لم يكن الصّديق الذي تسلّم منها أوراقَ حصّتها الأخيرة بإذاعة قسنطينة يتوقّع صمودها في الغُربة، لذلك كان الوداع مُعفى من مخاوف الفقدان وآلامه، حين بلغا حيّ فيلالي بعد مشوار صباحيّ، فتحت حقيبتها وأخرجت الأوراق: سلّمها لمراد، سيقدّمها هو!
ثم مضت نحو الحافلة التي حملتها لوداعٍ آخر، كان ذلك يومها الأخير في سيرتا، بعد مرحلة عملٍ في الصّحافة التي "ازدهرت" وقتها تماماً كما ازدهر العنفُ والموتُ المجانيّ، وكانت وجهةً للمبدعين الذين تفرّقوا بين صحفٍ، سيُحوّل أصحابها عائداتها إلى عقارات وحوانيت، وقد تجد بينهم من لم يتعب إلى يوم الله هذا من ارتداءِ لقب الإعلاميّ ، ولا يتردّد في تقديم المواعظِ وإطلاقِ الشّتائم في الفايسبوك، بعد أن يفرغ من بيع الأواني!
مضى زمنٌ على ذلك التاريخ، لكنّها صمدت في غُربتها البيروتيّة حيث مدّت جذورها في جبل لبنان من دون أنّ تغفل لحظة عن أوراسها أو عن قسنطينتها، مثلما ظلّت وفيّة لخطّ سيرها الأوّل الذي جعلها تهجرُ الطّب وتتخذّ من الأدب وسيلة لإدانةِ الإيديولوجية الذكوريّة التي يفرضها مجتمعٌ أبويٌّ، خطُّ رسمته وهي طالبة في جامعة قسنطينة ، ولا يزال صالحاً للسير، لأنّ وضع المرأة وإن تغيّر بفضل التشريعات واكتساحها سوق العمل الذي يمنحها حصانةً اقتصاديّة، إلا أنّه لا يزال يعاني من تأثيرات المخزون الاجتماعيّ الذي يفرز "التّحقير" ويُسوّقه بتعليبٍ عصريٍّ.
ومثلما عانت فضيلة الفاروق من سوءِ الفهم وسوء التقبّل في بدايتها، فإنّها مازالت تواجه "السّوء" ذاته مع اختلافٍ في الأساليب و في أدوات الرد.
وربما تتلخّصُ "مشكلتها"، إن جاز أن نُسميّ ذلك مشكلة، في صراحتها التي تجعلها تسميّ الأشياء بمسمّياتها، في الأدب كما في الحياة، أي أنها ظلّت على عفويّتها طفلةً شاويّة لم تشرب من نفاق المُدن ورفضت التمرّن على الحيّل الذي تُتيحه الحياة المدينيّة.
وتتقاسم هذا الوضع مع كتاّبٍ يواجهون "مشكلات التلقي" بسبب الجُرأة في الكتابة والصّراحة في التّصريح، كما هو شأن رشيد بوجدرة، مثلاً، الذي قُوبل منذ ظهوره في السّاحة الأدبيّة بعدوانٍ لا يتوقّف.
تقول إنّها لا تنتظر التّقدير في مجتمعات لا تقرأ الأدب أصلاً، وتعتبر الكتابة أسلوب عيش ونضالٍ، لذلك تستحقّ فضيلة اسمها، وتستحقّه أيضاً لأنّها أمٌّ شرسة لأصدقائها وأفكارها.
سليم بوفنداسة