لم يهنأ مذ صارت تلك الهواتف الصغيرة ضرورية في حياته البطيئة. بعد صمود سنوات أجبر على اقتناء الهاتف الحشرة في مقايضة لم يكن الطرف المتحمّس فيها. كانت الرنّات تزعجه بعدما شاع رقمه بين أصحاب «الحوانيت» فصاروا يتعمّدون إثارة هاتفه دون محادثته، فما إن يحاول الضغط على زرّ الجواب حتى يختفي السائل. مئات الرنّات تلاحقه طيلة اليوم حتى أنه داس «الحشرة» في غضبة مشهودة. لا يذكر جاك وجه أمه ولا صوت أبيه. هو ابن نفسه بالتبني لذلك أهملها كما يفعل أب غير مكترث. لا يعرف أحد من أين أتى كأنه استنبت نفسه في هذا الحي. نسجت حوله الأساطير، فقيل أنه هارب من ثأر وقيل أنه أتى من الأفعال ما يجعل عودته مستحيلة وقيل أنه فرّ من دارة منتظري الموت على تخوم المدينة، لم يستطب المقام بين اليائسين الذين يكرّرون في هذياناتهم قصص العقوق ويحاولون كلّ ليلة إعادة تركيب حياتهم التي لم تكن حياة، ويمدّون أيديهم المرتجفة إلى خيّري المناسبات الذين يفضلون الإحسان أمام عدسات تؤبّد العطاء. لا أطفال لجاك، عدا أطفال نزلوا من خياله إلى الشارع موفرين عليه مشاعر الأبوة ومقالبها. لا اسم لجاك غير هذا الاسم الذي قيل أنه أطلق عليه في شبابه لولعه بذاك المغني البلجيكي الذي حاول مسخ نفسه في هيئة ظل كلب لإثناء امرأة عن هجره. لا امرأة لجاك ومن شاء أن يغضبه عليه بتذكيره بقصة من القصص الكثيرة التي اختلقت عن سيرته. لا بيت لجاك فهو ينام كيفما اتفق في المطاعم والدكاكين حيث يقدم خدمات في النهار مقابل قضاء الليل، كأن يقشّر البطاطا أو ينظف المكان أو يحمل السلع. يقول أنه قشّر مرة نصف قنطار من البطاطا التي يحبها الشعب. اهتدى جاك إلى طريقة ترحمه من إزعاج طالبيه، دلّه أحدهم على كيفية إسكات الرنّات دون تكسير الهاتف: اضغط هنا سيصير صموتا. يهتز فحسب. بإمكانك أن تجيب مع أول ارتعاشة وكلما أسرعت في الجواب أخسرت طالبك العابث بضعة دنانير فيكف عن العبث.
يغالب جاك عرجه وهو يصعد من هذا الحي الذي يحمل اسم قديس غابر إلى الرحبة حيث يحاول مقايضة هاتفه بهاتف يشترط فيه الارتعاش قبل الرنين، في الطريق الطويل كعمر بلا مسرّات يتظاهر جاك بمهاتفة أحد ما، قد ينفعل جاك وهو يتحدث، قد يبتسم، قد يطمئن. وفي الليل حين يستلقي على حصيرة في زاوية مظلمة يشكل أرقاما وهمية ويشرع في حديث طويل مع أحبته، مع أمه التي لا يذكر وجهها، مثلا، مع أطفاله الذين قفزوا من خياله إلى الشارع ولم يمهلوه حتى يقيم لهم في صدره أعشاش الأبوة وينصب لهم فخاخها.
سليم بوفنداسة