جيجل على عرش الفراولة و المنتجون يلجأون إلى النساء و الأطفال لجني المحصول
تشهد قرى و مداشر ولاية جيجل انتشارا قويا للاستثمار في المجال الفلاحي، من قبل سكان المناطق الريفية الذين هجروا مزارعهم خلال سنوات الإرهاب، لكن زراعة الفراولة احتلت المكانة الأولى في ولاية تربّعت على عرش الولايات الجزائرية المنتجة لفاكهة الحب، التي أجمع الفلاحون على أن إخراجها في شكلها النهائي أشبه بولادة عسيرة يمضي فيها المزارع أشهرا منكبا على وجهه، ليصطدم في النهاية بمشاكل سوء التسويق و غلاء الأسمدة و تأخر الشتلات القادمة من أوروبا، بالرغم من أن الصورة ليست قاتمة بشكل كبير، فقد خلقت الفراولة حولها حركية اقتصادية سمحت لمئات الشباب بإيجاد مصدر رزق في عدة ولايات.النصر أجرت تحقيقا تعرض من خلاله تفاصيل عملية زراعة الفراولة في ثلاث بلديات تعد قطبا في ولاية جيجل، كما نقلت انشغالات الفلاحين و الجوانب الخفية لمجال أعاد الحياة لعدة مناطق، و ساهم في إيصال جزء من المنتوج الجزائري إلى روسيا و دول عربية، في ظل صعوبات اقتصادية ضيقت موارد البلاد.
روبورتاج: سامي حباطي/ تصوير: الشريف قليب
و كانت بدايتنا من بلدية سيدي عبد العزيز، في منطقة تدعى “العزيب” الشرقية و لا يفصل بينها و بين بني معزوز الملحقة البلدية التابعة للجمعة بني حبيبي إلا طريق السيارات، حيث كان وصولنا في الصباح الباكر و لاحظنا انتشارا واسعا للأنفاق البلاستيكية المخصصة لزراعة الفراولة بالحقول المترامية على ضفتي الطريق السريع المقابل لشاطئ البحر، أين انتظرنا صاحب المزرعة الأول بمركز بلدية سيدي عبد العزيز، قبل أن يأتي على متن دراجة نارية و نلحق به إلى مقر عمله رفقة إخوته، الذين قبلوا فتح صدورهم لنا مع تحفظهم على ذكر أسمائهم.
تأخر الشتلات المستوردة ليوم واحد يساوي تراجعا في المحصول بالقناطير
و لم يقدم أول الفلاحين الذين التقينا بهم في المزرعة المذكورة، صورة جيدة عن وضعية إنتاج الفراولة للعام الجاري، حيث أوضح لنا بأن تأخر الشتلات في الميناء كبده خسائر كبيرة، مشيرا إلى أن الشتلة التي يستعملها تأتي خارج المبردات ما يجعل منها قابلة للتلف بسهولة كبيرة، كما أن تأخير يوم واحد يساوي تراجعا للإنتاج بالقناطير بحسب تقديره، خصوصا بالنسبة لأصحاب المزارع التي تضم عددا كبيرا من البيوت البلاستيكية، حيث كان من المفترض، حسبه، أن يتحصل عليها من المستورد بتاريخ 10 سبتمبر، لكن الإجراءات الإدارية و التحاليل جعلته ينتظر إلى غاية بداية شهر أكتوبر، على غرار الموافقة الطبية وحدها، التي تستغرق أكثر من أسبوع أحيانا، مع أن بعض الشتلات لا تحتمل البقاء في الميناء لعدة أيام، أما الممونين فقد أكد لنا بأن أحدهم تكبد خسارة بقيمة 6 ملايير نتيجة التأخر.
و قال محدثنا أن شتلات الفراولة تأتي من إيطاليا و إسبانيا و تدخل المزارع الجزائرية عبر مينائي وهران و الجزائر العاصمة، و بأن مورديها من الدول الأخرى يحتسبون الوقت الذي تستغرقه عملية وصولها إلى وجهاتها في الدول الأخرى بالساعات التي لا تتجاوز 24، و ليس بالأيام مثلما هو معمول به في الجزائر، كما أضاف بأن الشكل الخارجي للشتلات لا يتغير و لا يتلف، و إنما تنعكس مشاكل التأخر على المردود، الذي يسجل تراجعا في النهاية، مشيرا إلى أن المشكلة المطروحة لم تكن مسجلة في السنوات الماضية، عندما كانت الشتلات تصل بين 1 و 10 سبتمبر، كما كان الفلاحون يوقعون على وثيقة التزام و ضمانة بأن يتحملوا مسؤولياتهم في حال تسجيل أية مشاكل، أثناء تلقيها بالموانئ لكن هذا التسهيل لم يعد معمولا به، حسب محدثنا.
و تسببت مشكلة التأخر في خفض محصول البيت البلاستيكي الواحد للفلاح الذي تحدثنا إليه، من 25 إلى 10 قناطير، حيث أكد لنا أن ارتفاع أسعارها في السوق حاليا يعود لتراجع الكميات المنتجة، مضيفا بأن شح السماء تسبب أيضا في خفض الإنتاج، كما أوضح بأن مصانع العصائر و الياغورت من أفضل الزبائن الذين يستهلكون ما يزرعه من الفراولة، إلا أن ندرتها في السوق تدفع الفلاحين إلى التوجه لبيعها بالجملة بأسعار تبدأ من 150 دج للكيلوغرام، لما تدره عليهم من فائدة، عوضا عن توجيهها للمصانع، التي كانت تقتنيها منهم بسعر بين 50 و60 دج في السنوات الماضية، فضلا عن أن بعض الدول العربية الأخرى تملك فائضا في إنتاجها، على غرار مصر، و يمكن بسهولة لأصحاب المصانع أن يستوردوا منها بأسعار أقل مما تكلفهم هنا في ظل تراجع المحاصيل.
و تكلف الشتلة الواحدة ما بين 24 إلى 30 دج، فيما أجمع الفلاحون على أن قيمتها لم تكن تتجاوز 12 دج في السنوات الماضية، حيث يقومون بدفع 70 بالمائة من سعر مجموع الشتلات التي يقتنونها مسبقا، ليتموا مبلغ 30 بالمائة مع نهاية الموسم، و تُحفظ هذه النسبة كضمانة في حال تسجيل الفلاح لخسارة، لكن محدثينا أكدوا لنا أن الموردين يرفضون تقاسم الخسارة معهم في النهاية، حيث يشددون على استلام ما تبقى من المبالغ المالية، كما أنهم يفرضون عليهم، يضيف الفلاحون، نسبة فائدة مقدرة بـ1 بالمائة عن السعر الأصلي في حالات التأخير..
من جهة أخرى، اشتكى مزارعو فراولة آخرون من تدهور حالة المسالك الترابية داخل مزارعهم، حيث أكدوا لنا بأن أضخم الجرارات تعلق أحيانا في الأوحال خلال فصل الشتاء، حيث طالبوا السلطات بمساعدتهم ببسط المسالك باستعمال الآليات و تربة البناء، إلا أنها رفضت ذلك، كونها واقعة داخل ملكيات خاصة.
فلاحون يقدرون تراجع إنتاجهم بحوالي 60 بالمائة
و أجمع مزارعو الفراولة بأن معدل تراجع المحصول في السنة الجارية، يقدر بحوالي 60 بالمائة، حيث ذكر أحد محدثينا بأن الدار الواحدة، التي تعني 8 أنفاق بلاستيكية على طول 50 مترا و تضم إلى 2500 شتلة، كانت تصل عائداتها إلى ما بين 17 إلى 20 مليون سنتيم، لكنها تراجعت في السنة الجارية إلى 5 ملايين سنتيم، فضلا عن غلاء أسعار الأسمدة و الأدوية، التي يصل سعر قارورة واحدة من بعض أنواعها، إلى حوالي مليوني سنتيم، كما أنها لا تغطي أكثر من هكتار واحد، حيث قالوا أن العناكب من أكبر الحشرات التي تهدد محاصيلهم، فيما اهتدت النسوة اللاتي يقمن بالجني في المناطق الجبلية إلى غرس البصل و الثوم، للتخلص منها بفضل الرائحة القوية التي تنفرها، فضلا على أنهن تستفدن من كميات البصل المزروعة.
و يتم إعداد الأنفاق البلاستيكية من خلال وضع قطعة سوداء طويلة من “النيلون” على الأرض للحيلولة دون ظهور الحشائش، قبل استعمال قطع من حديد البناء يتم وضعها في شكل أقواس تغطى فيما بعد بغطاء من مادة “البلاستيك” الشفافة، كما توضع شبكات أنابيب لاستعمالها في السقي، حيث تجلب المياه باستعمال المضخات من الآبار أو الأودية، التي لاحظنا بأنها صافية و نقية، حيث أشار محدثونا إلى أن البيت البلاستيكي الواحد يجب أن يدر كمية لا تقل عن 14 قنطارا كل موسم فراولة تتكرر فيه عملية الجني لحوالي 23 مرة و تستمر إلى غاية بداية جويلية، حتى يتحصل الفلاح على فائدة كافية.
و أفاد الفلاحون أيضا بأن عملية زراعة الفراولة تنطوي على كثير من الحيل، حيث أكد لنا عدد ممن تحدثنا إليهم تعرضهم إلى الغش في إحدى المواسم الماضية، بعد أن زودهم أحد الموردين بشتلات من جنس ذكر، الذي لا يمكن حسبهم أن يعطي مردودا جيدا، و كلفهم الأمر خسائر كبيرة، كما أن هذه الشتلات تباع بأثمان بخسة في البلدان الأوروبية المصدرة لها.
أصحاب مشاتل فراولة بإيطاليا ينبهرون بمناخ ولاية جيجل
و التقينا أيضا ببني معزوز بصاحب مؤسسة تحويل بلاستيك مقرها ببلدية الخروب بقسنطينة، قال بأنه ينقل صناديقه البلاستيكية إلى غاية البلديات التي تعرف انتشارا لنشاط الفراولة من أجل بيع الصناديق التي يمكن للواحد منها حمل ما يقارب 6 كلغ من الفراولة، حيث أكد لنا بأنه يسوق ما يقارب 40 ألف في موسم الفراولة الواحد، مشيرا إلى أنه وجد سوقا جيدة مع مزارعي المنطقة، في السنوات الماضية، حيث كان تصل أعداد الصناديق التي يبيعها إلى 100 ألف، لكنها تراجعت في الموسم الجاري، بسبب تراجع إنتاج الفلاحين و تزايد عدد مؤسسات الرسكلة.
و أخبرنا أحد المزارعين أن المُصدّر الإيطالي الذي يتعامل معه في اقتناء الشتلات، انبهر خلال زيارته لمزرعته بجيجل، حيث أبدى إعجابا كبيرا بالمناخ، كما أوضح بأن نوعية الشتلات الطازجة التي تأتي إلى جيجل خلال شهر نوفمبر، هي التي تزود الأسواق الجزائرية بهذه الفاكهة خلال رأس السنة، حيث تنطلق عملية جنيها خلال شهر ديسمبر، الذي لا يمكن أن تجنى فيه الفراولة في أي مكان آخر بالعالم حسب تأكيد محدثنا، كما أن سعرها وصل إلى ألف دج في الجزائر خلال فترة نهاية السنة، فيما يمكن أن تصل إلى أسعار أكبر بكثير في الخارج.
رانية و كاميلا و نبيلة و صابرينة لتفريق الأصناف
و مما شد انتباهنا خلال تجوالنا بمزارع الفراولة، إطلاق الفلاحين لأسماء فتيات على الأنواع المختلفة للفراولة، كما يختلف كل صنف عن الآخر من حيث نوعية الشتلة الأصلية القادمة من بلدان المصدر، حيث أخبرنا فلاح أنه اقتنى في إحدى المرات شتلة فراولة بذوق فاكهة الخوخ، و السر في الأمر يكمن في تهجين النبات الأصلي و دمجه مع شجرة الخوخ.
لكن جمال الأسماء لم يحمها من تشاؤم بعض المزارعين و نظرتهم الأبوية للمرأة، حيث علّق أحدهم بالقول “منذ أن أطلقنا على الفراولة أسماء النساء تراجعت نسبة المحصول”، و لم يقدم لنا المزارعون رواية دقيقة عن مصدر التسميات، لكن بعض الروايات التي تكررت على مسامعنا من قبل عدد كبير من أصحاب مزارع الفراولة، تقول بأن مستوردي الشتلات يلجأون إلى تفريق كل صنف عن الآخر بإطلاق أسماء بناتهم الصغيرات عليها أو باختيار أسماء وهمية، تجنبا لاستعمال التسميات الأجنبية باللغتين الإيطالية و الإسبانية، حتى أن أحد الفلاحين أكد لنا بأنها تسميات رسمية و مسجلة لدى الموانئ و جميع نقاط التفتيش التي تمر بها، كما أنه يجدها على الصناديق القادمة من الخارج.
و من الأنواع التي لاحظناها كثيرا “صابروزا” و”صابرينة”، التي تفوق “كاماروزا” سعرا بـ 30 دج، و يتم تصديرها نحو دولة قطر، و نبيلة التي يكون إنتاجها أغزر من “كاميلا”، التي تنبت بمختلف أنواع التربة و تعتبر من أرخص الأنواع، و”الفانتانا” ذات قدرة الاحتمال العالية، حيث يمكن أن تصمد لثلاثة أيام، فيما قال لنا محدثونا بأن هناك دائما أنواعا جديدة تدخل السوق الجيجلي كل سنة و في كل مرة تحمل أسماء مختلفة و غريبة أحيانا.
نساء يستأجرن حافلات من قرى ميلة للجني ببلديات جيجل
و يعاني منتجو الفراولة من نقص اليد العاملة المتخصصة في جني الفراولة الذي يتطلّب طريقة لعدم الإضرار بالفاكهة، بسبب هشاشتها و إمكانية تعرضها للتلف في حال اقتلاعها بقوة، أو استعمال تقنية خاطئة، ما يدفع بأصحاب المزارع إلى الاعتماد على أطفال المدارس خلال فترات العطل المدرسية.
كما أن المرأة تشكل محور عملية الجني في مختلف المزارع، التي امتنع عدد من أصحابها عن الحديث إلينا أو السماح لنا بولوج مزارعهم بسبب تواجد نسوة بداخلها يقمن بالجني، حيث أخبرنا دليلنا على مستوى بلدية الجمعة بني حبيبي، بأن سكان القرى الجبلية التي تعرف انتشارا لنشاط زراعة الفراولة، يلجأون إلى جميع نساء أسرهم في عملية الجني صباحا، سواء كن من الشابات أو الكبيرات في السن، إلا أنه أكد لنا على حساسية الأمر بالنسبة لسكان المنطقة، أين لا يزال الجدل، حسبه، قائما حول جواز عمل المرأة في المزارع من عدمه، في حين لاحظنا أن النسوة غادرن لدى رؤيتهن لمصورنا يقوم بالتقاط صور للبيوت البلاستيكية داخل المزرعة، كما أن شابا يملك مزرعة جبلية علق على عمل النساء بالقول “لم ألجأ في حياتي إلى النسوة لجني المحاصيل و لن أفعل حتى إن لم أجد شابا واحدا بالقرية”.
و أكد لنا سكان من بلدية سيدي عبد العزيز بأن بعض النسوة يأتين إلى المزارع الواقعة بقرى البلدية من البلديات و القرى الواقعة بين ولايتي ميلة و جيجل، من أجل جني محصول الفراولة، مقابل أجر يتراوح بين 1200 و1500 دج لليوم الواحد، حتى أن بعضهن تلجأ إلى استئجار حافلات تقلهن في الصباح و تعيدهن مساء.
و أخبرنا صاحب مزرعة شاسعة ببني بلعيد بأنه كان يعتزم جني ما جاد به أحد البيوت البلاستيكية خلال يوم زيارتنا له، لكن غياب المراهقين و الأطفال الذين تعود على الاعتماد عليهم حال دون تحقيق ذلك، خصوصا و أنه مصاب بمرض في العظام يمنعه من الانحناء الذي تتطلبه العملية.
كما أن عملية الجني ليست بالسهلة بتاتا حسب تأكيد المزارعين، حيث تصيب الذين يقومون بها آلام شديدة نهاية اليوم على مستوى معصم اليد، لأنها تتطلب الإمساك بالثمرة و كسر طرفها الأخضر بحركة دائرية، حيث يتجنب اقتلاعها بحركة مستقيمة لإمكانية تعرضها للسحق أو تلف جزء منها.
الفراولة تعيد الحياة لمناطق هجّر الإرهاب سكانها ببني حبيبي و بني بلعيد
و على مستوى قرى بلدية الجمعة بني حبيبي، قادنا دليلنا كريم ابن المنطقة إلى مزارع واقعة في سفح الجبل المسمى “آرسة”، حيث أكد لنا بأن تلك الأراضي الشاسعة تستغل من أبناء العائلات القروية، التي هجرتها سنوات العشرية السوداء هربا من بطش الإرهاب و العنف المتصاعد بالمنطقة آنذاك، ما أدى إلى نمو مئات أشجار البلوط عليها، و دفع بهم إلى قطعها لاستغلالها مجددا في نشاط الفراولة الذي تحول إليه السكان بدرجة كبيرة، إضافة إلى زراعة أشجار الزيتون و الخضر الأخرى، كالطماطم و الفلفل، لكن بعضهم تعرضوا إلى مشاكل مع محافظة الغابات التي تابعتهم قضائيا بتهم الإضرار بالثروة الغابية، خصوصا الذين لا يملكون عقود ملكية لأراضيهم.
و أكد مرافقنا بأن بعض الفلاحين يتحدون الظروف من أجل جني الفراولة ببعض المناطق المنعزلة، على غرار مزرعة واقعة على الضفة الجبلية من وادي “إيرجانا” الذي يفصل بين بلديتي الجمعة بني حبيبي و العنصر، حيث يلجأ صاحبها إلى نقل صناديق الفراولة التي يجنيها على يديه لاضطراره إلى قطع الوادي باتجاه الضفة الأخرى لإيصالها إلى المركبات لشحنها، عابرا في ذلك فوق جسر خشبي تقليدي شيده السكان بأنفسهم، حيث أخبرنا دليلنا بأن المكان الذي يضم المزرعة كان في الماضي معقلا للجماعات الإرهابية، و لا يزال السكان إلى اليوم يعملون به نهارا و يغادرونه في المساء خشية حصول أمور غير متوقعة، بالرغم من استتباب الأمن بمنطقة بني حبيبي، التي ظلت محافظة على استقرارها نسبيا مقارنة ببلديات أخرى حتى خلال العشرية السوداء، حسب تأكيد سكانها، كما أن مرافقنا كريم أكد لنا عدم تسجيل أية حوادث أمنية في السنوات الأخيرة.
كما أن السكان ينظمون، حسب مصدرنا، مرة كل أسبوع تقريبا خرجات لصيد الخنازير، التي باتت تهدد مزارع الفراولة، حيث تقوم بحفرها دون أن تأكلها، ما دفعهم إلى تسييج مزارعهم بالأخشاب و الأسلاك الشائكة، و حتى مداخلها أحيطت بالأشواك على مستوى القرى الجبلية ببني حبيبي لمنعها من الدخول، على عكس مزارع واقعة في مناطق أخرى، لاحظنا أن أصحابها يحددون تخومها باستعمال الحجارة فقط.
كما أخبرنا صاحب مزرعة ببني بلعيد بأنه هجر أرضه سنة 1995، عندما انخرط مع عناصر الدفاع الذاتي و حمل السلاح في وجه الجماعات الإرهابية بالمنطقة، التي انتقمت منه بعد ذلك، بالإضافة إلى مجموعة من زملائه الفلاحين، بتخريب بيوتهم البلاستيكية و قطع أشجارهم و مزروعاتهم، ما كبده خسائر جمة، وصلت إلى 80 مليون سنتيم، كانت تكفي لشراء شقتين في تلك السنوات على حد تعبيره، إلا أنه عاد إلى ممارسة نشاط الزراعة، قبل أن ينتقل إلى الفراولة مع بداية سنوات الألفينات، وعودة الأمن إلى المنطقة.
عماد ينون، شاب أخرج الطريّ من يبس أرض حجرية
وجدناه مرتديا ملابس بالية، امتلأت بآثار الأوحال و أتربة مزرعته الواقعة بسفح جبل “آرسة”، أين استقبلنا بحفاوة كبيرة، حيث كبد نفسه عناء المجيء إلينا إلى غاية الطريق، الذي ظنناه في البداية قريبا من مزرعته التي خصصها لإنتاج الفراولة و بعض الخضر و الفواكه الأخرى، إلا أن التعب الذي نالنا جراء المشي إليها أثبت لنا عكس ذلك، حيث كان المسلك مليئا بالحجارة، و كانت الرطوبة مرتفعة
جدا لدرجة أننا شعرنا بضيق في التنفس، لكن التعب تلاشى بعد دقائق من المسير عندما وجدنا منظرا آخر، حيث دخلنا مزرعة استقبلتنا في مدخلها كلاب صغيرة كانت تنبح لدى رؤيتنا، و بمجرد ولوجنا إليها، لاحظنا كثرة الأنفاق البلاستيكية المخصصة للفراولة، حيث أخبرنا صاحبها عماد، البالغ من العمر 28 سنة، بـأن الأرض التي يستغلها تعود لعائلته الكبيرة، حيث يملك عقد ملكية مسجل باسم أحد أجداده يعود لسنة 1867.
كما أوضح لنا عماد بأنه قام قبل ثلاث سنوات، بعد أن ترك مهنة الخياطة، باستصلاح أرض جده التي امتلأت بأشجار البلوط نتيجة هجرتها، فضلا عن إعادته تهيئة تربتها و جعلها صالحة للزراعة، حيث كلفته أموالا باهظة حسب تأكيده، لكنه في النهاية حولها إلى جنة، لزراعة الفراولة التي أصبح يملك فيها 15 بيتا بلاستيكيا من نوع الأنفاق، تدر عليه مردودا لا بأس به، مشيرا إلى أن الفلاحة مهنة عائلته منذ الصغر، لكنها لم تكن ممارسة من قبل بشكل تجاري، و إنما كانت تقتصر على زراعة بعض الخضار للاستهلاك المنزلي المحدود، و اشتكى محدثنا من الفئران التي تسبب له في خسائر كبيرة، حيث يستعمل مجموعة من المضادات للقضاء عليها، لكن بشكل قليل حتى لا يضر ذلك بمزروعاته.
مبروك حديد، مروّض التربة الرملية لزراعة “فانتانا” سافرت نحو روسيا
انتقلنا إلى بني بلعيد في ساعات المساء، أين التقينا بسكان من المنطقة قادونا إلى مزرعة واقعة بمنطقة الخروبة تعود لصاحبها مبروك حديد، ممثل فلاحي الفراولة بالبلدية، حيث أحسسنا بدرجة رطوبة أقل مما سجلناه بجبال بني حبيبي، كما كانت نسائم رياح ناعمة تداعب نباتات الفراولة، التي أخبرنا بأنها اختيرت للتصدير نحو روسيا بسبب قدرتها على الاحتمال لمدة ثلاثة أيام، و هي مدة تفوق قدرة الأصناف الأخرى، كما أشار إلى أن الشتلة المذكورة لا تنمو إلا في التربة الرملية، ما جعل موقع مزرعته التي لا تبعد عن البحر بأكثر من 300 متر، عاملا مساعدا بامتياز لإنتاج هذا النوع فقط، كما قال بأن الفراولة تنمو بشكل أحسن في الجو البارد.
وأوضح مبروك بأنه يعمل موظفا بمركز الراحة المخصص للمجاهدين، الواقع بجوار مقر المجلس الشعبي البلدي لبلدية بني بلعيد، حيث ذكر بأن الوظيفة مجرد راحة بالنسبة إليه، فيما يكمن عمله الحقيقي في مزرعة عائلته، التي يستغلها رفقة إخوته، مؤكدا بأن مزارعي جيجل يملكون إرادة كبيرة في العمل على ترويج منتجاتهم و الرقي بها إلى أقصى حد ممكن.
محمد صيد، مزارع بدرجة ليسانس في الحقوق
كان يجلس فوق دراجته النارية بقدمين حافيتين ممتلئتين بالأوحال وبذلة زرقاء، عندما نادى علينا الشاب محمد البالغ من العمر 27 سنة، ودعانا إلى دخول مزرعته، حيث رفض في البداية التحدث إلينا، قبل أن يغير رأيه ويشرع في سرد قصته مع زراعة الفراولة، التي أكد لنا بأنها لا تدر عليه الكثير من المال، لكونه يستأجر الأرض التي يعمل بها رفقة شقيقه من أصحابها الأصليين، مشيرا إلى أنه من أبناء المنطقة وتحصل على ليسانس في الحقوق، لكن فكرة الفراولة جاءته بعد مشوار فاشل في البحث عن منصب شغل.
وبدأ محمد عمله في مزراع الفراولة كأجير لمدة 4 سنوات، تمكن خلالها من اكتساب الخبرة وجمع بعض المال، قبل أن ينتقل إلى تأسيس مزرعة خاصة به ببني معزوز رفقة شقيقه الأكبر منه، لكنه أكد لنا بأنه لم يتلق أي دعم مادي من الدولة، حيث يعود الفضل إلى جيرانه الذين قدموا له يد المساعدة، مشيرا إلى أنه يحمل بطاقة فلاح، إلا أنه لم يدرج ضمن المشاركين بمعرض الفراولة المنظم في 21 من شهر أفريل الماضي، وأضاف بأنه يطالب بالدعم لتوسيع نشاطه، وإلا فإنه لن يستطيع المواصلة في زراعة الفراولة.
المضاربة تعيق انتشار الفراولة و تجار سكيكدة يتزوّدون من جيجل
و توجهنا مساء إلى المدخل الرئيسي لبني معزوز، التي تحولت بفضل الانتشار الكبير لزراعة الفراولة إلى سوق للجملة يمون عددا كبيرا من الولايات، حيث أخبرنا الفلاحون بأن عملية البيع تبدأ بعد صلاة العصر، كما أن انتهاء عملية الجني يكون خلال اليوم، للحرص على عدم تعرض الفراولة للذوبان خلال الطريق، إذ لا تصمد أكثر من يوم واحد، و لا يمكن حفظها داخل المبردات.
و لاحظنا بالمكان تواجد عدد كبير يصل إلى حوالي الأربعين، من محلات بيع الجملة التي تنشط بشكل غير مرخص حسب ما أخبرنا به أصحابها، الذين أكدوا بأنها ملك للفلاحين أنفسهم، فيما يلجأ بعض المزارعين إلى عرض منتوجهم لدى محلات البيع بالجملة، التي يأخذ أصحابها نسبة فائدة مقدرة بـ10 دج عن الكيلوغرام الواحد، الذي يصل ثمنه في أسواق التجزئة إلى 250 دج أو أكثر، و حتى في أسواق مدينة جيجل.
والتقينا بمحلات بني معزوز ببائع جملة من ولاية باتنة، قال لنا أنه توقف عن العمل في الفراولة بسبب المضاربة، حيث يلجأ بعض الفلاحين حسبه إلى بيعها لهم بسعر 150 دج، ليقوموا بنقل كميات أخرى إلى أسواق الولايات الأخرى و بيعها بسعر أقل، ما يكسر الأسعار بالسوق و يؤدي إلى كساد سلعهم، فضلا عن الخسائر التي يتكبدها في حال تلف هذه الفاكهة خلال الطريق.
أما تجار سكيكدة فوجدنا أحدهم يقوم بشحن مجموعة من الصناديق، حيث أخبرنا بأن أصناف الفراولة في جيجل متعددة ومتوفرة بشكل أكبر من ولاية سكيكدة، التي تشكل هي الأخرى قطبا في هذه الزراعة، فضلا عن أنها كانت تحتل المرتبة الأولى في سنوات سابقة.
صاحب شركة التجارة الخارجية موسى بودودة يؤكد للنصر
"الفلاحون ظنوا بأني أمزح عندما أخبرتهم عن نيتي في تصدير الفراولة لروسيا"
أكد صاحب شركة التجارة الخارجية للخضر والفواكه، موسى بودودة، بأنه تلقى طلبات لتصدير كميات من الفراولة المزروعة بولاية جيجل من الولايات المتحدة و ماليزيا، فيما ذكر بأن الفلاحين ظنوه يمزح عندما أخبرهم عن نيته في تصدير الفراولة لروسيا.و أشار موسى بودودة، البالغ من العمر 29 سنة و أول من نقل فراولة ولاية جيجل إلى روسيا، بأنه يعمل حاليا مع دول الخليج، حيث صدر إليها حوالي 20 طنا من الفراولة خلال 3 أشهر، لكنه واجه مشكلة مع ذهنية الفلاحين، حسبه، حيث أكد على ضرورة غرس ثقافة التصدير لديهم و توعيتهم بوجوب تقبل احتمال الخسارة، مشيرا إلى أن غالبيتهم ظنوا في البداية بأنه يمزح عندما أخبرهم عن نيته في تصديرها نحو روسيا، بالرغم من أنه يقتنيها منهم بسعر يفوق ما هو معمول به مع بائعي الجملة، كما تتكفل مؤسسته بتعليبها و تجهيزها لإرسالها إلى بلدان أخرى.
و أوضح محدثنا بأن الفلاحين يمتنعون عن منحه الكميات التي يطلبها من الفراولة، لكنه لم يستسلم للأمر على حد تعبيره، و قرر رفع التحدي لإيصال المنتوجات الفلاحية لولاية جيجل إلى دول أخرى، معتبرا نفسه ناجحا في ذلك، كما أضاف بأنه يقوم بإرسالها في طائرات شحن البضائع، حيث لا يمكن حفظها داخل غرف التبريد، ما يدفعه إلى اقتنائها شبه ناضجة من الفلاحين، لتكتمل عملية نضوجها في طريقها نحو وجهتها الأخيرة، مشيرا إلى أنه قام بعشر عمليات تصدير إلى الآن، تكبد في إحداها خسائر مادية بسبب شركة طيران أجنبية، قامت بوضع علب الفراولة تحت سلع أخرى، ما أدى إلى إتلاف جزء منها، و دفعه إلى التفكير في التعامل مع الخطوط الجوية الجزائرية في الشحنة القادمة.
رئيس غرفة الفلاحة لولاية جيجل
ننتج 20 نوعا من الفراولة و جنينا 94 ألف قنطار هذا الموسم
اعتبر رئيس غرفة الفلاحة لجيجل، يوسف خن، بأن زراعة الفراولة، التي وضعت الولاية في المرتبة الأولى لمنتجي هذه الفاكهة في الجزائر، لا يجب أن تكون على حساب المنتجات الفلاحية الأخرى بالمنطقة، و أكد على ضرورة إنشاء مشتلة لزراعة الشتلات محليا و التوقف عن استيرادها من الخارج، كاشفا عن إنتاج الولاية أزيد من 94 ألف قنطار هذا الموسم.
و أوضح المسؤول في اتصال بنا، بأن إنشاء مشتلة محلية لزراعة شتلات الفراولة بات اليوم ضرورة ملحة جدا، من أجل تخليص الفلاحين من عملية تخزينها داخل المبردات و التقليل من تكاليف نقلها، خصوصا أن مناخ الولاية مساعد جدا على إنتاجها حسبه، مع توفير بعض الظروف الاصطناعية فقط، و نظرا لارتفاع عدد المساحات المزروعة بفاكهة الفراولة على مستوى ولاية جيجل، حيث قفزت من 4 هكتارات في سنة 2003، إلى أكثر من 300 هكتار اليوم، و يتعلق الأمر، حسبه، بالمساحات المزروعة داخل البيوت البلاستيكية المسماة بالأنفاق، دون احتساب العادية، التي يخصصها الفلاحون لزراعة أنواع أخرى من الخضر والفواكه.
و أضاف محدثنا بأن البيوت البلاستيكية متعددة القبب تتطلب رخصة خاصة من لجنة الفلاحة للولاية، حيث تم وضع 10 طلبات بذلك، قُبل منها ملفان، و تم تحويلها إلى البنك من أجل الموافقة على منح أصحابها القروض، فيما لا تزال 8 طلبات أخرى قيد الدراسة، أين أوضح رئيس الغرفة بأنها قادرة على رفع الإنتاج بحوالي 5 أضعاف و تعميمه طيلة السنة، كما يمكنها أن تحتضن أنواعا مختلفة من الخضر والفواكه، كما قال أن فلاحي جيجل يتمتعون بخبرة طويلة في مجال الزراعات المحمية.
و وصل إنتاج الفراولة بولاية جيجل خلال موسم السنة الجارية، إلى 94 ألف و 500 قنطار، حسب ما أكده المسؤول، الذي أفاد لنا بأن ولايته متفوقة على سكيكدة بسبب قدرتها على إنتاج ما يقارب 20 نوعا من الفراولة، حيث نفى أن يكون تراجع الإنتاج خلال هذا الموسم كبيرا، و حمل مسؤولية تأخر دخول الشتلات من الخارج إلى المستوردين، كما قال أن الفلاحين الذين جهّزوا أراضيهم لم يضيعوا الوقت و قاموا بزراعة أنواع أخرى من الخضر في انتظار بذور الفراولة، كما أعرب عن أمنيته في أن يقوم مستثمرون بإنشاء وحدات لصناعة معجون الفراولة بالولاية، حيث يقتصر إنتاجه حاليا على ما تقوم به ربات البيوت بطريقة تقليدية.
و دعا محدثنا الفلاحين إلى التقرب من الجهات المعنية بالفلاحة من أجل الحصول على بطاقة الفلاح، حيث أكد أن المساحات المزروعة بالفراولة وصلت إلى 323 هكتارا السنة الماضية، بينما لم تتجاوز 315 هكتارا في السنة الجارية، بناء على عدد حاملي بطاقات الفلاحين، الذين بلغ عددهم 15 ألفا، من ضمنهم 454 من الفلاحات، كما أضاف أن عدد المزارعين المختصين في إنتاج الفراولة لوحدها قليل جدا بجيجل، التي اعتبرها قطبا فلاحيا وطنيا، مشددا على ضرورة تحقيق التوازن بين مختلف أنواع المزروعات التي تتميز بها المنطقة عن غيرها.
أما عن مشكلة الأراضي، فقد أوضح يوسف خن، بأن مديرية مسح الأراضي شرعت خلال التسعينيات في عملية إحصاء للأراضي المنتشرة بالمنطقة و تسجيلها، إلا أن تدهور الوضعية الأمنية خلال العشرية السوداء أدى إلى توقف الإجراء، الذي لم يستأنف إلا بعد عودة الاستقرار في السنوات الأخيرة، كما أشار إلى أن مصالح الولاية تقوم بمرافقة المواطنين و تدعوهم إلى العودة نحو أراضيهم من خلال برامج مختلفة على غرار منحهم السكنات الريفية.
و ذكر المسؤول أن كثيرا من الأراضي التي تحتضن نشاطات زراعة الفراولة عروشية، لكن الولاية لا تزال، حسبه، تفتقر إلى سوق للجملة يسمح للفلاحين بتسويق منتوجهم بشكل منظم و أكثر فعالية، و يقتصر الأمر على سوق مؤقتة وغير مقننة، فضلا عن سوق بني معزوز التابع لبلدية الجمعة بني حبيبي، التي تعتبر مركزا لزراعة هذه الفاكهة، بالإضافة إلى بلديات بني بلعيد و القنار و سيدي عبد العزيز، دون إغفال 7 بلديات أخرى يمارس قاطنوها نشاط زراعة الفراولة من أصل 28 بلدية بالولاية، كما نبه يوسف خن إلى أن غرفة الفلاحة طلبت من كل بلدية معنية بنشاط الفراولة تخصيص سوق للجملة على مستواها.