يكاد الموت يصبح الإشارة الوحيدة الملفتة إلى ظواهر «عريقة» في حياتنا، لأننا ببساطة ننتمي إلى منظومة اجتماعية لا تستعين بالمعرفة في تدبير شؤونها ولا تنزع نخبتها إلى دراسة المحيط و تعتمد صناعة القرار فيها على ردّ الفعل، بعد أن يقع الفعل الذي كان يمكن ردّه.
فافتقاد مستشفياتنا إلى «الإنسانية» سبق موت سعيدة بسنوات طويلة، رغم أننا بنيْنا المستشفيات في كل ربوع البلاد الشاسعة ورغم أننا ننفق ملايير الدولارات سنويا على المنظومة الصحية التي تعدّ إحدى عناوين الدولة الاجتماعية التي تصرّ على إبقاء العلاج بالمجان، لكننا لم نفلح، على ما يبدو، في بناء الإنسان المؤهل لشغل الفضاء الصحي، رغم مجانية التعليم والتكوين التي وفرت للأطباء وأشباههم!
و قد تداولت الصحافة قصصا غريبة عن الإهمال والتقصير والبيروقراطية في مؤسسات كان يفترض أن تتوفر على منسوب من الإنسانية لأنها تتعامل مع أشخاص في وضعيات هشة، وكرّر مسؤولون متعاقبون الحديث عن «أنسنة» أخذت في التراجع بمرور الوقت، وربما كانت تربة السجون أخصب من تربة المصحات لزرع هذا المصطلح الظريف.
في الدول المتطورة، عادة ما تكون الفضاءات الصحية مواضيع دراسات وبحوث سوسيولوجية ونفسية وحتى موضوعا للفلسفة والتفكير السياسي، لأن التقدم يقاس أيضا برفع معدلات الحياة وخفض معدلات الأمراض والإجراءات الوقائية التي يتم وضعها لحماية المواطنين.
وبالرغم من جهود الجزائر الكبيرة في حربها ضد الأمراض والأوبئة، إلا أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى اختلالات مرتبطة بتسيير القطاع ومراقبته وأخرى ذات أبعاد سوسيولوجية ونفسية مرتبطة بالبنى العشائرية التي ترفض النظام الذي تقترحه المؤسسة وبالنظرة إلى المهنة كامتياز اجتماعي ثم كسلّم ارتقاء وتربّح. فحين ينصب أستاذ في الطب تمثالا له في مكتبه بمستشفى جامعي، و حين يحوّل أستاذ آخر مكتبه إلى فضاء للتسلية والسمر، وحين يهرّب جرّاح مرضاه الفقراء إلى العيادات الخاصة، وحين يركز مدير اهتمامه على صفقات اللحم وينسى وضعية المرضى، فإن الأمر يحيل إلى مرض خطير تصبح معه «الإنسانية» المنشودة ترفا. مرض لا ينفع معه الردع الضروري في مثل هذه الحالات، وحده، بل يدفع إلى إعادة النظر في أساليب تكوين المنتدبين للسهر على صحتنا، و إلى إعادة تعريف الخدمة العمومية، وربما أبعد من ذلك إلى إعادة النظر في «العقد الاجتماعي» لأن حالات نضوب «الإنسانية» تؤشر في الكثير من الأحيان إلى انفراطه.
سليم بوفنداسة