الأربعاء 27 نوفمبر 2024 الموافق لـ 25 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

جــاك

لم يهنأ مذ صارت تلك الهواتف الصغيرة ضرورية في حياته البطيئة. بعد صمود سنوات أجبر على اقتناء الهاتف الحشرة في مقايضة لم يكن الطرف المتحمّس فيها. كانت الرنّات تزعجه بعدما شاع رقمه بين أصحاب «الحوانيت» فصاروا يتعمّدون إثارة هاتفه دون محادثته، فما إن يحاول الضغط على زرّ الجواب حتى يختفي السائل. مئات الرنّات تلاحقه طيلة اليوم حتى أنه داس «الحشرة» في غضبة مشهودة. لا يذكر جاك وجه أمه ولا صوت أبيه. هو ابن نفسه بالتبني لذلك أهملها كما يفعل أب غير مكترث. لا يعرف أحد من أين أتى كأنه استنبت نفسه في هذا الحي. نسجت حوله الأساطير، فقيل أنه هارب من ثأر وقيل أنه أتى من الأفعال ما يجعل عودته مستحيلة وقيل أنه فرّ من دارة منتظري الموت على تخوم المدينة، لم يستطب المقام بين اليائسين الذين يكرّرون في هذياناتهم قصص العقوق ويحاولون كلّ ليلة إعادة تركيب حياتهم التي لم تكن حياة، ويمدّون أيديهم المرتجفة إلى خيّري المناسبات الذين يفضلون الإحسان أمام عدسات تؤبّد العطاء. لا أطفال لجاك، عدا أطفال نزلوا من خياله إلى الشارع موفرين عليه مشاعر الأبوة ومقالبها. لا اسم لجاك غير هذا الاسم الذي قيل أنه أطلق عليه في شبابه لولعه بذاك المغني البلجيكي الذي حاول مسخ نفسه في هيئة ظل كلب لإثناء امرأة عن هجره. لا امرأة لجاك ومن شاء أن يغضبه عليه بتذكيره بقصة من القصص الكثيرة التي اختلقت عن سيرته. لا بيت لجاك فهو ينام كيفما اتفق في المطاعم والدكاكين حيث يقدم خدمات في النهار مقابل قضاء الليل، كأن يقشّر البطاطا أو ينظف المكان أو يحمل السلع. يقول أنه قشّر مرة نصف قنطار من البطاطا التي يحبها الشعب. اهتدى جاك إلى طريقة ترحمه من إزعاج طالبيه، دلّه أحدهم على كيفية إسكات الرنّات دون تكسير الهاتف: اضغط هنا سيصير صموتا. يهتز فحسب. بإمكانك أن تجيب مع أول ارتعاشة وكلما أسرعت في الجواب أخسرت طالبك العابث بضعة دنانير فيكف عن العبث.
 يغالب جاك عرجه وهو يصعد من هذا الحي الذي يحمل اسم قديس غابر إلى الرحبة حيث يحاول مقايضة هاتفه بهاتف يشترط فيه الارتعاش قبل الرنين، في الطريق الطويل كعمر بلا مسرّات يتظاهر جاك بمهاتفة  أحد ما، قد ينفعل جاك وهو يتحدث، قد يبتسم، قد يطمئن. وفي الليل حين يستلقي على حصيرة  في زاوية مظلمة يشكل أرقاما وهمية ويشرع في حديث طويل مع أحبته، مع أمه التي لا يذكر وجهها، مثلا، مع أطفاله الذين قفزوا من خياله إلى الشارع ولم يمهلوه حتى يقيم لهم في صدره أعشاش الأبوة وينصب لهم فخاخها.
سليم بوفنداسة

 

المزيد من الأعمدة

صوتُ الحياة

شاخ الوقتُ حولها لكنّها ظلّت في مقتبل الصّبا تسقي الدهشة وتشيعها، لأنّ المنادي الذي نادى النّاس...

  • 25 نوفمبر 2024
المُنمركون !

يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا...

  • 18 نوفمبر 2024
لا تلوموا أسامة!

يطرحُ الإقبال "غير المتوقّع" على الكاتب السعودي أسامة المسلم في صالون الجزائر الدولي للكتاب،...

  • 11 نوفمبر 2024
«لأسبابٍ سياسيّة» !

قبل سويعات من الكشف عن الفائز بجائزة الغونكور، أمس، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ناشرٍ قوله، إن...

  • 04 نوفمبر 2024
الصّورة و النّص

عاش كاتب ياسين حياةً قليلة وبسيطة، عانى فيها من "سوء الفهم" و الأسطرة، فضلا عن الجدل الذي لم يفتر...

  • 28 أكتوير 2024
المُستريحون

تُخفي الفرحةُ بموت أحدٍ، حالة قهرٍ عاشها الفَرِحُ في وجود الرّاحل الذي حقّقت ميتتُه زوال غمٍّ،...

  • 21 أكتوير 2024
طفولــة

سليم بوفنداسة ينشغلُ عددٌ غير قليل من الجزائريين بنظرة الآخر التي تتحوّل إلى مصدر فخرٍ أو سبب...

  • 15 أكتوير 2024
ضرورة الفرز

سليم بوفنداسة لا يواجه الأدب الجزائري مشاكل في التلقي فحسب بل يواجه أيضًا مشاكل في الكتابة...

  • 01 أكتوير 2024
سُقــــوط

سليم بوفنداسة فرضت ثقافة السّوق التي تهيمن على عالمنا المعاصر نمطًا جديدًا من النّخب، تنتجه...

  • 24 سبتمبر 2024
حارةُ المُؤثرين

هل تستطيعُ وسائطُ التّواصل الاجتماعيّ حمل الخِطاب الثقافيّ، وهل يسلمُ، في حال استخدامها من الخِفّة التي تفرضها...

  • 17 سبتمبر 2024
المهيمنُ لا يتحرّج

لا يستريحُ القتلةُ في الصيّفِ، فكلّ الفصول مُناسبة لإراقة الدم، ولعلّهم نجحوا في تحويل المقتلة...

  • 29 جويلية 2024
كرمٌ مُعلن

يمكن اعتبار الاحتفاء بالناجحين علامة صحيّة، لما في ذلك من تقديرٍ للعلم ومُحصّليه، شرط أن يكون...

  • 22 جويلية 2024
محنة الرواية!

تعرّضت الكاتبة إنعام بيّوض إلى حملة تشهير بالغة السوء على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشر صوّر...

  • 15 جويلية 2024
محاذير الفرح!

أثار الفرح "المبالغ فيه" بالنّجاح في مختلف امتحانات نهاية السنة، الجدل بين مناصرين للحقّ في...

  • 01 جويلية 2024
«ترندينغ»

تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بترتيب اهتمامات "الرأي العام"، مُنهية بذلك احتكار وسائل الإعلام...

  • 24 جوان 2024
سِرُّ مالك!

بقدر الدهشة التي تخلّفها جُملته، بقدر الحسرة التي ينتهي إليها قارئه، حسرة على عدم اكتمال قصّة وعلى الصّمت...

  • 03 جوان 2024
«الطريق»

توفر الوسائط التكنولوجيّة "حياةً جديدةً" للإبداع، من خلال القنوات التي تفتحها مع المتلقّي، مختصرةً الجهد والوقت...

  • 27 ماي 2024
الفيلسوف متوحشا

أصاب الحراك الطلّابي في الغرب، الفيلسوف الفرنسي الصهيوني الهوى ألان فينكلكروت بالرّعب، إلى درجة...

  • 20 ماي 2024
الخروج من حُجرة الكتابة

خرج بول أوستر من "حجرة الكتابة" تاركًا أبطاله لمصائرهم الغامضة وشعبًا يتيمًا في مختلف اللّغات، هو...

  • 06 ماي 2024
قطارُ الباطل

سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على...

  • 29 أفريل 2024
Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com