ثمّة نزعة لافتة لرواية الأحداث لدى الجزائريين، ولم يعد «حملة القلم» القدامى يحتكرون هذا الفعل وغواياته، فأصبح كلّ حدثٍ مادّةً لعشرات الآلاف من الروايات، يلتقي في روايتها عامّة النّاس وأهل الاختصاص.
يروي الحلّاق قصّة مثيرة تجري في كواليس النظام بتفاصيلها الدقيقة وخلفياتها ونتائجها المرتقبة، وبالقصّة ذاتها مع تحويرات هامّة قد يُسلي سائق التاكسي زبائنه، وكذلك يفعل الأستاذ المختصّ في تحويل الكلام إلى سبائك ثمينة، على جداره !
لا ضرورة،هنا، لإسنادٍ أو لتخليص الخبر من الشوائب الناجمة عن الأماني والأحقادِ الصغيرةِ والتطلّع إلى بطولةٍ في الحكي تمنح الرّاوي وجاهةَ العارفِ وهيبة المحيط بأسرارٍ خطيرةٍ. و لا يطرح المتلقي الأسئلة لأنّه سيتلقّف الحكاية ليرويها بدوره، وهكذا تتناسل «الروايات الوطنيّة» لتشكّل مدوّنة ينهل منها الشعب الذي لا يصدّق ما يعلنُ عليه عبر القنوات الرسميّة.
قد تكون الرغبةُ في السّرد نتيجة فقرٍ في الحياة، أي محاولة كريمة من الخيال لتدارك حاجة السّارد أو معالجة هشاشته، لكنها تشير أيضاً إلى فقرٍ معرفي ومرض في الاتصال، تتميّز به المجتمعات المتخلّفة التي أخفقت في تنظيم نفسها بمؤسسات حديثة، لا مكان فيها للخفيّ الجبّار الذي يدير اللعبة من خلف الستار وتنتفي فيها الحاجة إلى السّارد، لأنّ تدبير الأمور يتمّ عبر قواعد الاستحقاق والتمثيل والمساءلة، فالمجتمعات السعيدة تعيش الحياة كما هي ولا تتمثّلها عبر مسرود يتقاسم فيه البطولة الرّاوي والمرويّ عنه والمستمع !
تخفي هذه النّزعة أيضاً «سندروم النبوّة» لدى الكثير من «الروّاة» في تدخلاتهم المكتوبة أو المنطوقة، بما في ذلك الروّاة الذين لا يؤمنون بالأنبياء، لأنّ النبيّ تحوّل إلى شخصيّة قاعديّة تُغفل في اللاوعي وتظهر في سلوك و تعبيرات الرّاغبين في لعب «الأدوار الكبيرة» في الحياة، وقد يتم ذلك بطريقة «إيجابية» كما هو الحال بالنسبة للمصلحين والثوّار، أو بشكلٍ مأساويٍّ كحال الذين يعلنون النبوّة مباشرةً ولا يكتفون بمعادلها الموضوعي.
تخفي «المدوّنة الوطنيّة» المذكورة أعلاه كنزاً قد تكشف معالجته من طرف مختصين عن أمراضٍ غير ظاهرة «لذاتٍ» تمّ حقنها بالأساطير، عوض تدريبها على الحياة كما هي، حتى صارت تقول بأنها نسخة فريدة لا مثيل لها في العالم !
سليم بوفنداسة