لقد أظهرت الثورة التحريرية المظفرة من خلال وثائقها الأساسية وأدبياتها، ومن خلال ممارستها الميدانية مدى حرصها على الالتزام بالقيم الأخلاقية الإسلامية والإنسانية، في علاقاتها البينية بينها وبين ثوراها أو فيما بينها وبين الشعب الجزائري ومجتمعه حاضن الثورة وداعمها، أو فيما بينها وبين الآخر المستعمر الغاشم أو المخالف لها في الدين، ويمكن للباحث المنصف أن يقدم الثورة الجزائرية كأنموذج حي لاحترام أخلاقيات الحرب الإنسانية والقوانين الدولية والتشريعات الدينية، ليس بالمفهوم الكامل للأنموذج بل بالمفهوم النسبي الذي يقارن بغيرها من تجارب الأمم والشعوب المعاصرة في ثوراتها وحروبها، وتستقي منه عبرا وعظات تقتدي بها تحقيقا لعدالة الإنسانية ومقتضياتها، بخلاف الصورة التي ظهر عليها المستعمر وهو ينتهك كل الأعراف الدولية والأخلاقيات ويتجاوز القوانين الدولية، ممارسا شتى أساليب التعذيب والقتل والإبادة والقمع لشعب عقد العزم أن يحيا وطنه وشعبه حرا فوق أرضه على غرار الشعوب الحرة؛ شأنها في ذلك شأن الاحتلال الصهيوني الذي ينتهك على مرأى العالم كل الأخلاقيات والقوانين، في جريمة إبادة كثر شهودها بشرا وحجرا، صوتا وصورة، ورغم ذلك لم تتوقف بعد ولم يسف فاعلوها للمحاكم الدولية، وفي هذا الملف رصد لبعض قيم الثورة التحريرية من زوايا مختلفة، على هامش ملتقى وطني عقد بجامعة الأمير حول قيم الثورة عشية ذكراه السبعين.
ثورة التحرير أعادت قيم العدالة الشرعية للقضاء
يعتبر القضاء الشرعي في الجزائر امتدادا للقضاء الإسلامي، الذي حكم منذ عهود عديدة فهو وسيلة لنصرة المظلوم وردع الظالم عن ظلمه وإيصال الحق إلى أهله وإصلاح بين الناس بالحق، والله يحب من يقضي بالحق قال الله تعالى:"وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين"، والمجتهد فيه مأجور أصاب أو أخطأ ففي الحديث -"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
ولا شك أن النظام القضائي الشرعي من أهم مؤسسات الدولة وأعظمها أثرا، لأنه المقياس الذي يعكس درجة وعي المجتمع وفاعلية مؤسساته. وإقامته يعني حفظ الكليات الشرعية الكبرى التي جاء الإسلام بحفظها، والمجتمع الذي يقيم نظام العدل هو ذاك الذي يهيئ كل فرد فيه للحياة الآمنة والعيش الكريم، حتى ينتظم المجتمع ويزدهر، ونظرا لهذه المكانة حرص الاستعمار الفرنسي على تحطيمه على اعتباره بصمة للهوية الجزائرية الإسلامية ورمزا من رموزها السيادية، بالتضييق على القضاة ومصادرة الشريعة، واستبداله بمنظومة قضائية هجينة على المجتمع الجزائري ومرجعيته الدينية والتاريخية والحضارية.
كان القضاء في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي يمثل سلطة الدين، والتي تعني الهوية العربية الإسلامية للجزائريين، فالقاضي يمكن أن يكون إماما ومدرسا وخطيبا، وقد أولاه العثمانيون اهتماما كبيرا، فأسسوا له ما يساير طبيعة المجتمع حينها، محاكم ومفتون وقضاة على المذهبين الحنفي والمالكي.
وإبان الاحتلال كانت مؤسسة القضاء محل صراع بين فرنسا التي كانت تريد إدماجها تماما في النظام القضائي الفرنسي وبين الجزائريين الذين يرون فيها نظاما يحافظ على شخصيتهم الإسلامية، ونتيجة لتمسك الجزائريين بنظامهم القضائي، اتبعث السلطات الفرنسية سياسة التدرج في تغيير النظام القائم ليحل محله النظام الفرنسي. فأدخلت بعض القضاة الجزائريين للعمل في محاكمها وأصدرت سلسلة من القوانين تتناسب مع السياسة الفرنسية في الجزائر وتتجه نحو الادماج التام للقضاء الإسلامي في النظام الفرنسي.
وبعد سلسلة المقاومات الشعبية كان القضاء من ضمن المسائل التي أولتها جبهة التحرير الوطني، كممثل وحيد للجزائريين وسلطة وحدوية تجمعهم وحرصت على استرجاعه وتنظيمه، كان إنشاء جبهة التحرير لنظام قضائي جزائري مستقل برهان على تمسكها بالسيادة الوطنية، وبهذه المؤسسة تضمن جبهة التحرير الوطني اتصالها الدائم بالمواطنين وتوحيد صفوفهم وجمعهم بصبر وأناة حول قيادة الثورة، حيث شجعت المترددين وعاقبت الخونة وأصلحت بين المتخاصمين، وبذلك كان نظام القضاء إحدى الوسائل الناجعة في محاربة المستعمر. ويعتبر مؤتمر الصومام 20 أوت 1956 بمثابة وثيقة تنظيمية لمؤسسات الدولة الجزائرية، وقد اهتمت بكل جوانب الحياة كالصحة، والتعليم، والجيش، والاقتصاد، والاتصال، والعلاقات الخارجية، وتنظيم القضاء، وأثناء انعقاد هذا المؤتمر تقرر تشكيل اللجان الشعبية التي تتكون من أربعة أعضاء ورئيس وأسندت مهمة القضايا العدلية إلى هذه اللجان.
وكل هذه الجهود التي بذلت من طرف جبهة التحرير الوطني في إصلاح القضاء، أثمرت قيما إسلامية وإنسانية أدت إلى تماسك المجتمع وتعاونه في دحر الاستعمار الفرنسي ومن ذلك:
-يهتم مجلس القضاء كثيرا بالحالة العامة للمجتمع، فلا يكتفي بحل مشاكل المواطنين، وإنما يحافظ عليهم من الفساد والانحلال ويصونهم، ويرى أنه لا يصلح المجتمع إلا إذا كان متمسكا بعقيدته ودينه، ويراقب المجلس مدى تمسك المواطن بشعائر دينه ومنها الصلاة؛ ففي هذه المجالس حث المواطنين والجنود على السواء على أداء الصلاة، ويرى مجلس القضاء أن تارك الصلاة لا يرجى منه خير لوطنه ولا ينتظر منه الإخلاص، فالذي يتهاون في أوامر ربه من المحال أن يخلص لوطنه بل لقد أعلن مجلس القضاء صراحة أنه من يتهاون في الصلاة وفي أمور دينه لا يمكن اعتباره مجاهدا.
-ويهتم القضاء كثيرا بالمجتمع وصيانته من الفساد الأخلاقي فهو يوصي بالأخلاق الفاضلة ويتعجب أن تتجرد الأمة الإسلامية من مثلها العليا التي جاء بها محمد –صلى الله عليه وسلم-ويؤكد على المسؤولين أن ينشروا الأخلاق الفاضلة ويكونوا قدوة لغيرهم وينهوا عن الكذب والزور وإخلاف الوعود والسب والشتم وهضم حقوق الغير وغير ذلك مما نهى الله عنه، ويوصي المجلس المسؤولين أن يكونوا قدوة للأجيال القادمة.
نداء جمعية العلماء المسلمين قطع الحكم الفقهي في وجــــــــوب دعــــــــــم الثـــــــــــــورة
يعد نداء مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القاهرة إلى الشعب الجزائري، بتاريخ: 15 نوفمبر 1954 م، وهو بعنوان: «نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد: نعيذكم بالله أن تتراجعوا». ذا قيمة تاريخية وفقهية من ناحية تاريخ صدوره؛ فقد كتب بعد نصف شهر من اندلاع الثورة، ومن ناحية هيئته العلمية، وهو مكتب الجمعية بالقاهرة برئاسة الإمام الإبراهيمي وبمعيَّة الشيخ الورثيلاني، وهم فقهاء في الشريعة الإسلامية.
وبعد فحص البيان واستبطانه؛ اتضح أن البيان مؤيِّدٌ لشرعية الثورة بلا امتراء، وقد ألبسها سربال الجهاد المشروع. وأن البيان احتكم إلى المرجعية الفقهية الشرعية، وإن نحى منحى الخطاب الإعلامي. كما قطعَ البيانُ في الحكم الفقهي لنصرة الثورة، وتميَّز بالصرامَةِ في إطلاق أحكام الردة على من ينصر المستدمر، ويرضى باحتلاله.
إضافة إلى ذلك فقد عوَّلَ البيان على العاطفة الدينية عند الشعب الجزائري، ووظَّفها في التحريض على الثورة، ولم يعتبر البيان التفاوت في القوة بين مجاهدي الثورة والمحتل الغاشم؛ حيث عدَّ البيان الثورةَ ضرورةً لا خيارَ في خوضها، ولا اعتبار لأيِّ شرطٍ في نُصرتها. ونسَفَ شبهة التعاون مع المحتلِّ مع دعوى حسن النيَّةِ، ورفض الاستناد إلى الضرورة إلا في شؤون الأفراد لا الأمة والجماعات. كما حرص البيانُ على الوحدة الوطنية في ظل مبادئ الإسلام، وهو ما يتماهى مع بيان أول نوفمبر 1954م.
هذه نماذج من أخلاقيات جيش التحرير الوطني
أ.دري سميحة، جامعة محمد بوضياف المسيلة
يعتبر موضوع الأخلاق والضوابط الأخلاقية، من أهم الدلائل التي تبرز لنا المثل العليا في المجتمعات البشرية عبر حضاراتها المتعاقبة بغض النظر عن اختلافاتها العقائدية والدينية وبما تحمله من مبادئ وضوابط تساهم في تقويم سلوك البشر داخل مجتمعاتهم. وموضوع أخلاقيات الثورة التحريرية الجزائرية، يعتبر من أهم المواضيع في أدبيات الثورة الجزائرية مكنتها من أن ترقى إلى مصاف الثورات العالمية، باعتبار أن الأخلاق هي انعكاس واضح عن الواقع الميداني للثورة التحريرية الجزائرية، وإقرار بالضوابط والمبادئ الخلقية التي أقرتها في مواثيقها، وفرضتها في ممارساتها اليومية، والتزامها الأخلاقي في تعاملاتها مع الآخر كالأقليات الأوروبية المتواجدة بالجزائر، مع احترام معتقداتهم الدينية والعقائدية، أو في تعاملاتها مع الأسرى وفق ما أقرته الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الأسرى.
وقد حرصت جريدة المجاهد الناطق الرسمي لجبهة التحرير عبر صفحاتها، على طرح نماذج عن أخلاقيات الثورة الجزائرية التي استنبطتها من القرآن الكريم وسيرة سيد الأنبياء محمد (ص)، مرسخة مبدأ احترام كرامة الآخر، وخلق تلك اللحمة الطيبة بين مجاهديها جسدها ذلك التكامل والتلاحم بين أفراد المجتمع.
ومن بين النماذج التي ذكرتها جريدة المجاهد نجد: الانضباط داخل الثورة عن طريق إصدار مجموعة من التعليمات لأجل تعليم جيش التحرير مبادئ الشرف واحترام المدنيين والأبرياء، ومن بين هذه التعليمات: وتحريم الإعدام ذبحا، وتحريم التمثيل بالشخص أو تشويه خلقته، كما نصت هذه القوانين والإجراءات الانضباطية على منع التعدي على عرض أي فتاة أو امرأة، وسنّت عقوبة الإعدام للمخالفين لهذا الأمر، بعد عرضه على محاكمة شرعية وقانونية. احترام الآخر: كالأقليات الأوروبية المتواجدة بالجزائر. تعاملهم مع الأسرى، تعامل الفرنسيين مع الأسرى الجزائريين.
وبذلك تكون الثورة التحريرية الجزائرية أعطت صورة جميلة عن عدالة القضية الجزائرية، الأمر الذي أكسبها التعاطف العالمي مع قضيتها، وما الصورة الحية التي نقلها صحفيو مختلف الوكالات الأجنبية عما عايشوه في معاقل المجاهدين بالجبال من خلال نقلهم شهادات الأسرى الفرنسيين خير دليل على ذلك.
الثـــــــورة حرصــــــت علـــــى تأكيــــــد مبــــــدأ التســامـــــح الدينــــــــي
أ. آمال معوشي جامعة المسيلة
لقد خاطبت الثورة الجزائرية كل أطياف المجتمع الجزائري دون تمييز عنصري أو ديني أو عرقي، واحترمت الحريات الأساسية مؤكدة أنها ليست «حربا دينية ولا حربا أهلية»، بل هي ثورة على الظلم والاستعباد الخصم الوحيد فيها هو الاستعمار الفرنسي نفسه وأعوانه، وركزت على الهدف الأساسي وهو الاستقلال الوطني، وجعلت منه قضية جميع الجزائريين دون استثناء بما في ذلك يهود الجزائر، حيث راعت ماضيهم وأصولهم الجزائرية رغم الجنسية الفرنسية التي يحملونها، فخاطبتهم ووجهت لهم عدة نداءات من خلال نصوصها الأساسية، كما وجهت لهم عددا من الرسائل والمناشير، من أجل توضيح موقفهم والتحاقهم بالثورة باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من المجتمع الجزائري
ويبدو أن أدبيات الثورة تجاه يهود الجزائر قد غلب عليها عموما مبدأ التسامح الديني، الذي يعد عنصرا راسخا ومن ثوابت الدين الإسلامي، وبهذا أقامت الثورة الجزائرية الحجة على اليهود من جهة، وأثبتت من جهة أخرى أنها ثورة قائمة على المبادئ الإنسانية بعيدة عن كل أصناف التمييز العنصري، ومن بين رسائل الثورة لليهود الرسالة التي نشرت في جريدة المجاهد المؤرخة في الأول من أكتوبر 1956، والتي وجهتها إلى النخبة اليهودية بداية من الحاخام الأكبر للجزائر موريس إزنباث، وإلى أعضاء المجمع الديني الأكبر الإسرائيلي، وإلى جميع النواب والمسؤولين عن الطائفة اليهودية بالجزائر، لقد كان النداء وثيقة تاريخية أثبتت الثورة من خلالها احترامها للأقلية اليهودية وتسامحها الديني معها، ووضحت أنها ضد أي تعصب ديني وتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، واعتبرت أن العقاب الذي تنزله بأي كان هو بسبب معاداة الشعب وليس بسبب المعتقدات الدينية، وحمل النداء النخبة اليهودية مهمة قيادة الطائفة، وإشراكها فيما يحدث، وأن لا تبقى بعيدة عن الصراع، وأن تندد بكل قوة بالنظام الاستعماري الفرنسي المحتضر، لكن لم يحقق النداء الهدف المطلوب ولم يؤثر كما كان ينبغي على الأقلية اليهودية في الجزائر، كما لم يسفر عن موقف جماعي لهم، ولم تتبن أي جهة الحديث باسم الأقلية، لكن كانت هناك ردود فعل مختلفة ومتباينة عبر فيها كل طرف عن موقفه الخاص بين القبول والرفض.