كان يحتاج فقط إلى صوتٍ مجروحٍ ليكسّر "الشّرط " القاسي في صناعة النّجوم. لم يكن طويلاً ولا جميلاً كنجوم السينما، لكنّه اخترق الأزمنة وتحوّل إلى «تروبادور» يتجوّل بين لغاتِ العالم وشعوبه، ويدرّب عشّاقه على مدّ الخطوات في حياةٍ حافلةٍ بالشّقاء واللّذات.
«البوهيميّ» المجنون الذي كان يُرشق بالمقذوفات كلّما تجاسر وصعد إلى منصّة غناء، عرف كيف يتسلّل إلى القلوبِ ويصير المعبّر الموثوق عن آلام ومسرّات البشر، وكم كانت المسافةُ طويلةً بين البارات والكابريهات القذرة التي انطلق منها ومنصّة الخلود التي قفز إليها، في حركة غير أنيقة، أجبر النّاس على قبولها.
وريث المقهورين الذي رضع الموسيقى من أمٍّ «ممنوعةٍ» من المجدِ، كان ينطق بالشّعر أيضا، لتكون أغانيه بناته المكتملات المعتدّات بأبوّته التي لا ريب ولا سوء فيها.
يعترف أنّ الفقر كان محرّكا في حالته، هو ابن المهاجرين وضحيّة الأبارتيد القصير القبيح الذي لم يستحسن الجمهورُ ولا دور الأسطوانات صوته: تبدو حياته هنا كفيلم كلاسيكي تبادلت رواياته شاشاتُ الغربِ والشّرقِ، لكنّه يقدّم درساً فحواه أن المثابرة تثمر لا محالة إن اقترنت بموهبةٍ لا يفسدها الادعاء. و أن القتلة (بأسلحتهم المختلفة) سيتراجعون إلى الخلف في نهاية الأمر كلّه، وربّما لهذه الأسباب، أو لغيرها، احتفت أغانيه بفئات لم تكن الأغاني تلتفت إليها وامتدحت العاديّ والاستثنائيّ والمنبوذ والمشبوه: الكوميديون الذين يولدون على الخشبة ثانيّةً، المثليّون، الزّمن في كل حالاته، الصديقة البوهيمية التي تحوّلت إلى أيقونة، «لا ماما» وهي تموت وتغرق العالم في كآبة لا مثيل لها، مقاومة النسيان بالصّدف، الهروب من حبٍّ لا مفرّ منه، شارب كأس الأسى في الزاويّة و هو يرى الحب يغيّر معسكره...
كانت أغانيه عميقة لها فلسفتها، و قصّة حياة مديدة، بل سيرة عاريّة لا تحتاج إلى كاتبٍ مأجور ليجمّلها، أو يخفي غير اللّائقِ منها، أو ينقّحها ويزيد. كان لا بدّ من اختلاط الحياة بالأثر، تماماً كما في كلّ حياةٍ عظيمةٍ، لذلك روته أغانيه ولذلك عاشها إلى النفس الأخير.
ما أكثـر أيتام شارل أزنافور في هذا الخريف الحزين كأغنيّة!