كانت مُقاطعة إسرائيل عقوبة رمزيّة قاسيّة تعرّض لها هذا الكيان الدمويّ منذ اختلاقه، حيث ظلّ منبوذًا في مُحيطه ومفضوحًا أمام الرأي العام العالميّ، رغم دعم أقوياء العالم ولصوصه الذين دفعهم الجشعُ إلى حرمان الإنسانيّة من تحصيل عائدات التطوّر الذي راكمته منذ ظهور الحياة على الأرض، من خلال فرض "نظام عاملي" جائر، يعتمدُ القوّة ويتنكّر للحقّ.
لكنّ إسرائيل نجحت في تحقيق اختراقات رفعت عنها الحصار في الخطاب الثقافي و الإعلامي العربي، باسم الاختلاف والتعايش ظاهريًا و خضوعًا، لا شكّ فيه، للوبينغ تقوم به الصهيونيّة في الأوساط السيّاسيّة والثقافيّة والإعلاميّة الغربيّة وامتدّ "إشعاعه" إلى عواصم عربيّة باتت تُنافس المراكز التقليدية للثقافة على الريادة.
وهكذا تحوّلت "مناهضة التطبيع" إلى سلوكٍ متخلّف، في رأي بعض النّخب و في طنينِ الذّباب الذي يُطلقه حديثو العهد بالتّطبيع العلني، ونلاحظ ذلك في التعليقات الساخرة على مقاطعة رياضيين إسرائيليين في منافسات دوليّة أو حمل العلم الفلسطيني في مناسباتٍ أخرى.
هذا الاختراق رفع الحرج عن محتلّ يُمارس الفصل العنصري ويقتل على الهويّة، بعدما كان يواجه انتقادات وازنة على المسرح الثقافي العالمي، ويكفي أن نذكر الزيارة التاريخية لفكّ الحصار عن الفلسطينيين التي قام جوزيه ساراماغو وخوان غويتيسولو و وول سوينكا وكوكبة من الكتّاب الذين تحدوا الدعاية الإسرائيلية وأكدوا في لحظة نادرة أنّ المثقف لا زال ينتصر للحقّ في هذا العصر السّخيف، وحين يقول كاتب رائعة "العمى" أنّه يفضل أن يكون بوقا لفلسطين على يكون متعاونًا مع الدعاية الإسرائيليّة، فإنّ الأمر يتعلّق بانتصار رمزي للمظلوم وبموقفٍ أخلاقيّ لكاتب عالمي لا يحتاج إلى تسوّل الجوائز أو إلى مجدٍ تصنعه الميديا، لأنّه صنع مجده بقيمته الأدبيّة وبمواقفه التي لا يطالها الباطل، وهي معادلة لا يستوعبها صائدو الجوائز المتأخرين الذين يشتمون أصولهم ويزيّنون في نصوصهم صورة الظالم.
لم تسقط شيرين وحدها، لأنّ الرصاصة التي أوقفت حياتها و أنهت تجربةً مُلهمة في ممارسة الصّحافة، أسقطت إيديولوجيا التطبيع الصّاعدة التي يسوقها أولئك الذين يسعون لفتح الأبواب لقاتلٍ لا يكفّ عن القتل، ويحاولون الاستفادة من خبرته في تحويل العدوان إلى سلوك لا يدينه أحدٌ.
سليم بوفنداسة