إن نظام الميراث في الإسلام الذي تولى الله تعالى بذاته العليا تحديد الأنصبة وبيان المستحقين لها من الرجال والنساء على حد سواء في سورة النساء، ولم يكن الاجتهاد في مسائلها إلا نادرا في قضايا ومسائل معدودة كالحجرية أو العمرية أو ميراث الجد؛ ولما التزم المسلمون منهج الله واتبعوا أوامره في كيفية تقسيم التركة، كان وما يزال سببا في سعادة المجتمع المسلم واستقراره؛ لكن عندما يبتعد البعض عن منهج الله، فيحكم من ليس لهم علم ولا دراية بأحكام الشرع الحنيف في التوريث يدب الخلاف وتنتشر الخصومات والنزاعات في أوساط الأسر الجزائرية وتقطع الأرحام وتتأجج العداوات.
حيث نصب بعض العامة من الناس أنفسهم فرضيين وفقهاء يوزعون التركة على أهل الميت من غير هدى ولا كتاب منير، دون إشراك أهل العلم في عملية القسمة، فحين أخبرني البعض عن كيفية القسمة أسقط في يدي، كما تعرض علينا في مجلس الإفتاء الكثير من القضايا والصور التي يقع فيها الظلم والجور في قضية
والعلم بالمواريث جليل القدر عظيم الفائدة وردت النصوص المتواترة والمتضافرة على بيان أهميته والحث عليه؛ حيث ذكر القرطبي رحمه الله تعليقا دقيقا على آية ميراث الأولاد هذه يقول رحمه الله تعالى: «هَذِهِ الْآيَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْأَحْكَامِ، وَأُمٌّ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْفَرَائِضَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ حَتَّى إِنَّهَا ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ نِصْفُ الْعِلْمِ. وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ وَيُنْسَى رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ أول شي ينسى وهو أول شي يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ، مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جُلَّ عِلْمِ الصَّحَابَةِ، وَعَظِيمَ مُنَاظَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الْخَلْقَ ضَيَّعُوهُ. وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ عبد الله ابن مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمِ الْفَرَائِضَ وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ فَبِمَ يَفْضُلُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: مَنْ تَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَسْرَعَ مَا يَنْسَاهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ»
ولعلنا بالرجوع إلى هذه النصوص يتبين لنا استشراف النبي صلى الله عليه وسلم لما ستكون عليه أمته في أواخر الأزمنة حيث يتخذ الناس رؤسا جهلة يفتونهم بجهل فيَضلون ويُظلون ويحتكمون إلى أعراف بالية ومقولات ما أنزل الله بها من سلطان وأود في هذه السانحة أن أنبه إلى بعض القضايا الأساسية والمسائل المهمة لعلنا ندق بها نواقيس الخطر للعودة لمنهج الله تعالى وإرجاع الحقوق إلى أصحابها:
أولا: كل من نصب نفسه مفتيا بغير علم فقد نصب نفسه مشرعا من دون الله تعالى وليتذكر قوله تعالى {ولا تقف مالا ليس لك به علم إن البصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا} وليتذكر قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:{أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّار}.
ثانيا: منع المستحقين للميراث ظلم ليس بعده ظلم وليس شيء شدد الباري تبارك وتعالى عن النهي كالظلم حتى حرمه على نفسه فقال في الحديث القدسي:{ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا} ولقد جعل الله الظلم سببا لهلاك الأمم والشعوب فقال في محكم التنزيل:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ..} تذكر أيها المسلم لما تقف بين يدي الله وتقف أخت أو بنت أو أم أو زوجة أب حرمتها حقها فعاشت بسبب ظلمك وتعسفك فقيرة معوزة تتكفف الناس وقد جئت بصلاة وصوم وحج وزكاة ولكن لا ينفعك كل ذلك وتكون تلك المظلمة عائقا لدخولك الجنة وحرمانك مرافقة الحبيب المصطفى وتكون بسبب تلك المظلمة من الذين قال فيهم الحق تبارك وتعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناهم هباء منثورا}
ثالثا: وهي كما يقال في المثل العربي ثالثة الأثافي، أن تكون بجهلك قد أتيت على مال اليتيم ومستحقات القصر فمنعتهم حقهم هذه الطبقة الهشة في المجتمع قد أولاها الإسلام عناية ما بعدها عناية ففضلا عن التوجيه القرآني بوجوب الإحسان إليها ورعايته؛ فقد أوصى الله تعالى برعاية حقوقهم المالية من وجوب التصدق عليهم وتخصيص مبالغ من واردات بيت المال أو الخزينة العامة لرعيتهم والتكفل بهم إلى وجوب حماية أموالهم من أي اعتداء أو تلاعب فحرم الله تعالى أكل مال اليتيم فقال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ولم يقف الأمر عند حرمة التلاعب بأموالهم بل دعانا الإسلام إلى وجوب استثمار أموالهم وتنميتها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة} وأمرنا القرآن بدفع أموالهم إليهم عند بلوغهم سن الرشد لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} وهذا ما تنبه إليه الخلفاء والأمراء فأسرعوا في ترتيب الأوصياء على أموال اليتامى، وأحاطوا ذلك بأحكام فقهية تضمن لليتامى حقوقهم المالية حتى يشتد عودهم، بل كان من روائع حضارتنا القضائية أن رتب الخلفاء والأمراء والسلاطين قضاة عرفوا بقضاة المواريث.
ضرورة مراعاة أحوال الناس عند مخاطبتهم
تمر بالإنسان لحظات يخرج فيها عن طبعه الطيب، واتزانه الذي عهدناه به، وذاك العقل الراجح الذي ألفناه، فلا يطيق أن ينبس ببنت شفا، أو يسمع كلاما في قالب نصيحة، أو حتى يقابل إنسانا ولو كان أقرب الناس له، فعلينا مراعاة ذلك وعدم حمل المسألة محملا شخصيا، فنزيد هموم بعضنا، وأن الروح تمرض كما يمرض البدن.
ففي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنموذج الفاعل؛ فعلى الرغم من أنه عانى من أهل الطائف أشد المعاناة بما فاق معاناته في عام الحزن وفي غزوة أحد حين استشهد فيها عمه حمزة وسبعون شهيدا، وعزوف آهل مكة عن الإيمان؛ حيث سلط سيد الطائف عليه السفهاء فرشقوه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه الشريفتين. فتسأله عائشة بعد سنوات: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ فيحدثها عن يوم الطائف، ويكشف أنه كان أشد من يوم أحد، فبعدما رموه بالحجارة وأخرجوه، يقول صلى الله عليه وسلم: انطلقت وأنا مهموم على وجهي ولم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، وقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين.
علم صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وأن الدين سينتصر في نهاية الأمر، وأن الله معه، لكنه إنسان، يحزن، ويضيق صدره ويصيبه الهم، فسار صلى الله عليه وسلم لا يدري أين تأخذه قدماه، ثم يستفيق فيجد نفسه مشى مسافة بعيدة عن الطائف تسمى قرن الثعالب. وهو من هو، الذي لو جمع إيمان أهل الأرض في كفة وإيمانه في كفة يرجح إيمانه، فيقينه فوق يقيننا، وصبره أقوى من صبرنا، فما بالك نحن، فلنا مبرر أن ننكسر أحيانا ونمشي حيث لا ندري أين قادتنا أقدامنا.
إذا صادفت صديقا لك ضجرا فلا تكن هما فوق همه، كن له قرن الثعالب الذي يستفيق عنده، احترم حزنه وألمه وحاجته في البقاء وحيدا، وحين يهدأ، ربت على كتفه، حدثه حديث قلوب وأرواح، فالنفس لحظة انكسارها تحتاج احتواءً لا درساً، والروح لحظة تيهها تحتاج احتضاناً لا محاضرةً.
فضعفنا ليس بالضرورة من قلة إيمان ولكن بسبب قسوة الحياة، فإيمان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ضعيفا يوم الطائف، لكن الحياة قاسية، وعلم الله حاله من وجع وانكسار، لم يعاتبه لأنه هام على وجهه؛ بل أرسل ملائكة، تحفه وتريد الانتصار له، علم الله أنه إنسان بشر، وأن الناس تمر بهم لحظات ضعف تحتاج عندها قلبا حنونا لا فيلسوفا أو لسان خطيب.
عوامل نجاح الإمام في رسالته المسجدية
أخي الإمام الحبيب
ليكن همُّك ابتداء الدعوة إلى الله تعالى لا الوظيفة .و أعلم بأن طريق الدعوة محفوف بالابتلاء لذلك كانت وصية القرآن للمتواصين بالحق أن يتواصوا بالصبر .
كن في مسجدك إماما للجميع على مسافة واحدة من كل المصلين لتأخذ صفة الداعية المصلح، واكتسب مهارة التخطيط لبرامج مسجدية نافعة، ومهارة التواصل والتأثير مع الجماهير التي تقصدك، ومهارة جمع الكلمة وتوظيف العاملين معك في المسجد ولا مانع من أن تتدرب على ذلك، وأحسنُ طريقٍ لعملٍ دعويٍ ناجحٍ هو الثباتُ في مسجد واحد ما أمكنك ذلك فالنبات حيث الثبات، ومن قضى حياته متنقلا بين المساجد ضاع منه غراسه وشتت مجهوده الدعوي.
اعتنِ بتحصيلك العلمي فلا تنقطع عنه أبدا، واهتم بتربيتك الروحية فهي زادك في الطريق، وكن حسن اللباس جميل المظهر حسن السمت فأنت صورة الإسلام في أعين العامة.
ثمَّ اعلم أخي الخطيب أن نجاحك في أمانة اعتلاء المنبر هو مراعاة مقاصد الخطبة وشروط نجاحها ومنها :
أن تكون قصيرةً مركزة على هدفٍ واضحٍ، لا طويلة مُمِلَّةً ومشتِّتةً للأذهان .وأن تكون بلغةٍ فصيحةٍ واضحةٍ مفهومةٍ ، لا تكلُّفَ فيها ولا إِغْراب. وأن تراعيَ فيها الواقعَ وتخاطبَ النَّاس بلسانِ حالِهم، لا بعيدةً عن واقع المخاطَبين. وأن يخرج كلامُك من أعماق قلبك وشِغافِ روحك، لا من لسانك فقط دون شعور، فاللسان ناطقٌ ولكنَّ الروح تستمع للرُّوح.