بنوك و مدارس خاصة بدل الفيلات بسيدي مبروك السفلي بقسنطينة
يعرف النسيج العمراني لحي سيدي مبروك السفلي، الذي يعود تاريخه إلى الحقبة الاستعمارية، تشوها بسبب سيطرة ثقافة جديدة في استغلال المساحات السكنية لأغراض تجارية واستثمارية، ما قضى على الصورة الجمالية للتجمعات السكانية به، وجعل البنايات الضخمة تنمو كالفطريات على حساب الفيلات القديمة، حيث تحول الكثير منها إلى بنوك أو مدارس خاصة أو أماكن لبيع السيارات الفخمة، وسط استياء الآباء من المسح التدريجي لذاكرة الحي ومسارعة أبنائهم إلى بيع المنازل الموروثة مقابل مبالغ مالية كبيرة.
روبورتاج: سامي حباطي
ويضم حي سيدي مبروك السفلي العديد من الأنهج، فهو مترامي الأطراف ويقع بين أحياء سيدي مبروك العلوي والدقسي والطريق الغابي والمنصورة ومحطة السكك الحديدية، ورغم تشوه الكثير من بناياته بسبب التدهور وانعدام الصيانة وقيام الكثيرين بشراء الفيلات القديمة وتهديمها لإنجاز بنايات كبيرة عوضا عنها، إلا أن الشكل الأصلي لا يزال غالبا على كثير من أرجائه، وقد أخبرنا كهل يقطن بسيدي مبروك منذ صغره، بأن أولى الفيلات أنجزت في زمن الاستعمار الفرنسي بالقرب من خط السكك الحديدية الذي يسمى اليوم بوحدة الجر لسيدي مبروك، مشيرا إلى أن تاريخه يعود إلى ما قبل ثلاثينات القرن الماضي، وكان يعتبر حسبه من الأحياء الراقية بالمدينة، كما تواصل البناء بعد ذلك في الانتشار إلى أن بلغ المكان المسمى اليوم بحي المستراح الجميل القريب من متقن علي بوسحابة، الذي كان في زمن الاستعمار والسنوات الأولى لفترة ما بعد الاستقلال عبارة عن مزرعة.
وأضاف محدثنا بأن العمارات الموجودة بالحي اليوم تعود إلى فترة الاستعمار، ومنها ما يقع بالقرب من وحدة تابعة لمصالح الأمن ويعود بناؤها إلى نفس الفترة، فضلا عن عمارات تعرف اليوم بحي «آشالام»، أو السكنات ذات الكراء المعتدل، التي أنجزت لفائدة العائلات ذات الدخل الضعيف في زمن الاستعمار، في حين توجد مقابلها بالحي المسمى اليوم بعلي بسباس والشوارع الواقعة بمحاذاته، بنايات أنجزت في أواخر الفترة الاستعمارية، لكن من طرف جزائريين، ويلاحظ عليها بوضوح اختلافات في نمط البناء، حيث شيد بعضها على شكل بنايات ذات طابقين أو ثلاثة، وتضم سطوحا علوية وسلالم، جعلها تشبه العمارات، كما تقطنها اليوم عدة عائلات مختلفة، ويقوم بعض مالكي هذه المنازل بتأجير غرف بها وشقق لفائدة عائلات أخرى، على غرار إحدى البنايات التي تضم مستأجرين لغرف منذ زمن الاستعمار إلى اليوم، في حين أنجز آخرون سقوف منازلهم بالقرميد، واكتفوا ببناء طابق أو اثنين مع ترك مساحة للحديقة المنزلية والباحة الأمامية الفاصلة عن الباب الداخلي للبيت.
سكان يخشون سقوط الجدران في حال تعديل المخطط الداخلي
وأشار أحد القاطنين بهذه المنازل، التي أنجزها جزائريون في الزمن الاستعماري، إلى أن عائلته أدرجت الكثير من التعديلات على الشكل الداخلي للبيت، موضحا أنها فيلات بالفعل لكنها ضيقة لكونها تضم العديد من الأسر بداخلها، بسبب توسع العائلات وملكية الكثير منها من طرف ورثة أجدادهم الذين توفوا، فيما قال آخر بأن أسرته تضم 9 أفراد، لكن غرف البيت القديم الذي يقطنون به لا تكفيهم، لكونه مقسما على ثلاث غرف واسعة، بينما يمكن لمنزله أن يضم عددا أكبر من الغرف، حسبه، لو أحسن بناؤوه الأوائل التخطيط، كما أوضح بأن والديه خشيا من سقوط الجدران المنجزة بالآجر، في حال تهديم بعضها لبناء غرف جديدة، وأضاف أن تشققات كثيرة ظهرت على السقف الفاصل عن القرميد، والمنجز بالقصب والجبس المستند إلى ألواح خشبية قديمة، لا تزال محافظة على قوتها رغم قدمها على حد قوله، لكنه استحسن في منزله علو السقف، ما يمنحهم في فصل الصيف مزيدا من الهواء، والرواق الطويل داخل البيت والحديقة الخلفية الكبيرة، ووجود قبو يضعون فيه الأشياء التي لا يحتاجونها.
أما المنازل القريبة من حي المنصورة، فتعرف تدهورا وظهور تشققات على الكثير منها، خصوصا وأن الكثير من التعديلات أدرجت عليها، على غرار نهجي الإخوة زيغد وقويسم عبد الحق، أين يمكن ملاحظة الاسمنت والآجر على بعض الجدران، خصوصا وأن الكثير من العائلات تقطن بداخلها، كما أدرجت على بعضها تعديلات دون الالتزام بمعايير الهندسة، في حين أكد لنا بعض قاطنيها أنهم مسجلون ضمن قوائم المطالبين بالاستفادة من السكن الاجتماعي، وقد مس التدهور حتى البنايات القديمة المنجزة بالحجارة في شوارع أخرى، وخصوصا من ناحية الأسقف والجدران، بسبب عدم قيام أصحابها بالصيانة وقدمها، كما أخبرنا أحد الشيوخ القاطنين بالحي أن زلزالا عنيفا ضرب في أربعينيات القرن الماضي المدينة، وتسبب في ظهور تشققات على الكثير منها، أين أثار الأمر استغراب السكان آنذاك.
أسعار المنازل وصلت إلى خمسة ملايير سنتيم
ويتحسر ساكنو الحي القدماء على الصورة العتيقة لتجمعاتهم السكنية التي لا تزال تربطهم بها ذكريات كثيرة لم تعد تتضح ملامحها إلا في أذهانهم، حيث تقربنا من شيخ وسألناه عن الحي، فأخبرنا بأن أحد الفيلات بيعت منذ أسبوعين وقام مالكها الجديد بتهديمها مباشرة، مشيرا إلى أنه «سيقوم حتما ببناء مركز تجاري أو محلات لبيع مختلف المواد أو مستودعات»، رغم أن بعض النشاطات الأساسية تعرف نقصا بحيه على غرار المخابز، كما اعتبر أن سيدي مبروك السفلي فقد رونقه وجماليته وصار عبارة عن نسخة هجينة، بعد أن أتى التدهور على ما نجا من عمليات التغيير، في حين تحولت البنايات الأخرى إلى «مكعبات» على حد تعبيره، وقد أكد لنا أن السبب الرئيسي للتحول يعود إلى أن أغلبية مالكي البنايات من الورثة، بعد أن توفي آباؤهم الذين امتلكوها بشكل فردي، ما جعل البيع حاليا الحل الوحيد بالنسبة إليهم، وفتح شهية أصحاب المال لشرائها واستغلالها في نشاطات تجارية، فأسعار بعض المنازل تفوق أحيانا 5 ملايير سنتيم أحيانا، على حد تأكيده، ليضيف قائلا “ما فائدة امتلاك فيلا تضم عددا من المحلات أسفلها دون وجود حديقة أو فضاء يجلس فيه صاحبها مع أبنائه أو أحفاده”.
ولاحظنا في جولتنا، أن النشاطات الجديدة التي ظهرت بسيدي مبروك السفلي، تختلف عن التي غزت نظيره العلوي الذي أصبح قطبا للبازارات والتجارة، وقد فسر بعض السكان اختلاف نمط التجارة في السفلي بكون حركية المواطنين على مستواه أقل، فعلى مستوى الجهة القريبة من العمارات المسماة بـ»السي أن أس”، يسجل ظهور ثلاثة بنوك بالقرب من بعضها، فتحت بمكان منازل قديمة باعها أصحابها لفائدة مستثمرين حولوها إلى بنايات كبيرة، ويشمل الأمر أيضا مدرستين خاصتين، ومدارس لتعليم اللغات وشركة للأدوية، في حين لا يزال إنجاز بعض البنايات الكبيرة الأخرى جاريا، محل منازل استعمارية قديمة، بالإضافة إلى أن بعض النقاط بسيدي مبروك السفلي صارت أقطابا لنشاط الدروس الخصوصية لفائدة تلاميذ المدارس الثانوية.
وظهرت بالحي في السنوات الأخيرة منازل بتصاميم جديدة حافظ أصحابها على النمط السكني، لكنهم أعادوا بناءها على أنقاض بيوت قديمة، كانت ملكهم أو اشتروها من أصحابها الأصليين، وقد فتحت بالكثير منها محلات أسفلها لتأجيرها أو لاستغلالها في التجارة، وأحيانا جعلت مقرات لمكاتب هندسة أو غيرها، لكن تجار آخرين استغلوا بناياتهم لممارسة تجارة السيارات الفخمة، حتى صارت الشوارع التي يتواجدون فيها معروفة بألقابهم أو الكنية التي تطلق عليهم، خصوصا من غير القاطنين بالحي، وهم غالبا ما يركنونها على الرصيف أو بداخل قاعات عرض قاموا بإنشائها، في حين لا يزال سكان الحي يحافظون على التسميات القديمة للشوارع، التي تعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي أو ألقاب أصحاب مقاهي وعائلات معروفة، على غرار مقهى “عثماني”، الذي صار أيقونة للحي رغم أنه أغلق أبوابه منذ عدة سنوات، وهو يقع بالقرب من المحكمة الإدارية وموقف لسيارات الأجرة.
سينما "فيرساي".. تحت رحمة الإهمال والتدهور
وبالجهة السفلى من الحي، تقع سينما «فيرساي»، التي أغلقت أبوابها منذ نهاية الثمانينيات ولا يزال المكان يحمل اسمها، حيث لا تزال اليوم بنايتها واقفة تروي تاريخها الكبير وقصص الآلاف من الشباب والجزائريين والأوروبيين الذين زاروها لمشاهدة الأفلام، رغم ما مسها اليوم من التدهور، بحيث تحطم الكثير من زجاج واجهتها وانتشرت الأوساخ بمدخلها، وقد روى لنا أحد السكان القدماء بأن المساحة الواقعة بمحاذاتها، كانت في الماضي عبارة عن حظيرة سيارات خاصة بها، حيث يستغلها السكان في ركن سياراتهم، ليضيف بأن عائلات اتخذت من جهتها الخلفية مساكن، حيث لا يزالون يقطنون بها إلى اليوم، لكنهم بعيدون عن الجهة التي تضم السينما، ليؤكد أنها كانت في الماضي تستقطب مشاهدين من مختلف الفئات وخصوصا من سكان الحي، كما دعا السلطات إلى الاهتمام بها وإعادة فتحها لامتصاص العنف الذي صار يطبع تصرفات الكثير من الشباب.
وأضاف محدثنا بأن الكثير من الفنانين المحليين في طابع المالوف والشعبي وحتى الغناء العصري، من أبناء حي سيدي مبروك السفلي، حيث كان يشهد في الماضي الكثير من الفرق التي كانت تختار منزل أحد أعضاء الفرقة للتمرن، كما أوضح أن احدى الساحات القريبة من الحي كانت تستغل في الماضي لممارسة رياضة الكرات، بالإضافة إلى الحديقة المسماة بـ»السكوار» التي حولت اليوم إلى فضاء لعب للأطفال، ولا تزال الوحيدة حسبه التي صمدت أمام التغير العمراني الذي يمسح تدريجيا ذاكرة المكان.