هنا ينتظر المتقاعدون الموت و يمنع على النساء الجلوس
يشتكي القسنطينيون منذ سنوات من انعدام أماكن عمومية للراحة و الهدوء، يمكن للمرء أن يلجأ إليها هربا من ضغوط الحياة اليومية، فبالرغم من أن قسنطينة تتوفر على 16 حديقة و ساحة عمومية، إلا أن المواطن لا يستطيع الجلوس فيها لأكثر من خمس دقائق، أما النساء فهن محرومات من ارتيادها، و إن فعلن، فنظرة المجتمع إليهن ستكون قاسية، ذلك لأن هذه الفضاءات هي حكرا على المتقاعدين و البطالين و الباحثين عن المتعة المسروقة صباحا، أما مساء فدخولها مخاطرة ، كونها تتحول إلى مرتع للمجرمين و مروجي المهلوسات و الشواذ.
روبورتاج : نور الهدى طابي
حدائق عزلتها سلوكيات سلبية و شوهها الإهمال
واقع الفضاءات الخضراء بقسنطينة، و رغم تحسنه نوعا ما في السنتين الأخيرتين، إلا أنه لا يزال بعيدا عن المستوى المطلوب، فالحدائق العمومية في دول كفرنسا، إنجلترا و لبنان و دول عربية أخرى ، تعتبر جزء من إستراتيجيات و سياسات التهيئة العمرانية، و أماكن للتخلص من الضغط و ممارسة الرياضة أو الاستجمام، أما في الجزائر عموما و قسنطينة على وجه الخصوص، فهذه المساحات ظلت لسنوات محرمة على المواطنين العاديين، و حكرا على المنحرفين. و كان المتقاعدون هم الأوائل الذين غامروا بدخولها بعد نزع السياج الذي كان محيطا بها لعقود ، أما غالبية السكان فيتجنبون حتى المرور بمحاذاتها، تجنبا للشبهات و خوفا من الاعتداءات.
تبلغ المساحة الإجمالية للمساحات الخضراء ، بمختلف أنماطها في بلدية قسنطينة 68.29 هكتارا، حيث يقدر مؤشر استخدامها 1.1 متر مربع للفرد الواحد، حسب ما جاء في دراسة خاصة بمذكرة ماجستير أعدها طلبة بقسم علم الاجتماع بجامعة قسنطينة، و أشارت إلى أن المساحات الخضراء التي تستغل فعلا ، تعادل 10.9 هكتار فقط، و مؤشر استخدامها 0.2 متر مربع للفرد، علما بأن عددها 16 حديقة عانت لسنوات كثيرة، بداية من منتصف الثمانينات، و إلى غاية 2013، من الإهمال و التدهور، ما أثر سلبا على مردوديتها.
الدراسة أرجعت السبب، إلى أن ثقافة المساحات الخضراء بدأت في التراجع نسبيا، مع زيادة مشكل السكن بسبب النزوح الريفي، إذ أصبح ينظر إليها كأراض مهملة، منها ما التهمها القصدير بمرور السنوات، أما السبب الثاني فهو التحولات الاجتماعية التي نجمت عن الأزمة الأمنية نهاية الثمانينات و بداية التسعينات، إذ تم تسييج هذه الفضاءات المفتوحة لحمايتها، لكن الإجراء خلف نوعا من العزلة، جعلتها أماكن مشبوهة يحتكرها المنحرفون و الشواذ و المدمنون على الكحول و المخدرات، لتصبح بذلك فضاءات خطيرة و منبوذة اجتماعيا، و ينطبق هذا الوضع على حدائق وسط المدينة و كذا احياء الضاحية.
برامج تهيئة أعادت الرجال إلى الحدائق و لم تفتح الباب للنساء
عزلة الحدائق العمومية بقسنطينة بدأت تنفك تدريجيا بداية من سنة 2012، إذ تمت برمجة أولى عمليات إعادة الاعتبار لمساحات الراحة و الاسترخاء، في إطار برنامج وطني لتدعيم و معالجة المحيط الحضري، وقد شملت المرحلة الأولى من البرنامج ،عشر حدائق من بينها «مربع بيروت» بسيدي مبروك و «بو رصاص» بباب القنطرة و «جنة» قرب المركز الاستشفائي الجامعي ابن باديس، بالإضافة إلى المساحة المجاورة لنصب الأموات و حي الأمير عبد القادر.
هذا البرنامج سمح تدريجيا للمواطنين بالعودة لاستغلال هذه المساحات، لكن بشكل محتشم، كما عبر مواطنون قابلناهم خلال استطلاع ميداني، حيث أكدوا بأن حدائق الأحياء لم تنتعش، كما هو الحال بالنسبة لحدائق وسط لمدينة و ساحاتها العمومية، و السبب هو أنها لا تزال تفتقر، حسبهم، إلى عنصر الأمن، كما أنها تعد مرتع للمنحرفين و العشاق تنتشر فيها سلوكيات غير أخلاقية ولا يمكن قبولها، لذا فإن الإقبال يكون أكثر على «جنان المركانتية» أو حديقة بن ناصر، بالإضافة إلى ساحة الثورة أو لابريش، رغم أن هذا الإقبال محدد بتوقيت زمني معين، إذ تصبح هذه الأماكن العمومية خطيرة بعد صلاة المغرب مباشرة، ولا يرتادها، حسبهم، سوى المنحرفين.
في سنة 2015 استفادت هذه الحدائق و المساحات العمومية من برنامج تهيئة ثاني في إطار تحضيرات تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، إذ خصصت البلدية غلافا ماليا بقيمة 6 ملايير سنتيم للعملية و جندت لذات الغرض 13 مؤسسة مصغرة ناشطة في مجال تهيئة المحيط، وقد ساهمت العملية في تحسين الوجه العام لهذه الفضاءات و زيادة الإقبال عليها، لكن دون المستوى المطلوب.
سيدات كثيرات قابلتهم النصر في وسط المدينة، معظمهن حولن الحجارة المتواجدة عند مدخل شارع19 جوان إلى مكان للتجمع، و أكدن بأنهن محرومات من ارتياد الحدائق و المساحات العمومية بسبب سطوة الرجال عليها، فضلا عن تعرضهن للتحرش و المضايقات بمجرد ولوجها.
وهيبة قالت بأنه سبق لها و أن تعرضت للتحرش من قبل منحرف أراد الجلوس إلى جانبها عنوة بحديقة بن ناصر، و عندما رفضت هددها بسكين و انهال عليها بوابل من الشتائم، ما اضطرها إلى مغادرة المكان فورا وعدم تكرار تجربة الجلوس فيه.
أما نورة ، فقالت بأنها حاولت في إحدى المرات الجلوس مع صديقاتها في ساحة الثورة، لكن نظرات الاستغراب و الاستهجان لاحقتهن من قبل رجال و شبان، منهم من لم يتوان في التجريح و التعليق على سلوكهن، كان ذلك، كما أكدت ، قبل أن تخصص الأكشاك الصغيرة على مستوى الساحة لبيع الآيس كريم صيفا، لأن هذا الإجراء أحدث، حسبها، تحولا جزئيا وسمح للنساء بالجلوس في ركن عائلي، و تكلف نصف ساعة من الجلوس على أحد كراسيه 500دج على الأقل، لتختم حديثها بإجراء مقارنة بسيطة مع واقع النساء في سطيف و عنابة و العاصمة، واصفة إياه بالأفضل.
أما نسرين و إيناس فأكدتا بأنهما لا تجلسان بحديقة بن ناصر، إلا لانتظار شخص بناء على موعد مسبق، و مع ذلك فإنهما تتعرضان للمضايقات و التحرشات من قبل مراهقين و حتى كهول و شيوخ.
في حين أكدت سمية، ربة بيت، بأنها لا تجد أي حرج في ارتياد حديقة بن ناصر، لكن في الصباح أو قبل العصر، و ذلك بعد أن تتسوق بوسط المدينة، حيث تأخذ قسطا من الراحة على مقعد في مدخل الحديقة، قبل أن تواصل طريقها إلى شارع بلوزداد، حيث توقف سيارة أجرة لتنقلها إلى منزلها. و أضافت بأنها لاحظت بأن بعض الأشخاص من الجنسين، خاصة المسنين، يرتادون الحديقة في نفس التوقيت تقريبا، من أجل إطعام القطط التي تعيش بمحيط الحديقة و كذا الحمام و تستمتع معهم بمنظرها و هي تحوم حولهم، مؤكدة بأنها لم تتعرض إلى مضايقات و إزعاجات كبيرة بتلك الحديقة، حتى عندما ترافقها أحيانا ابنتها الشابة ، لأنها لا تجلس لوقت طويل بها و لا تقصدها في وقت متأخر من المساء.
في حين أخبرنا متقاعدون اعتادوا الجلوس يوميا في الحديقة، بأن من يرتدنها من النساء، يكون معهن عادة رجل، أما الأخريات فلا يجلسن طويلا إذ يتعرضن للمضايقات أو يغادرن بسبب الكلام الفاحش الذي يتلفظ به البعض دون خجل.
أما في الفترة المسائية بداية من الخامسة و النصف تحديدا، فالمكان يصبح محرما حتى على الرجال، حتى أن سكان عمارات المجاورة للحديقة يتجنبون الخروج إلى الشرفات بعد آذان المغرب، بسبب الممارسات غير الأخلاقية التي يقوم بها بعض المنحرفين.
هنا يحلم البطالون بالعمل
أعمارهم بين 50 و 70 سنة، إنهم متقاعدون قابلناهم على مستوى ساحة الثورة و حديقة لابريش، قالوا لنا بأنهم أصبحوا جزءا من هذه الأماكن التي لا تزال تفتقر إلى غاية اليوم للكثير، لكي ترتقي إلى المستوى الذي كانت عليه خلال السبعينات، كما علق الحاج سعيد، مشيرا إلى أنه و في منتصف السبعينات كانت الحديقة مسيجة و يوجد في وسطها جرس كبير يرن ليحدد ساعات الدخول إليها و الخروج منها، إذ كانت تفتح من السابعة صباحا إلى منتصف النهار و من الرابعة بعد الزوال إلى السابعة مساء.
وقد كانت مزودة بأعوان حراسة و كشك صغير كان صاحبه يؤجر الكراسي للمواطنين مقابل مبالغ رمزية، أما اليوم، حسبه، فالجلوس فيها يجبرك على مشاهدة سلوكات مشينة و تحمل تصرفات لا أخلاقية، لكن غياب بدائل لاحتواء المتقاعدين، تجعل هذه الأماكن متنفسا وحيدا لهم، يلتقونه فيه يوميا، منهم من يلعب الورق أو « الخربقة «، منهم من يقرأ الجرائد و منهم من يقضي نهاره في مراقبة المارة و تجاذب أطراف الحديث.
وحسب عمي الطاهر، فإن هذه المساحات تستقطب المتقاعدين لأنها مجانية، لذلك فمنهم من يصقدها يوميا قادما من الحامة و علي منجلي و سيدي مبروك ليقابل أصدقاءه و لا يضطر لدفع الكثير لضيافتهم.
بهذا الخصوص يقول عمي الطاهر: « نجلس لنستذكر شبابنا نحس في الكثير من الأحيان بالمرارة، فإن لم ننتظر منحة التقاعد، سننتظر الموت بهدوء، نفضل هذه الساحات بسبب الحركية الدائمة فيها و تكسير روتين حياتنا و شعورنا الدائم بالملل و عدم الفائدة».
في الحديقة قابلنا أيضا شباب في العشرين و الثلاثين من العمر، أخبرونا بأنهم يأتون إلى الحديقة يوميا، هربا من البطالة، منهم من يستريح بعد بحث حثيث عن عمل، و منهم من يتأمل و يفكر في وضعه و يقرأ معالم مستقبله، وحسب حسان فإن « الجلوس في لابريش أو الجنان، رفقة الرجال أكرم بكثير من الجلوس في المنزل رفقة النساء، إلى أن تفرج»، كما علق.