لم يكن المهندسون الذين استولوا على الفراغ لتسخيره لإخوانهم الذين ضاقت بهم الأرض، يدرون أنهم سيتسبّبون في مشكلة!
ربما شفعت لهم النوايا الحسنة، فقد كان ابتكار العمارة الشاهقة جوابا عبقريا على مشكلة نجمت عن تمركز البشر في مواقع محدّدة بسبب تغيّر نمط الحياة، وكان على السوسيولوجيا أن تتولى تتبّع نكسة العمارة في نزوحها جنوبا وفحص تيه الإنسان في تنقله من البادية إلى البنايات العالية.
يجلس «التائه» أسفل العمارة يفترش العشب، يفترش الكرطون، يفترش الزربية. يشرب الماء. يشرب الشاي. يشرب القهوة. يصلي. يستلقي. يلعب الدومينو. يلعب الورق. يلقي المواعظ. يحلّل الأزمات. يستعرض انتقالات اللاعبين في الأندية الأوروبية. يخبرنا أن مورينيو سيفعل الأعاجيب هذا الموسم وقد منّ عليه الله بلوكاكو. يخبرنا أن زيدان لا يحتاج إلى نجوم في الميركاتو لأنه يخرج النجوم من بين صلب كاستيا و ترائبها، و أن هذا العام عام السنافر و البارصا. للتائه أطفال يتجمعون حوله فيهشهم لينتشروا أسفل العمارة.
قد ينام التائه أسفل العمارة حتى تعبث نسمات الفجر بأطراف جبته. قد يستدرج تائهين آخرين إلى زربيته أو كرطونه لمقاومة ليل الصيف بالكلام.
لا يعرف التائه أنه يجلس في المكان الخطأ. لا يعرف التائه أنه حمل الزربية و الماء و الدلاع والكلام إلى مواقع غير مواقعها. لا يعرف أنه أثار الصخب. لأن الصخب في قاموسه مجرد كلام يلقيه في أثير الليل. لا يعرف التائه أن هناك من الناس من يريدون النوم وهم غير مسؤولين عن ضياعه في الفضاء وانتقاله من بيت واسع في براري الله إلى علب معلّقة في الهواء ابتدعها مهندسون جوابا على ضيق الأرض بما حملت. لا يعرف التائه أنه تائه. لا يعرف أنه ليس من حقه أن «يناجي النجم ويتعبه ويقيم الليل ويقعده» أسفل العمارة. لأننا أخذنا بمظاهر التمدن وأغفلنا قواعده التي يتم فرضها عبر التربية وعن طريق القوانين الردعية، ففي فرنسا التي يستهوينا أخذها كمثال، تم قبل سنوات سنّ تشريع يمنع الوقوف والتجمع في مداخل العمارات، لأن إخوتنا الذين هناك باتوا يسهرون أسفل العمارات.
ملاحظة
ما تقدم ليس هجاء للبداوة، بل مجرد إشارة إلى التيه.
سليم بوفنداسة