تلبسُ الفوضى ثوبَ الحريّة وتنزلُ إلى حياتنا مستدعيّة طقوساً يفترض أنّها اختفت لصالح نظامٍ اقتضاه التطوّر، وتفرضه التشريعات المعاصرة.
لذلك، لا تستغربن إن شُتمتَ لأنّك احترمتَ قانون المرور أو صدمك أحدُهم أو قطع طريقك، لأنّه حرٌّ والبلادُ بلاده يفعلُ فيها ما يشاءُ!
وعليك بالصّمت إن نصب أحدُهم خيمةً لبيع الخضر أو الأواني عند باب بيتك أو مشواة تحت نافذتك.
وعليك احترام مشاعر الأستاذ وقد أخرج أبناءك من مدارس الجمهوريّة إلى المستودعات لينال حقّه من أجرك، والصّبر على الموظّف الذي لم ينمْ جيداً البارحة والسّائق الذي ينفثُ دخان سيجارته في وجهك ويُرغمك على سماع أغنيّة لا تحبّها.
استفحلَ الأمرُ منذ نحو سنتين، مع هبوب نسائم الحريّة وظهور الوباء، وكأنّنا كنا ننتظرُ حدوثَ أمر لنتخلّص من رصيدنا من المدنيّة ونعود إلى مرحلةِ ما قبل العمران.. و من الغرابة، حقاً، أن يتزامن كلّ ذلك مع مطالب بالتّغيير تلتقي فيها النّخب بالجماهير الحالمة بازدهار لا تكلّف نفسها عناء المُساهمة في أسبابه.
ويبدو أن انفتاح شهيّة المُطالبة أعمى العيون عن رؤية الواقع الاجتماعيّ كما هو و"أجاز" سلوكات شاذّة، تبدأ من عدم احترام قانون السير والاعتداء على الطّبيعة والمحيط، مروراً بانتهاك مواثيق وأخلاقيّات مهن حسّاسة، و إهمال العمل والتوقّف التّام عنه مع التمسّك بعائداته والتّهديد بالانتحار عند الاصطدام بالقوانين، ولا تسأل عن الغشّ والتصريحات الكاذبة، وقد تنتهي عند حملات عُنصريّة باتت تهّدد النّسيج الاجتماعيّ الذي حافظ عليه الجزائريّون تحت الاستعمار وخلال الحرب الأهليّة المدمّرة.
والمخيف في القصّة أن تجد أهازيج "الألتراس" تتردّد على ألسنة أفرادٍ من طبقةٍ متعلّمة يفترضُ أنّها تمتلكُ القُدرة على فحصِ الواقعِ على الأقلّ لتعرف الاتجاه والمؤشرات.
قد يكون ما تقدّم من مظاهر ثقافةٍ كرّستها التوجّهات الاجتماعيّة التي صاحبت البناء الشّاق للدولة الوطنيّة، والتي أنجبت الفرد كثير المطالب فقير الجُهد رافض الفطام، وهي توجّهات مدعوّة للاختفاء بمناسبة الحُريّة، لأنّ الحريّة المنشودة تنتمي إلى منظومة تُحرّر العمل والنّشاط الاقتصادي، أيضاً، وتشترط بالتالي النّجاعة والمهارة والاجتهاد الدائم وهي سلعٌ بدأت تختفي من السّوق.
سليم بوفنداسة