تنظم الجزائر كغيرها من الدول في كل عام معرضا دوليا للكتاب تشارك فيه العديد من دور النشر الجزائرية والعربية والدولية من مختلف أصقاع المعمورة تعرض فيه أعمالا علمية وإنتاجا فكريا يمثل عصارة الفكر الإنساني والاجتهاد البشري المبدع، ينفتح فيه العقل البشري على التجارب والخبرات العالمية تذوب فيها الحدود الترابية والفوارق الجنسية والعرقية واللغوية، ويقبل الناس وحدانا وجماعات ومن مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية ومن مختلف ولايات الوطن شرقا وغربا جنوبا وشمالا، ومن ثم يطرح السؤال الآتي ما الذي يحمل الناس على التوجه إلى هذه التظاهرة الثقافية والعلمية؟ بل وهل على الناس أن يتوجهوا إلى هذا المعرض والتطواف بين أجنحته المتعددة للوقوف على الإنتاج العلمي والفكري ومستجداته في شتى مجالات العلوم والمعارف.
مما لاشك فيه أننا أمة تعهدها ربها بأول تكليف سماوي وقبل كل التكاليف الاعتقادية والتشريعية والأخلاقية ويتمثل هذا التكليف بكلمة كانت أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ـ ‘اقرأ’ ـ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خطاب لأمته إلى قيام الساعة، فهي أمة مطالبة بتحصيل العلم والمعرفة وكما يقول العلماء ذُكر العامل وهوفعل الأمر وحذف المعمول فلم يحدد الكيفية ظرفية الزمان والمكان للقراءة، ونوعية المقرئ، بل المطلوب تحصيل العلم المؤدي إلى عمارة الأرض وبناء الإنسان الخليفة سليم العقيدة صحيح العبادة قويم الفكر متين الخلق، النافع لغيره نفعا مطلقا، المنفتح على جميع الثقافات والخبرات فالحكمة ضآلة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها، ولعل سلفنا الصالح منذ زمن البعثة الشريفة قد فهموا منطوق النص القرآني فما إن استقر الأمر بهم في المدينة المنورة حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم اللغة العبرية وهي لغة اليهود الذين كانوا يسيطرون على الحياة الاقتصادية في المدينة المنورة ويتحكمون حتى في مفاصل المشهد الاجتماعي والسياسي، ثم لما كانت غزوة بدر الكبرى حيث أسر المسلمون سبعين قريشيا فجعل النبي فداء الأسرى تعليم كل أسير ممن يحسن القراءة والكتابة عشرة من أبناء المسلمين، وهذا جعل المسلمين يقبلون على التعلم قراءة وكتابة والانفتاح على جميع الأمم التي تحسن ذلك فاستفاد المسلمون في العهود الذهبية عهود السلف الصالح من الإنتاج الفكري للأمم فيما لايُخَالف عقيدة ولا يُغَيرعبادة أويُقَوضُ خلقا، فنشأت الدواوين في عهد عمر وهي نظام فارسي وانفتح المسلمون على الصين وثورتها في صناعة الورق في عهد عثمان رضي الله عنهم جميعا. ولقد كانت الفتوحات الإسلامية في كل من العراق ومصر والشام وإفريقيا، والأندلس فاتحة خير وبركة على المسلمين، حيث وقفوا على تراث الأمم والشعوب فأفادوا منها في مجالات عديدة، واستفادوا من خبرات كفاءاتهم في الطب والعمران وغيرها من العلوم الكونية بعدما أصبح ساكنة تلك البلدان من ضمن النسيج الاجتماعي الإسلامي فيما يعرف بأهل الذمة.
ثم ما لبث أبناء الأمة أن أصبحوا فحول البحث والإنتاج العلمي والفكري في شتى المجالات وعلى رأسها علوم الشريعة وطبعوا العلوم الأخرى بطابع الربانية، وربطوها بقيمة التوحيد والفضيلة فأنتجت حضارة إسلامية عالية بحق، زاوجوا فيه بين النظر في الكتاب المسطور وعمادها المصدر الرباني القرآن الكريم والسنة النبوية، والنظر في الكتاب المنظورـ والذي هو الكون ـ نظرة سننية وقراءة راشدة من منظور مقاصدية الاستخلاف والعمارة مسترشدة بهدي عبادة التدبر والتفكر.وهذا ما سار عليه سلف الأمة زمن الاستخلاف والنهوض الحضاري عبر مختلف الحقب التاريخية وهذا ما مكن الأمة الإسلامية أن تستأنف صدارتها في قيادة الأمم والشعوب والحضارات .
ولما انحدرت الأمة في مدارك الاستضعاف وتنكبت طريق الشهود الحضاري وانغمست في مستنقع الجهل،وتوجست من الانفتاح على ما عند الغير من إنتاج فكري وإبداع وتعطلت عندها حاسة المقروئية فعجزت عن الاطلاع حتى على ما يكتبه أعداؤها من خطط لإضعافها وإذلالها. خسرت جميع الرهانات الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، بل حتى معاركها التي خاضتها يوما ما منذ أزيد من قرن من الزمن خسرتها بضربات موجعة سريعة وفي برهة وجيزة وتحضرني مقولة لرئيسة وزراء الكيان الصهيوني غولدا مائير، حينما نشرت بعض الصحف الإسرائيلية خطة الهجوم في حرب 1967 فقيل لها ألا تخشون من إطلاع العرب عليها فقالت: إن العرب لا يقرأون،وإذا قرأوا لا يفهمون. فمن أراد النهوض بأمته فإن الطريق لذلك هو العلم والقراءة قراءة الوحي وقراءة الكون وقراءة الإنسان.
انتشرت خلال ازدهار الحضارة الإسلامية
المكتبات التاريخية..شاهدة على أمة "اقرأ"
يشهد المؤرخون أن المكتبات العامة والخاصة انتشرت بشكل كبير لافت خلال فترة ازدهار الحضارة الإسلامية لاسيما من منتصف القرن الثاني الهجري، ولم تكد عاصمة من العواصم العلمية بالشرق والغرب الإسلاميين تخلو من مكتبة يشرف عليها الأمراء والسلاطين والخلفاء والولاة؛ سواء أكانت مكتبات مستقلة للعموم أو مكتبات تابعة للمساجد أو المدارس أو بيوت السلاطين والعلماء والأدباء، وهو ما جعلها تشكل مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية تؤكد أن الأمة المسلمة هي فعلا أمة اقرأ. لاسيما وأن هذه الكتب لم تكن تعنى بتخصص علمي واحد بل كانت تعج بكتب ومصادر مختلف العلوم الشرعية والأدبية والفلسفية والتاريخية والفلكية والطبية والرياضية وغيرها، وهي العلوم التي كان للعلماء المسلمين أثر بارز في تطويرها، وكانت الكتب تستنسخ محليا أو تجلب من الدول والحضارات المجاورة، كما أنها كانت مقصد كل القراء من المسلمين وغير المسلمين الذين وجدوا فيها ملاذا علميا آمنا، ومن أشهر المكتبات التي تحدث عنها المؤرخون نقلا عن مواقع ومنابر الكترونية:
(1). مكتبات بغداد: ومنها: مكتبة (دار الحكمة) التي أقامها هارون الرشيد، ومكتبة المدرسة النظامية التي أسسها نظام الملك. ومكتبة المدرسة المستنصرية، وخزانة الدار الخليفية التي أسسها الخلفاء العباسيون، وكان يعقد بالخزانة دروسا لتدريس كتب الفلسفة والمنطق والطب والحكمة. وخزانة الملك المستنصر.
(2). مكتبات الأندلس:ومنها مكتبة المستنصر بالله في قصر الزهراء وهي مكتبة عامة تضارع في ضخامتها مكتبة الإسكندرية القديمة، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده
(3). مكتبات القاهرة:ومنها: “خزانة الكتب” التي أسسها الخليفة الفاطمي العزيز بالله، ومكتبة” دار العلم” التي أسسها الحاكم بأمر الله.
مكتبات الجزائر لا تضاهيها أي مكتبة بإفريقيا
(4). مكتبات الجزائر: حيث كانت الجزائر عبر كبرى مدنها لاسيما بالجزائر وقسنطينة وبجاية وتلمسان عامرة بالمكتبات العامة والخاصة، وفي هذا يقول المؤرخ أبو القاسم سعد الله: (الجزائر خلال العهد العثماني كانت في طليعة البلدان الكثيرة الكتب والمكتبات. وكانت الكتب في الجزائر تنتج محليا عن طريق التأليف والنسخ أو تجلب من الخارج ولا سيما من الأندلس ومصر وإسطنبول والحجاز. وكان هناك رصيد كبير من المكتبات قبل مجيء العثمانيين. فقد كانت تلمسان، كما سبق، عاصمة علمية مزدهرة بلغت فيها صناعة الكتاب، تأليفا ونسخا وجمعا، درجة عالية. وكذلك كانت بجاية وقسنطينة، بل إن إحدى الزوايا في مدينة وهران خلال القرن التاسع (15م) كانت تضم مجموعة من الكتب العلمية والآلات الجهادية، أي أنها كانت تضم مكتبة ومتحفا في نفس الوقت. وروى التمغروطي في أواخر القرن العاشر (16م) أن مدينة الجزائر كانت كثيرة الكتب وأنه لا يضاهيها بلد في ذلك من بلدان إفريقية، ولا سيما كتب الأندلس. والكتب فيها أوجد من غيرها من بلاد إفريقية، وتشهد عبارات الباحثين الفرنسيين الذين شاهدوا وجمعوا المخطوطات من مكتبات المدن الجزائرية غداة الاحتلال أنهم كانوا مندهشين من كثرة الكتب التي وجدوها ومن تنوعها ومن جمالها والعناية بها. فقد اعترف بذلك أدريان بيربروجر الذي رافق الحملة الفرنسية على قسنطينة وتلمسان ومعسكر، وجمع المخطوطات من هذه المدن.وكان يريد بذلك أن يبرهن على وجود الكتب بالجزائر وتذوق الفنون والعلوم من قبل أهلها.)
(5). مكتبات المساجد: كما يذكر المؤرخون نوعا آخر من أنواع المكتبات في الحضارة الإسلامية، تلك المكتبات التي أُنشئت كملاحق في المساجد والجوامع: ومن أمثلتها: مكتبة الجامع الأزهر، ومكتبة الجامع الكبير في القيروان. ومكتبة المسجد النبوي، وخزائن كتب ومكتبات الجامع الأموي بدمشق»، وفاقت مكتبات الجوامع في الأندلس نظيرتها في المشرق الإسلامي، حيث احتوى المسجد الكبير في قرطبة على مجموعة كبيرة من الكتب والمصاحف، وكذلك جوامع الجزائر التي ما تزال تحافظ على هذه العادة الحسنة إلى اليوم. وبسبب انتشار الكتب والمكتبات ذاع صيت علماء وأدباء كانوا مولعين حد الهوس بالقراءة واقتناء الكتب.
ع/خ
النشر العلمي من النسخ الورقي إلى الفضاء الإلكتروني
منذ ظهر الورق بديلا عن الرقوق بدأ نسخ الكتب ونشرها يتنامى في الحضارة الإسلامية؛ حيث ظهرت فئة متخصصة في ذلك عرفت بالورّاقين الذين يقومون بدور الطباعة والنشر، وعبر القرون الكثيرة تطورت وسائط النشر حتى وصلت البشرية اليوم إلى النشر الالكتروني بما يمتاز به من سرعة وسعة تغطي أرجاء العالم في ثوان بينما كانت رحلة الكتاب الورقي المستنسخ قديما تستغرق أياما وأشهر.
ولئن اختفت حرفة الوراقين فإن تاريخ هؤلاء ينبئ أنه كان لهم دور حضاري كبير لأنهم كانوا مقصد الكتاب الراغبين في الطباعة والنشر ومقصد الخلفاء وإليهم تشرئب أعناق الناس للاطلاع على الجديد في عالم المعرفة، وتذكر بعض المصادر التاريخية و الإلكترونيةأن هؤلاء لم يكونوا قليلي التعليم بل ذاع صيت الكثير منهم علميا ،حيث أتاحت لهم هذه الحرفة فرصة الاطلاع على شتى العلوم وحفظها، فظهر منهم علماء على غرار ابن النديم صاحب كتاب الفهرست، الذي جمع أسماء الأعلام والعلوم والكتب، وتذكر بعض المصادر أن الكتاب المستنسخ كان ثمنه مرتفعا يومها، كما كان للوراقين تأثير في الشأن العام من ذلك ما يذكره المؤرخون أن الخليفة المقتدر بالله العباسي اجتمع بهم ليحذّرهم من شراء أو نسخ أو نشر أعمال الحلاّج، وهو ما يدل على بروز هذه الطائفة كأهم أداة ثقافية وإعلامية. ع/خ
رحيل الداعية نعيم رحالي
توفي، أمس الأول، الشيخ نعيم رحالي أحد علماء الجزائر ودعاتها المعروفين عبر مختلف المنابر التربوية والدعوية منذ الاستقلال، و الشيخ من مواليد سنة 1939 بسيدي بلعباس، وهو أحد أبرز الدعاة المصلحين وخطيب بمسجد زين العابدين بوهران، تتلمذ على يد الكثير من المشايخ، أبرزهم الشيخ حماني علي والعلامة الطيب لمهاجي.وقد انطلق رحالي في رحلة طلب العلم بأهم مدن الجزائر، كقسنطينة وتلمسان وغيرها، وحتى خارج الجزائر، ليعود إلى وهران وينصهر في تيار مقاومة الاستعمار الفرنسي الغاشم، مدافعا عن بلده الجزائر مدة 3 سنوات إلى غاية الاستقلال، وبعدها أسس أول جمعية خاصة بتسيير المساجد بوسط مدينة وهران، لتتحول إلى منارة علمية يقصدها يوميا العشرات من طلبة العلم، وكان السباق في فسح المجال للأطباء والمحامين وغيرهم من المثقفين بالوقوف على المنابر، لتوعية المصلين وإفادتهم في أمور الدين والدنيا من باب العلم والتكنولوجيا، وكان له الفضل في تخرج عدد كبير من المصلحين والأئمة والمقرئين، ظل طيلة حياته الدعوية يتقرب من الشباب، ويدعوهم بالتي هي أحسن بأسلوب راق وحضاري، خال من التعصب والغلظة، وفتح مدرسة خاصة بتلمسان لتعليم أصول القرآن والفقه ثم عاد لوهران ويصير إماما خطيبا بمسجد زين العابدين. وقد زاول المغفور له إضافة إلى منصبه كإمام التدريس في الطور الثانوي مع أوائل سنوات الاستقلال وبالضبط في ثانوية “العقيد لطفي”.