برزت في الفضاء الإعلاميّ الوطنيّ ظاهرة المذيع المستبدّ الذي يتحدّث أكثـر من ضيوفه ولا يترك لهم المجال لتقديم أرائهم، يحدث ذلك في التلفزيونات كما في الإذاعات، حيث يتحوّل المقدّم إلى خطيبٍ يصرفُ ثُلث الحصّة في التّقديم والتّأكيد على دور المؤسّسة التي يشتغل فيها في توازن الكون وثلثين في تقديم أرائه واستنتاجاته، وقد يجودُ على الضيوف بما تبقى قبل أن يُداهمهم الوقتُ.
و يضطرّ مُختصّون وخبراء قادهم القدر إلى حصصٍ لمجاملة مذيعة لم تقمُ بتحضير الموضوع، فتضطر إلى طرح أسئلة مدرسيّة أو مذيع أسرف في جمع المعلومات ويريد استعراضها بالمناسبة.
ثمّة قواعد مهنيّة وأخلاقيّة ضاعت مع الانفجار الإعلاميّ وتعدّد وسائل الإعلام و توسّع رقعة البثّ، و يبدو أنّ "التحكّم" في المادة المقدّمة تحوّل إلى مشكلة ازدادت تعقيداً بفعل تأثير مواقع التواصل بنجومها التي دفعت مُشتغلين في الإعلام إلى التخفّف من المهنيّة لمجاراتها، بل وإلى خلع ثوب المهنة في كثيرٍ من الأحيان، فيتحوّل المقدّم إلى موضوع في حد ذاته.
و قد نغفل تلك المقاطعات في مُنتصف الجُمل، التي هي عادة نصادفها في كلّ مكان، حيث ثمّة دائماً من يقطع جملتك و ينوب عنك في إكمالها، أو نغفل تلك المحاورات الغريبة في الخطوط المفتوحة لجمهور واسع حول مسائل تستدعي تدخل أهل الاختصاص أو المرح الزائد الذي يدفع مذيعة، مثلاً، إلى مطالبة المتدخلات في الإذاعة بالزغردة طيلة الصباح السعيد.
صحيح أنّ "الميديا الجديدة" خلخلت الأداء الإعلامي حتى في دوّل عريقة، حيث أصبح البحثُ عن "الكلاش" و "البوز" هدفاً حتى في حصصٍ إخباريّة جادة، لكنّ ذلك لا يمنع من وضع ضوابط الأداء لحماية المهنيين من الانزلاق لا سيما في مؤسّسات موجهة للخدمة العموميّة ولا تعاني من تبعات الإكراهات التجارية التي تفرضها السوق، ولا تواجه ضغوطات لرفع نسب المشاهدة أو الاستماع، وبالتالي فبإمكانها المحافظة على القواعد المهنيّة والأخلاقيّة بل و تعزيزها مشفوعة بتكوين مستمرّ، يرسم للمتدخّل حدود تدخلّه ويقلّص مساحات اللّغو لديه ويدرّبه على فضائل النّقاش الديمقراطي الذي يجعل من المذيع طرفاً محايدا يتيح للضيوف فرصة استعراض الأفكار والآراء من دون أن يرهق نفسه أو مُتابعيه.
سليم بوفنداسة