وأخرى لعدم تداخلها وتشابكها وكذا بين الأشجار العملاقة والبنايات.
ودعت المتحدثة، إلى ضرورة تأطير عمليات الغرس والصيانة من طرف مختصين وخبراء في المجال، وذلك في إطار عمل جماعي ورؤية إستراتيجية شاملة لتسيير وصيانة وتجديد المساحات الخضراء على مستوى المدن والأوساط الحضرية، مع إشراك المواطنين والمجتمع المدني ضمن حملات تحسيسية توعوية، من أجل مدينة خضراء بهية وصحية.