قدّم باتريك موديانو في خطبة نوبل الأسبوع الماضي درسا بليغا حول الكتابة، وأعاد تذكير العالم بتلك السلالة النادرة من الكتّاب التي تعيش في الكتابة ولا تكتب لتعيش، أي تلك الفئة التي تختفي خلف أسوار العزلة لتصوغ منجزها الذي لا يستهدف مجدا أو مكانة، بل يساعد صاحبه في استدراج الحياة إلى اللغة، فقط لا غير.
يعلّمنا موديانو أن الروائيّ يأتي من الصّمت وهو أبعد الناس عن الكلام حتى في اللحظات التي يضطرّ فيها إلى الخروج من الكتابة، كأن يفوز بجائزة نوبل ويجد نفسه مجبرا على مقاومة تلعثمه كطفل يتوقّع أنّ أحدهم سيوقف تدفّق كلماته بعد حين.
بل أنّ الكاتب سيستغرب لماذا مُنح جائزة الجوائز وهو الذي كان يعتقد أنّه يسير في الطريق الخطأ كلّما بدأ كتابة الصفحات الأولى من رواية ثم يشعر بعدم الرضا في نهايتها فيبحث عن التوازن في كتاب جديد.
ويعلّمنا موديانو أن الروائيّ أعمى لا يستطيع أن يكون قارئا لنفسه أو يرى أبعد مما هو فيه.
نعم، بين العمى والصمت تنمو الكتابة حتى تصير غابة، تماما كما في حالة موديانو الذي يتساءل كيف ستعبّر الأجيال الجديدة أدبيّا في زمن توغّلت فيه الشبكات الاجتماعية إلى مناطق حميمة وسريّة كان يحتكرها الأدب؟
سؤال يخفي خوفا على مستقبل الأدب الذي خدمت سرعة وحرية النشر المتجاسرين عليه. وربما لن يكون الأمر مطروحا بحدّة في بلد له تقاليده في الكتابة والقراءة كفرنسا، لكن الخوف سيكون أشدّ هنا في أقاليمنا التي تعاني من فوضى ذهنيّة هي نتيجة التخلّف وضعف التعليم وغياب الديمقراطية والفرز الذي ينتج عن ثقافة الاستحقاق، حيث باتت تُنسب كل كتابة إلى عائلة الأدب دون الحاجة إلى التأكد من نسبها، تماما كما تُنسب الكثير من الأشياء إلى غير آبائها وكما تظل أشياء كثيرة بلا نسب.
ولعل الدرس الأهم الذي نستخلصه من خطبة موديانو يتمحور حول الخدمة التي يوفرها الصمت للكتابة، طرح يتقاسمه الكاتب مع أكبر الروائيين في صورة ميلان كونديرا الذي لا يتكلم أبدا خارج الأدب،
درس قد يكون مزعجا لكتاب العصر والأوان الذين ما إن يكتب أحدهم رواية تُقرأ في سويعة حتى يملأ العالم بالصخب ولا يكتفي في “كلامه” بإعادة النظر في تاريخ الأدب بل يعيد، مشكورا، النظر في نواميس الكون.
سليم بوفنداسة