يتحرك باحثون جزائريون في مجال علم الآثار، لأجل حماية المعالم الأثرية التي يتهددها الاندثار بفعل هشاشتها، و يقترحون أساليب جديدة في العمل، تعتمد على توظيف منتجات التكنولوجيا الحديثة لخدمة التراث و إعادة رسم الخارطة الأثرية المندثرة، خصوصا وأن تطور العلم يوفر حلولا تسمح باسترجاع صور من الجزء المنسي من التاريخ.
إيناس كبير
تخلد الآثار القديمة صورا عن دورة الحياة و تعاقب الحضارات، فهي شواهد على تواجدها في زمن معين، فضلا عن حفظ فضل أفرادها في ترك إنجازات ساهمت في بنائها وتطويرها، وبذلك فإن زوالها يعني زوال الأثر البشري من صفحات التاريخ، وقد حملت أرض الجزائر، وفقا لأساتذة و باحثين في الآثار، مخلفات ومعالم توثق لثقافات مختلفة بعد أن أقامت عليها أمم كثيرة، بينما اندثرت آثار أخرى بسبب عوامل طبيعية وبشرية، وهو ما يفرض حتمية التدخل حسب مختصين عن طريق استخدام ما يتيح العلم الحديث و التكنولوجيا من حلول ممكنة.
وحسب باحثين في المجال، فإن بعض المدن المندثرة تشكل اليوم عنصر شك وفضول، بسبب غياب شاهد مادي على تواجدها، خصوصا بعد أن نُسجت قصص حولها منها ما ينأى عن الواقع العلمي، مقابل وجود بعض المغالطات عن مواقع تثير إليها بعض المصادر.
وتعد الكوارث الطبيعية لاسيما الزلازل والفياضات، بالإضافة إلى توسع العمران الحضري فوق مساحات تضم بقايا أثرية لمدن اندثرت كليا أو جزئيا، من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى اختفائها من سجلات التاريخ ما يصعب مهمة التنقيب عنها أو التعريف بها، وهو الحال مع بعض المواقع الأثرية التي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ بالجزائر، وكذا بعض قصور منطقة الصحراء، فضلا عن مدن عتيقة أصبحت هشة وعلى مشارف التهدم.
من جهة أخرى، فإن الحروب والصراعات التي تندلع في العالم لا تهدد الحياة البشرية فحسب، وإنما تمحي آثارها المادية أيضا، ما يُصعب على الأجيال التعرف على ما تركوه، فضلا عن حياتهم الاجتماعية والثقافية، هذه التهديدات والمخاطر دفعت بباحثين وأساتذة في علم الآثار ومهتمين بالتراث، إلى دق ناقوس الخطر، وإجراء تنقيبات وبحوث لحماية بقايا آثار المدن المندثرة و التعريفا بها، وإثباتا لانتمائها إلى الأرض التي وُجدت عليها.
لابد من إعادة كتابة التاريخ الأثري بصورة حديثة
يشير الأستاذ بقسم التاريخ والآثار، بجامعة عبد الحميد مهري، قسنطينة 02، عمر حديبي، إلى مشكلة ضياع المعطيات التاريخية التي تعرف أفراد المجتمع بالموقع الأثري، مؤكدا على أنها سبب في اندثاره وزواله، وبالأخص في حالة عدم توفر دراسات وأبحاث عنه، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى غياب برامج لحمايته، ويوجب العمل على إعادة كتابة التاريخ بصورة حديثة بالاستناد إلى منتجات العلم.
وعدّد حديبي، بعض المواقع، ذاكرا، موقع «أكجان» ببني عزيز ولاية سطيف، و مواقع طبنة، وسدراتة، وتيهرت، وغيرها، وقال إن المجالات التقنية الحديثة تساعد على الحفاظ على المواقع الأثرية، خصوصا وأن هذه المجالات أصبحت واسعة حسبه، ومتطورة في جانب الوسائل والمعدات وكذا البرامج، والنظم الإلكترونية الدقيقة، التي تسمح بالكشف عن مواطن التواجد البشري، وذكر حديبي، تحليل عينات التربة، واستخدام نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد.
وبحسبه، فإن البقايا الأثرية لها أهمية كبيرة في فهم المظاهر الحضارية السائدة سابقا، خاصة المواقع والبقايا التي لا توجد معلومات عنها في المصادر المكتوبة والوثائق، وأفاد بأن دراساتها تستلزم إقامة حفريات، وإخضاع البقايا لدراسات وتحاليل مخبرية تكمن فائدتها أساسا في إعادة البناء الحضاري للمنطقة ككل.
ومن أهم المراحل التي تدخل في حماية المواقع الأثرية المهددة بالاندثار، ذكر محدثنا، أن أول خطوة تتمحور في تصنيفها من طرف وزارة الثقافة كتراث ثقافي وطني مادي، ما يحقق لها تخصيص ميزانية للأبحاث والتأهيل.
توظيف التكنولوجيا يقدم فكرة أوضح عن الماضي والحاضر
من جهتها، أوضحت الأستاذة بجامعة صالح بوبنيدر، قسنطينة 03، عايدة جغار، بأن التطورات الرقمية، وانتشار استخدام المنصات الإلكترونية، ونظم المعلومات الجغرافية والذكاء الاصطناعي لاسيما في المناطق الحضرية، لعب دورا حيويا في نشر المعروفة الثقافية حول التراث العمراني وحمايته أيضا.
وأشارت جغار، إلى مجموعة من التقنيات الحديثة التي تساعد في تسليط الضوء على المعالم القديمة الهشة، التي تحمل في طياتها الذاكرة والهوية الخاصة بمنطقة معينة ذاكرة البوابات، فعلى سبيل المثال، يمكن حسبها تجهيز مداخل المحطات السياحية والمسارات ببوابات ذكية تمنح السياح معلومات عن المكان وتصفه.
وتحدثت الباحثة، عن توظيف تقنية رمز الاستجابة السريعة «كيو آر كود» لتنزيل خراط تشرح مراحل إنشاء الموقع الأثري، خصائصه «الجيومورفولوجية»، الترميمات التي مسته، وكذا الشخصيات التي مرت به، وهو ما اعتبرته ضمانا لتجربة تعليمية وجذابة للسياح، وذكرت أيضا المسح ثلاثي الأبعاد للمدن والمعالم الأثرية ومحاكاة الأجزاء المندثرة منها، ومن ثمة إدخال بياناتها في طاولات إلكترونية في شكل خرائط، تتاح في قاعات ذكية داخل المتاحف، يستطيع السائح من خلالها القيام بجولة افتراضية في المدن الأثرية، والتعرف على المناطق المندثرة منها.
كما تحدثت جغار، عن ضرورة رقمنة الأرشيف الأثري للمدن، والاعتماد على المنصات والتطبيقات، التي وصفتها بأنها تعد بوابة لاكتشاف المدن القديمة الهشة، خصوصا وأنها تساعد على القيام بجولات افتراضية داخلها.
ووفقا للمتحدثة، فإن إدراج التقنيات الرقمية في الترويج للتراث، وتعزيز قيمته يحمل العديد من الفوائد الاقتصادية، والثقافية والاجتماعية، مضيفة بأنه يتطلب تنفيذ العديد من التدخلات والإجراءات، كتخصيص مساحات جذابة للسياح، وقاعات أو فضاءات في الهواء الطلق بالقرب من الأماكن التي تستحق التطوير، أو في ساحات تاريخية ورمزية مثل قصر الباي، بيوت قديمة لأدباء ومثقفين، وزوايا العلماء.
هذه هي أسباب اندثار آثار المدن العتيقة
من جانبه يعتبر عمر بلوط ، أستاذ بقسم التاريخ والآثار، بجامعة عبد الحميد مهري، قسنطينة 02، العامل البشري أساسا لزوال آثار كثير من الحضارات القديمة، ومن جملة الأسباب التي ذكرها، الحروب والنزاعات، بدليل الشواهد التاريخية والأثرية على ذلك كثيرة في المنطقة الإسلامية من المشرق إلى المغرب وصولا إلى الأندلس.
مضيفا، بأن ما يحصل في الوقت الحالي من صراعات عسكرية دليل على الدور السلبي الكبير للإنسان، في محو الكثير من الدن والمواقع الأثرية من الخارطة، بسبب القصف الذي يكلف خسارة تراث مادي ثابت وحتى منقول للكثير من الحضارات القديمة. كما ذكر الباحث، الحرائق التي يتسبب فيها الإنسان عن قصد أو غير قصد، و تلحق أضرارا كبيرة بالمدن والمباني باعتبار أن المواد الأساسية المكونة لها قابلة للحرق والاشتعال، وقد تسببت النيران وفقا له، في إتلاف الكثير من المعالم الأثرية القديمة مثل ما وقع للجامع الأموي سنة 1893 وحريق المسجد الأقصى سنة 1969 وغيرها، وكذا أعمال الهدم والبناء العشوائية في المواقع الأثرية، ما يخلف خراب الكثير من المعالم والمواقع الأثرية الواقعة في دائرة هذه المشاريع. وشكل التعصب الديني والفهم الخاطئ للأديان، بحسب بلوط، وعدم احترام المنجزات الحضارية التاريخية للأجيال السابقة، عاملا في تدمير عدة مواقع ومعالم حضارية سابقة.
ويؤثر المناخ أيضا، على الآثار والمعالم الموجودة في الهواء الطلق، حيث أشار الأستاذ بقسم التاريخ والآثار، إلى التغيرات في درجات الحرارة وتأثير ذلك في معالم المباني الأثرية وتلفها، خصوصا الواجهات الخارجية لأسطح المباني الأثرية التي تكون عرضة للشمس ما يؤدي إلى تلف أسطحها الداخلية. موضحا، بأن حدوث شروخ وتشققات على الأسطح الأثرية، يؤدي إلى ضياع النقوش والرسومات بسبب التأثير الفيزيائي الناتج عن التغير في درجة الحرارة والمدى الحراري، إضافة إلى تراكم الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري، والتي من أهمها ثاني أكسيد الكربون الضار كذلك بالمعالم الأثرية وبالخصوص المتواجدة في المناطق الرطبة.