تختار الكاتبة والإعلامية فضيلة الفاروق «صمتاً طويلاً»، في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتعالى فيه أصوات القصف والحروب، ومشاهد المجازر والأشلاء الممزقة، لا يأتي هذا الصمت من فراغ كما قالت، بل من «شعور بالإحباط» تجاه واقعٍ أدبي عربي ترى فيه «قلة جداً ممن يكتبون لأجل السلام، أو تحديداً ضد الحرب». تقول الكاتبة للنصر، إنها اختارت الانزواء في ركن صامت مكرهة بإرهاصات العمر ومتاعب الحياة ومتطلباتها، بعدما أنقذتها القراءة والكتابة من ويلات الغربة والتهميش، ومن السقوط في «هاوية الحزن السحيقة»، و هو ما اعتبرته «إساءات مجانية لها»، فيما تقف اليوم متأملةً دور الكاتب ومسؤوليته.
حاورها: عثمان بوعبدالله
تكسر الفاروق في حوار خصت به النصر، صمتها لتتحدث عن قيمة الأدب الحقيقي، وثمن المواجهة، وإمكانية أن يكون صمتها الحالي دائماً، لكن مع يقين بأن ما كتبته «لن يصمت أبداً»، معترفة بأنها دفعت غاليا ثمن اقتحامها دائرة الطابوهات، و معبرة «بأن من يكتب يجب أن يحدّد هدفه منذ البداية»، وأن الأدب الحقيقي هو فعل «مواجهة» لمن يبحث عن التغيير، وليس وسيلة للتملق و»البريستيج» مثلما يفعل البعض.
وتؤمن بأن للكلمة وما كتبته قوة باقية حتى لو اختارت هي «الصمت للأبد»، لكنها تظل متمسكة بقناعاتها حول ضرورة المواجهة لمن يريد التغيير.
العالم العربي عالم فاسد ومزيّف
تغوص الكاتبة كذلك، في تجربتها الإعلامية، وصراعها مع الواقع ورؤيتها لمستقبل الأدب الملتزم، وسر الإحباط والندم الذين يلازمانها.
ـ يدرك المتأمل في رحلتكِ مع الكتابة أنها لم تكن سهلة خصوصا بعد كل هذا الزخم والتراكم المعرفي والأدبي، كيف كانت الطريق وما هي أبرز محطاتها؟
فضيلة الفاروق: هي رحلة طويلة لا يمكن اختصارها، أنا أنتمي للجيل الذي توهّم للحظة أنه رأى النور في عهد الاستقلال، وبدأ يكتب في الجزائر في عهد الديموقراطية، لكن الأمور انقلبت علينا رأسا على عقب.
عشنا الأبيض والأسود، الفرح والمأساة كرقصة فالس حزينة، قرأنا كثيرا في زمن كان فيه الكتاب مقدسا، لقد تحدثت سابقا عن مكتبة بيتنا، وعن «مكتبة بلدية آريس» التي أخذتني في رحلات سحرية إلى كل بقاع العالم، ثم عن أساتذة تركوا بصمتهم عليّ، اليوم تعجز حتى الشبكة العنبكوتية عن انتشال شبابنا من «مستنقعات التفاهة والرداءة»، رحلة التعليم كانت جد صعبة على جيلي، من الابتدائي إلى الدراسات العليا، إلى اقتحام العمل الصحفي.
اعتقد أني قرأت أطنانا من الكتب اليوم، يكفي أني كرّست جلّ وقتي للقراءة خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة دون هوادة، ومنحت للجزائر نصيبا كبيرا من قراءاتي وكتاباتي، للترويج للأدب الجزائري عبر إطلالتي التلفزيونية الأسبوعية في فضائية العربي ومنابر إعلامية أخرى.
أشعر بالإحباط اليوم، تمنيت لو كنت «متسلّقة» مثل المتسلقين، وأنانية مثل الأنانيين لأخبرك عن كل محطة من حياتي بلغة التعظيم والتفخيم، ولكني فاقدة لكل أمل في العالم العربي، ولم يعد يهمني أي إنجاز أنجزته.
ألا تعتقدين أن حياة الكاتب لا تختلف عن مدرسة الحياة فيها أيضا مراحل مراهقة أدبية، هل تسرعت في مرحلة البدايات وربما دفعت ثمن جرأتك؟
على الأقل تصرفت مثلما تتصرف الحرائر، التزمت بقضية صعبة وأشهرت قلمي في وجه المتستّرين على جرائم التحرش والاغتصاب والاستمرار في ظلم الضحايا، وحماية المجرمين، صحيح أني دفعت الثمن غاليا، لكني واجهتهم جميعا، والمحزن تكالب جحافل من الذكوريين و»الذكوريات» عليّ ظنا منهم أن الأمور ستبقى على حالها إن سكتت. لكني فتحت الطريق لكاتبات وكتاب جدد مستمرين في النضال. وإن كنت أعيش حالة صمت طويلة اليوم، فهذا بسبب شعوري بالإحباط، فالفساد في الحقيقة طال المؤسسات الثقافية أولا، ومحتكري المشهد الثقافي. غير ذلك لنفرض أني تسرّعت، هل يمكننا اليوم تغيير الماضي، بالطبع لا وهذا ليس من سوء حظي، بل من سوء حظ من أراد للفساد الأخلاقي أن يستمر في الخفاء متسلحا بتواطؤ المجتمع كله معه.
دفعت الثمن غالبا بسبب مواقفي و وطنيتي
يقال إنّ «الإنسان ابن بيئته»، وربما كذلك الكاتب فهل يمكن له أن يخون بلده مهما كانت الأسباب والدوافع؟
دعني أسأل نفس السؤال بصيغة أخرى، ماذا قدّم الوطن للأدباء الوطنيين ماذا قدّم إعلامنا للكاتب الذي لم يلهث خلف جواز السفر الفرنسي ويفتخر به كلما سافر إلى كل أصقاع العالم، ماذا قدّم لمن أخلص لبلده بكل صدق دون ممارسة طقوس التملق والتسلق من أجل الحصول على حصته من البقرة الحلوب، أعتقد أن هذا السؤال أكثر أهمية من الأول. أنا أدفع الثمن غاليا بسبب وطنيتي، وانتمائي أيضا لعائلة وطنية كبيرة ومناضلة من الأوراس.
لنسأل كذلك عما قدمه الكاتب؟ وما موقفك مما يثار من حروب وصراعات بمنطقة الشرق الأوسط: فلسطين، لبنان، وسوريا تحديدا، وأنت المتواجدة على مقربة من خط النار؟
أستطيع أن أقول إني أصبت بالتخمة من مشاكل الشرق الأوسط، فأنا أقيم بلبنان منذ ثلاثين سنة تقريبا، ومن يعيش هنا يرى الأمور بمنظور مختلف، أما من يعيش هناك و بخاصة عندنا يراها بعين أخرى.
القلة تكتب بضمير لأجل السلام أو ضد الحرب
رأيي في النهاية لا يغير شيئا، فمنذ جئت إلى هذا البلد سنة 1995، وأنا أسمع الخطاب نفسه، وأرى السياسيين أنفسهم، وأشعر أني أتابع نشرة أخبار تُكَرّرُ علينا صباحا وظهرا ومساء، نفس الأكاذيب، ونفس التمثيليات، ونفس السيناريوهات، مجموعة من «الأثرياء الفاسدين» يديرون المنطقة ويحصلون على أموال طائلة من أجل حلول وهمية والسلام، أصبت بالتخمة من سياسة الشرق الأوسط، مثلي مثل أغلب شعوب المنطقة.
الغالبية تكتب لإرضاء «الهوى السياسي» و «الميول السائدة»!
تنقلين تجارب كتاب وإصدارتهم الجديدة بصفة دورية في برامجك على القنوات العربية، فما هو تقييمك لموقف الكتاب العرب وحتى العالميين من الحروب وبالأخص من القضية الفلسطينية؟
في العالم العربي قلة جدا من الأدباء هم الذين يكتبون لأجل السلام أو تحديدا ضد الحرب، قليلون من يكتبون بضمائر حية، ويعرفون قيمة الأدب، ومحزن أن أقول أن الغالبية من كتابنا تكتب لإرضاء «الهوى السياسي» و «الميول السائدة» بحثا عن الرضى، و «الطبطبة» وعدم إثارة أي سجال، أو لنقل إنهم يغطون الجرح دون كشفه وتعقيمه وعلاجه وهذه الظاهرة تزداد ربما بسبب عنف المجتمع والمؤسسات ضد أدباء التغيير. أصبح الكاتب باللغتين يبحث عن مصلحته، على نسق «أنا ومن بعدي الطوفان»، والخلاصة المطبلون كثر، والمتميزون قلة، والشجعان نادرون.
لكن ألا يستحق الوضع استفاقة في مثل هذه الأزمات والمجازر التي تتناقلها كاميرات التلفزيونات العالمية ومواقع التواصل يوميا؟
يجب أن نتعلّم بأن إدانة الجريمة يجب أن تكون للإنسانية جمعاء، لا توجد جريمة محمودة وأخرى محرمة، لا يمكننا أن نميز بين أرواح البشر فنبتهج لبعض الجرائم ونغضب لبعضها، لا أدري كيف يتطوّر الوعي لكتّاب يعيشون في المتاهة نفسها، لكنّها أشبه بالمتاهة التي يعيشها سياسي يقضي عطلته على يخته متنقلا بين موانئ أوروبية، وحين يعود إلى مدينته المنكوبة يتأفف من فقرائها ومزابلها، فأعمى البصيرة لا يمكن توجيهه.
لنتحدث عنك كإنسانة وكاتبة، ما هي أبرز الشخصيات، والكتب والأحداث التي شكلت وعيكِ الأدبي والفكري؟
أعتقد بأنها الفطرة والنصيب وما قسمه المولى عز وجل لي، كل شيء كان قدريا، ومن يحاول الإفلات من قدره يفشل، لطالما أردت حياة أكثر هدوءا واستقرارا، لكني عشت حياة مليئة بالهزّات العنيفة، حين أعيد شريطها وأتذكر أهم الأحداث التي غيرت مسار حياتي أسبّح الله وكفى.
الكتابة أنقذتني من الوحدة ومن السقوط في هاوية الحزن
لعلّكم رأيتم فيديو مشروعي الجديد للقراءة «براغراف» وقد أهديته لأستاذي بلقاسم لحمر، الذي علّمني وأنا في عمر 13 و 14 سنة، وظلّت بصمته عالقة بذاكرتي. في إحدى رسائلي بيني وبينه قلت له إني كثيرا ما تساءلت كيف لشخص بمثل وعيه وموهبته وقوة شخصيته أن يعيش في بيئة جافة كبيئتنا، ويستمر بالعيش فيها إلى يومنا هذا، فأجاب «من رحمة الله بنا ربما».
لقد كانت مشاعري رقيقة وهشة آنذاك، وأتأثر بالأدب ومسلسلات الرسوم المتحركة، فكيف كان سيكون مصيري دون تلك البصمة ودون وجوده في حياتي، دون ذلك النور المنبعث من هدوئه وحكمته وطريقته الراقية لتعليمنا قراءة الأدب وفهمه؟
أنقذتني القراءة من الشعور بالوحدة، والألم، والفراق، والغربة، والتهميش، والتنمّر، والإساءات المجانية التي لحقت بي، وأنقذتني الكتابة كفعل فردي وشخصي من السقوط في هاوية الحزن السحيقة. طبعا لا يمكنني أن أختصر الأدباء الذين تأثرت بهم، لأن المدمن على القراءة مثلي لن يتوقف عند كاتب واحد أو اثنين، أو حتى مائة، لا أريد أن أكرر إجابتي هنا، لهذا سأكتفي بهذا القدر.
قد أصمت دهرا لكن ما كتبته سيظل ينطق
عايشت أحلام الجزائريين وهمومهم، ولا شك أن فترة التسعينيات كانت الأصعب، هل شكلت (العشرية السوداء) منعرجا في رؤيتكِ للعالم وكتاباتكِ؟
إنها أقسى فترة عشناها على الإطلاق، لقد اقتلعتني من الوطن وزملاء كثر، قذفت بنا إلى بلدان أخرى، عدنا فيها إلى الصفر وبدأنا من جديد، أنا شخصيا لا يزال الخوف يسكنني منذ تلك الفترة، لم أسامح ولن أسامح من تسببوا لنا في تلك الحرب، لقد كانت الجزائر تعيش أجمل أيامها حين هبت عليها تلك العاصفة اللعينة من كل الجهات.
عشت مغامرات على حافة الموت واقتحمت أماكن كانت محرمة على النساء بقسنطينة.
حين غادرت الجزائر بدأت أفهم ما حدث، وهذا مؤسف جدا، أن تتضح الرؤية حين نبتعد عن حلبة الصراع ونرى ما يحدث بشكل جيد، بالنسبة لي وربما رأيي سيزعج الكثيرين، العشرية السوداء روّضت الجزائريين، الجزائري الحالم المفتخر بتاريخه أصبح «عصبيا»، يصب غضبه على أخيه الجزائري. فالمبحر في أي صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي يكتشف التغيرات التي طرأت على هذا الجزائري، تلك الفئة الضالة العنف يسكن وجدانها.
حتى حين يتحدث هؤلاء في مواضيع دينية يستعملون قاموسا عنيفا، لا علاقة له بالجزائري المدهش الذي أبهر العالم بثورته، وشجاعته وتألقه في المحافل الدولية.
كنت حينها بقبعتين كاتبة وإعلامية، وغامرت بالتنقل في عز الأزمة الأمنية لإجراء روبورتاجات عن أهل الفن والثقافة، حدثينا عن تلك المغامرات؟
تنقلت كثيرا في قسنطينة مع صديقتي كريمة بن دراج، اكتشفنا الوجه الآخر للمدينة وما شهدته من تغيرات أيضا خلال العشرية السوداء، كريمة ابنة قسنطينة ووالدها الشيخ عمار بن دراج فنان عظيم، ويعرف قسنطينة مثل جيبه، يعرف عائلاتها، وشعراءها، وموسيقييها، وهذا سهّل مهمتنا.
أدخلتني كريمة للمسرح أول مرة، فحضرت مسرحيات، وحفلات، واكتشفت أسواق المدينة، وشوارعها الممنوعة على النساء، كل شيء بات مكشوفا أمامي مع صديقتي، أنجزنا روبورتاجات هزّت قسنطينة، كان الزحف «المأساوي» يشوّه مدينة من أجمل مدن الجزائر، ولعلنا كنا سباقات لاكتشاف ذلك، لسبب بسيط هو شغفنا بممارسة مهنة الإعلام.
مع فريق الإذاعة عشت مغامرات على حافة الموت، ما أزال أتذكّر وصولنا إلى مدينة القل بعد مجزرة، استقبلتنا المدينة بكتابات سوداء تقول «القل مدينة محررة». أصبنا برعب لا يمكن وصفه خاصة أننا كنا النزلاء الوحيدين في الفندق، وطيلة الليل كنت أتوقع هجوما علينا فنذبح جميعنا، لم أنم طيلة أربع ليال كاملة، وخفت أن أخبر أبي (رحمه الله) فيمنعني من الذهاب في مهمات أخرى.
من أسوأ تلك الرحلات أيضا، رحلتي نحو سوق أهراس وتبسة، تعلمت من هذه التجارب أن ليس كل فريق يُعتمد عليه، وبدأت بتصنيف الناس من حولي، هذا طيب، وذاك شرير، فوق ما كنا نعانيه من تهديد من الإرهاب كان البعض أكثر شرا من الشيطان نفسه، حمدا لله أني خرجت من تجربتي الإذاعية بعقل سليم في تلك الأيام السوداء، وبأصدقاء رائعين مثل مراد بوكرزازة، ونعمون خلاف، ورابح تمالوسي رحمه الله، وسفيان بلعابد، وآخرين، يضيق المقام لذكرهم.
مع تقدمي في العمر أصبحت أشتاق لبعض الوقت لأكتب
أتذكر مهمة تغطية حفل تكريم بقّار حدة رحمها الله، «الخنشة» التي أسعدت الناس بصوتها رغم أحزانها، كانت رحلة سيئة جدا مليئة بالرعب والتذمر، والتقزز من كل شيء، بدءا بالعناصر المكلفة بحراستنا إلى الفريق العامل في الفندق إلى تفاصيل أخرى أودعتها مذكراتي.
ما هي الثيمات الرئيسية التي تحرصين على تناولها في أعمالكِ الروائية؟ ولماذا التركيز على إثارة المواضيع المسكوت عنها، والمخالفة للعادات والتقاليد وحتى المعطى الديني أحيانا خصوصا ما يتعلق بالمرأة تحديدا؟
أنا لست شهرزاد التي تروي قصصا لشهريار لتسليه في الليالي الملاح، أنا كاتبة جزائرية أحلم بجزائر جميلة وآمنة يسودها العدل، ويعيش أفرادها في وفاق واحترام متبادلين وهذا من حقي.
هل لكِ طقوس خاصة في الكتابة؟ وكيف تختارين مواضيع رواياتكِ وشخصياتها؟
لم يعد لدي أي طقوس، مع تقدمي في العمر أصبحت أشتاق لبعض الوقت لأكتب، فيما يتآكل العمر ويذهب نحو الصفر، أصبحت أحلم بمكان صغير هادئ ووقت لأكتب، ولأن هذا الأمر غير متوفر لدي حاليا، فأنا أكتب في رأسي، وبعض الأفكار أدونها وأخفيها، من يدري قد انشرها وقد ينشرها ابني من بعدي.
إن كان الكاتب يبحث عن التغيير فعليه أن يواجه
تشتهر كتاباتكِ بالجرأة وكسر الطابوهات، هل تعتبرين هذه المواجهة ضرورية في الأدب؟ وهل تسببت لك في متاعب إلى درجة تجنب الخوض فيها مجددا؟
أعتقد أنكم طرحتم هذا السؤال بصيغة أخرى وأجبت عليه، وعلى كلٍّ من يكتب يجب أن يحدّد هدفه منذ البداية، فإن كان يبحث عن إحداث تغيير عليه أن يواجه، وإذا كان يبحث عن شعبية ويعتبر الكتابة مجرّد بريستيج فعليه أن يساير المجتمع، ومشرّعي القوانين، وسيحظى بلقب مثل أمير الشعراء ويعيش في ثبات ونبات...!
أما عن الشق الثاني من السؤال فقد تضمن الإجابة أيضا، ولا بأس هنا أن أذكّر على سبيل المثال بسيمون دي بوفوار حين كتبت كتابها «الجنس الآخر»، لم تتوقع أن تقلب العالم رأسا على عقب، ولا أن تقاطعها والدتها ويغضب منها المقربون، ومع هذا مضى العالم في تطوره رغم أصوات المعارضين لها.
قد أصمت دهرا لكن ما كتبته سيظل ينطق
اليوم بعد أكثر من قرن على ولادتها، ولدت ملايين النساء اللواتي حققن نجاحات لا يمكن اختصارها في فقرة قصيرة، حتى في أكثر المناطق ظلما للنساء برزت سيدات متميزات.
لنعد لموضوعنا، قد أصمت للأبد، لكن ما كتبته لن يصمت أبدا، ولست بحاجة للخوض فيه مجددا.
إلى أي مدى تتداخل السيرة الذاتية مع الخيال في أعمالكِ، مثل «تاء الخجل» أو «اكتشاف الشهوة»؟ وهل الكتابة نوع من العلاج أو البوح ؟
في كل رواياتي أختبئ خلف شخصيات عديدة بكل تناقضاتي، لكن هذا لا يعني أني كتبت سيرتي الذاتية، خطأ جسيم أن يقع الباحث في هذا الالتباس، غير ذلك ليس خطأ أن يكتب الشخص من باب علاج نفسه المتعبة طالما الكتابة تريحه فلماذا لا يكتب، العلاج بشتى أنواع الإبداع هي الطريقة السوية لبناء مجتمعات حضارية، لاحظوا أن المجتمعات التي تهمل ممارسة هواياتها تكون مجتمعات عنيفة، وتصاب بأمراض كثيرة تنعكس في سلوكها وبيئتها.
ربما تحتل قضايا المرأة مكانة بارزة في أعمالكِ، ما هي أبرز التحديات أو الرسائل التي تسعين لتسليط الضوء عليها فيما يخص المرأة العربية والجزائرية تحديداً؟
خذوا الحكمة مني، إن احترمت ابنتك ودللتها وأكرمتها فالجميع سيحترمها ويكرمها و»يعمل لها ألف حساب» وإن أهنتها أهانوها، الكرة في ملعبك وفي ملعب كل رجل، أتمنى أن تكون الأجيال القادمة أكثر وعيا، وألا تهدر أعمارها في الكراهية والعنف والحرمان والخوف والذل.
كيف تقيمين واقع الكاتبات في العالم العربي اليوم؟ وهل لا يزلن يواجهن تحديات خاصة مقارنة بالرجال؟
العالم العربي «عالم فاسد ومزيف»، صحيح لدينا أدباء وأديبات ممتازون لكنهم قليلون، ويستنزفون وقتهم بين وظائف يعيشون منها وحروب لفهم الهامش الذي وضعوا فيه. قدر المرأة الكاتبة صعب حين يكون لديها مبادئ.
«معايير منح الجوائز الأدبية موضوع طويل ولن أجيب من دون مقابل»!
هل أثرت تجربة العيش خارج الجزائر (لبنان وغيرها) على كتابتكِ وعلى نظرتكِ لمفاهيم الهوية والانتماء والوطن؟ هل تشعرين بالغربة؟
بالطبع أرى شساعة العالم، وتنوع البشر، واختلاف الأنظمة، وما تنتجه من مجتمعات وثقافات. السفر فتح عيني على حقائق كثيرة ما كنت لأعرفها، فتعلمت الكثير وأشكر الله على هذه النعمة.
أما عن الشعور بالغربة فليس شرطا أن أشعر به خارج الوطن، كثيرا ما شعرت به في الجزائر بين من أعرفهم أو حلمت بلقائهم، لهذا دائرة أصدقائي ضيقة، الغربة الفكرية هي ما يعانيه أمثالي، أمّا غربة المكان فإنها أخفّ بكثير.
ما رأيك في معايير الانتقاء الخاصة بتوزيع الجوائز في المسابقات الأدبية العربية والعالمية؟
هذا موضوع طويل عريض، لن أقدم جوابه بدون مقابل، مفاتيح الجوائز لا تعطى بهذه التلقائية في حوار» الله غالب كل شيء بحقه» !
جوابك مبطن، ألا تشاطرين بعض النقاد قولهم إن البعض من هذه التظاهرات والجوائز تمنح بمقياس الانصياع لمتطلبات (الانسلاخ) والتعري من الهوية، والتهجم على البلد الأم، وبمقدار تقمص الدور في البروباغاندا والدعاية السياسية للجهات والدول المنظمة لهذه المسابقات؟
سوف أجيب في نقطة معينة، أنا جزائرية ولدت وعشت وكبرت في الفضاء الجزائري، حين أنتقد الجزائر فهذا لا يعني أنني لا أحبها، بل لأن الجزائر وحدها تمنحني شرف الحديث عنها وانتقادها بحرية. هل تعتقد أن دولة أخرى قد تسمح لي بانتقادها، هل تقبل أن يحلّ ضيف عندك وينتقد أبناءك طيلة الوقت، غير مقبول طبعا. لكنك تفعل ذلك محبة في أبنائك لأنك تريدهم أن يكونوا الأفضل على الإطلاق. أعتقد أني قرّبت الصورة فيما يخصني، أما ما لا يخصني فأنا لا أتدخل فيه.
الإعلام العربي مهنة مدمرة !
بصفتكِ إعلامية أيضاً، كيف ترين العلاقة بين الأدب والإعلام؟ وهل يكمل أحدهما الآخر في مسيرتكِ؟
الإعلام العربي مهنة مدمّرة للإعلامي وللكاتب، سجن مقيت و قيد ثقيل تتنقل به مكرها حتى تقرر أن تنسحب منه، صدقني لو كنت أتقن شيئا آخر غير الكتابة لغيرت مهنتي، أنا متعبة من الصحافة اليوم، متعبة جدا.
الأدب الحقيقي فعل مواجهة
هل ننتظر منك في هذا الظرف الحساس والصعب عملا أدبيا يحاكي الوجع العربي، أو مشروعا آخر سواء في الحقل الأدبي أو الإعلامي؟
أعيش ظرفي الخاص، ووجعي الخاص، وهذا يكفيني وزيادة.
لا يخلو الحقل الأدبي من الصراعات بين الكتاب، وقد تكون لك تجربتك الخاصة، لو تلقيت دعوة إلى برنامج صفح، أو إلى جلسة صلح فهل ستقبلين؟ وممن ستعتذرين ولماذا؟ وهل يمكن أن تبادري يوما ؟
من أسوأ خصالي أني لا أسامح من يخطئ في حقي، وصدقا سامحت مرات واكتشفت أن من يلدغنا مرة لا يمكنه تغيير طبعه، لهذا لم أعد مستعدة لإهدار وقتي الثمين على أشخاص قليلي الوفاء.