استطاع كائن صغير غير مرئي توحيد البشر في مشاعر خوفٍ وترقّبٍ ورعبٍ، هي امتحان للإنسيّ الواثق من ترويض المخلوقات ودرس فحواه: إنّك لم تبلغ ما تدعيه، ولن تنفعك علومك الدقيقة ولا اكتشافاتك ولا أقمارك الصناعيّة ولا أذرعك الصاروخيّة، في مواجهة زائرٍ صغيرٍ قد يتسبّب في انهيار اقتصادك بل وفي سقوط حضارتك.
فالنزول إلى الحياة البدائيّة يصبح ممكناً بحالة "بسيطة" كهذه، وليس بحربٍ مُدمّرة تسابقَ المتسابقون في جمع أدواتها الفتّاكة، و لو شاء هذا الفيروس لجعل سكّان الكوكب أذلّة يمضون في سبلهم مكمّمي الأفواه مرتابين.
و يا لها من وضعيّة بديعة: أن يكفّ النّاس عن الصّراخ في الشوارع ويختفون في جحورهم أو يمضون مكمّمي الأفواه!
سينخفض منسوب الكلام وينخفض الأذى الناجم عنه. سينصرف الإنسان إلى ذاته، وربما فكّر وتأمّل وأعاد النّظر في أسلوب العيش وكبح نزوات الشرّ التي تُغذي سلوكه.
سيتحسّن وضع العالم حين يقلّ الكلام فيقلّ الكذب وتقلّ المؤامرات والدسائس، لأنّ كثيرا من المصائب سببها النّطقُ الذي انفرد به الإنسان بين المخلوقات.
قد يكون هذا الفيروس نتيجة احتكاك الإنسان بالحيوان أو بقاياه، وفق ما تكهنت به منظمة الصّحة العالميّة، وقد يكون نتيجة "حرب جرثوميّة" غير مُعلنة وفق تخمينات المشكّكين في سلوكات كبار العالم الذين تدفعهم الرغبة في السيطرة إلى التوجّه نحو أساليب تدمير غير محسوبة العواقب. لكنّ المؤكد أنّ أخطر مدمّر عرفته الأرض منذ ظهور الحياة عليها، هو الإنسان، الذي لا يكفّ عن تخريب بيته في سباقٍ مع الزّمن و في طلبه للرفاهيّة والسيطرة.
ومن المحيّر في سلوك هذا الكائن أنه يوجّه عبقريته لحرمان أبناء نوعه من "ثمرات" الطبيعة والاستحواذ عليها ووضعهم تحت التهديد الدائم، الذي تحوّل في هذا الوقت المتأخر إلى ميزان يضبط شراسة "الوحوش" التي تفرض شريعتها على هذا العالم بمنطق القوّة البدائي، ساخرةً من الإرث الذي راكمه الخيّرون طيلة قرونٍ من الاجتهاد والتدبير.
ملاحظة
سيتوصل العلم إلى وضع لقاح مضادّ لكورونا، كما فعل مع شقيقاته وأشقائه، لكنّه سيبقى عاجزاً أمام الفيروسات التي يصدرها الإنسان.
سليم بوفنداسة