يعيدُ الموتُ الذي يقدّم نفسه بوجه صارمٍ هذه الأيام، تعريفَ الحياةِ والطّعن في المفاهيم التي راكمها الإنسانُ منذ خصّ نفسه بإدارة هذا الكوكب الصغير بثقة مدبّر شؤون المكان والمتصرّف الوحيد. فنكتشفُ، مثلاً، أنّ الحضارة الإنسانيّة مهدّدةٌ، لأسباب تصعبُ الإحاطة بها، لأنّها مرتبطةٌ بمجرى حياة كائنات غير مرئيّة تُشاركنا الفضاء وقد تسكنُ أجسادَنا من دون استشارتنا أو نيل رضانا.
ومثلما أثرت أوبئةٌ سابقة في الهندسة والعمران والاجتماع، فإنّ هذا الوباء، سيجرّد الإنسيّ من غروره و قد أثبت له أنّ الطبيعة قد تخبّئ له مفاجآت وأنّ العلم الذي جعله يعتقد بأنّه موشكٌ على الانتصار على الموت بعد أن نجح في استنساخ الخلايا، يقفُ عاجزاً أمام غموض الطبيعة وأسرارها وكائناتها التي قد تعيد الإنسان إلى الحياة البدائيّة، إذا لم تكن تهدّد وجوده أصلاً.
لا شيء سيبقى على حاله بعد هذه العاصفة السوداء، سيُعاد النظر في مجرى الحياة، مرّة أخرى، سيتغيّر العمران، سيتغيّر نمط العيش، سنتخلى عن ثوابت ومسلمّات ونعيدُ تعريف اللّذة والألم، سنزداد عزلة ، ستظهر فلسفة جديدة بعد العاصفة ويظهر فنٌّ جديد، سيتغيّر الذوق.
وحده جشع الإنسان سيظلّ على حاله، مثلما ستظلّ شهيّته إلى الاستحواذ والسيطرة مفتوحةً، لأنّه لم يتعلّم من العواصف السابقة كيف يقتسم أسباب الحياة بعدلٍ مع جيرانه في البيت المُؤقّت الذي قد يغمره الماء بعد قليلٍ، وهكذا أصبح مصدراً للموت سواء بالقتل المباشر لإخوته أو بإنتاج أسباب الموت بسخاءٍ.
وانتقل فيروس الوحشيّة من الجماعات البدائيّة إلى الجماعات الحديثة، من الأدغال إلى المدن ومن القبائل إلى الدوّل والكيانات، وهكذا ظهر الاستعمار والسيطرة والديبلوماسية و الجيوبوليتيك والاستراتيجيات، أي تلك المراودات التي تسبق الإجهاز على الضحيّة، في محاكاة للمطاردات التي يقوم بها إخوتنا في البرية، فاستمرّت الحروب وكلّ أشكال السيطرة والاستحواذ التي امتدت إلى الحاجات الضروريّة للحياة.
أجل، تتحوّر الفيروسات القاتلة، تزداد قوّة وتضعف، تتغيّر طبائع الحيوان بعد استئناسه، تتغيّر الطبيعة نفسها مع الزمن، وحدها الطبائع البدائية للإنسان تظل على حالها حتى «يفنى ويفنيها» !
سليم بوفنداسة