يعكف عدة باحثين، سواء على مستوى مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية «كراسك» وهران، أو عبر مخابر جامعية، على دراسة المنطوق والمكتوب حول الأزمة الوبائية «كوفيد 19»، التي تضرب العالم، من أجل إعادة النظر في عدة أمور تخص المجتمع و التراث و الذاكرة و الثقافة، وحتى التحولات السياسية و الاقتصادية، ويبدو أن المادة الخام متوفرة عبر مختلف الوسائط التي تسمح بتلقي المعلومات من مختلف أصقاع المعمورة، عكس الأوبئة القديمة التي لم يصلنا عنها إلا القليل.
شبكات التواصل الإجتماعي لحفظ الذاكرة في زمن كورونا
قالت الباحثة بكراسك وهران لامية فار الذهب أثناء مداخلتها في الملتقى الافتراضي حول الجائحة و المجتمع، أنه بداية جائحة كورونا بالجزائر، خلال الحجر الصحي، نظم عدة شعراء قصائد من الشعر الشعبي لوصف الوباء وتأثيره على الحياة العامة، وكانت الوسائط الافتراضية مثل فايسبوك ويوتيوب، فضاءات حرة للتواصل والتفاعل مع الجمهور.
و استدلت الباحثة بقصيدة من الشعر الشعبي نظمها الأستاذ محمد لوسرة من معسكر، تضمنت مختلف مظاهر الوباء و تعامل الناس معه، فبدأ القصيدة، وفق المتحدثة، بأبيات عن ظهور الوباء و انتشاره و اكتساحه العالم، ثم انتقل إلى وصف أعراض الإصابة بالفيروس، مثل العطس والسعال والحمى وغيرها، وطرق الوقاية والعلاج وكذا التسابق العالمي لاكتشاف الدواء المناسب، ذاكرا في ذات الصدد الوصفات التقليدية التي تداولها أفراد المجتمع خلال الجائحة، ومنها الثوم و قشور الرمان و الزعتر والليمون، وكذا القرفة والريحان و شراب النعناع بالعسل الطبيعي الحر.
وتناولت القصيدة أيضا غلق المساجد و ظروف صوم رمضان وغلق المحلات التجارية وتدهور الوضع المعيشي بالنسبة لعدة فئات في المجتمع، وأيضا الجنائز دون مراسيم العزاء، و خصص الشاعر عدة أبيات من قصيدته للجيش الأبيض الذي يضم كل مستخدمي الصحة العمومية، و لم ينس عمال النظافة وكل ما ارتبط بالجائحة من توقف التعليم و التباعد الإجتماعي والحجر الصحي و مخلفاتها النفسية، وهي القصيدة التي تعكف الباحثة على التعمق في دراستها.
أسماء أوبئة تتحول لـ «دعوة الشر»
تعد الباحثة لامية فار الذهب، عينة من مجموعة الباحثين المهتمين بهذا الجانب من الجائحة، في الوقت الذي لا يزال التراث الشعبي الجزائري الشفوي يتداول بعض الأوصاف لأوبئة قديمة تطلق على أشخاص أو مواقف للدلالة على سلبيتها، أو عند الدعاء لشخص «دعوة الشر» بغرض الانتقام.
تلك الأوبئة لها تاريخها وفتكت بآلاف الناس في مناطق مختلفة من العالم، منها شمال إفريقيا، و يبدو، حسب ما وصلنا من مدونات، أن أغلبها تم نقلها من أوروبا وجنوب غرب آسيا. وكان القسط الأكبر من المعلومات الخاصة بتلك الأوبئة، متداولا شفويا فقط ، والنصوص المكتوبة قليلة، ولا تشرح بدقة الأوضاع، خاصة في القرون الوسطى، أين شهدت منطقة شمال إفريقيا هجمات غربية و توافدا كبيرا للأوروبيين على الجزائر وباقي البلدان المغاربية.
ويبدو أن الوافدين نقلوا معهم الأوبئة والأمراض المعدية، والتي أطلق عليها سكان شمال إفريقيا عدة تسميات، حسب درجة خطورتها و تعاملهم معها، حسب بعض العارفين، فمثلا «الحبوبة الكحلة» يطلق إلى غاية اليوم في الغرب الجزائري على الأشخاص السلبيين و الأغبياء والمتعصبين، في حين يدل في الواقع على بعض الأوبئة التي كانت أعراضها عبارة عن طفح جلدي أو حبوب تتحول إلى نقاط سوداء وتبقى آثارها سوداء على الجلد، إذا تعافى المصابون بها، لأن الأغلبية كانوا يموتون.
و لا تزال النسوة لحد اليوم تطلقن أدعية سلبية على أبنائهن المتمردين، إذا كن في حالة غضب أو انفعال شديد، مثل «الله يعطيك التيفيس» ، ووفق ما استقيناه من بعض العجائز، فإنه في عام تفشي هذا الوباء ، يقال أنه كان سنة 1921، كان يمنع على الأطفال خاصة، الخروج من المنزل « ما يشبه الحجر الصحي حاليا»، وكل طفل يتسلل في غفلة عن والديه للخارج يصاب بأعراض المرض و يموت.
الحكاية الشعبية وكتابات القناصلة أبرز مدونات الأوبئة القديمة
حول نفس الموضوع، قال الأستاذ الباحث حمدادو بن عمر المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة وهران خلال مداخلته في فعاليات الملتقى الافتراضي «المجتمع والجائحة»، أن الأوبئة قديما عرفت في شمال إفريقيا بمسميات مختلفة حسب اختلاف حدتها وشدتها، مثل «بوقليب»، «بوزرويطة» «الحبوبة الكبيرة» وغيرها، و خلدت الثقافة الشعبية المغاربية هذه الأوبئة والأزمات في الذاكرة الشعبية فتجسدت من خلال الأغاني والأمثال والحكايات الشعبية، وأغلبها شفوية منطوقة و ليست مدونة، مبرزا أن هذه الأمراض والأوبئة ارتبطت ارتباطا وثيقا بالقحط و المجاعات وغلاء الأسعار، وكانت لها دلالاتها في الثقافة الشعبية و بعض المؤلفات.
على سبيل المثال كتب أبو حامد العربي المشرفي، واصفا وباء الطاعون الذي تفشى سنة 1834، بأن أشخاصا يكونون أصحاء واقفين ويمشون، فيهاجمهم الموت ويسقطون موتى في الحين، وكان يسمى الوباء في الوسط المجتمعي حينها «بوقليب» و «بوزرويطة». أما الأطباء فكانوا آنذاك يطلقون عليه اسم «الريح الحمراء».
منذ بداية القرن الخامس عشر اجتاحت عدة أوبئة البلدان المغاربية و تكررت على مدار القرنين 16 و17 ميلادي، ثم 18 و19، وخلفت المجاعات و انعكست سلبا على البنية الاجتماعية و الاقتصادية، كما أثرت على النمو الديموغرافي الذي بدوره انعكس سلبا على الوضع الإجتماعي والصحي والمعيشي للسكان، وكانت، وفق الأستاذ حمدادو، أهم الإجراءات الصحية المتخذة ترتكز على تدخل الطب الحديث لمساعدة المصابين على المقاومة، حسبما جاء في كتابات بعض القناصلة الغربيين الذين كانوا في منطقة شمال إفريقيا.
كما كان للطب التقليدي المرتبط بالحضارة العربية الإسلامية مكانة في التداوي من الأوبئة من خلال الاستعانة بالوصفات العلاجية التي تركها ابن سينا وابن الجزار القيرواني وابن رشد وغيرهم، و لم يقتصر الأمر على ذلك، بل اعتمدت الشعوب المغاربية حينها على مجموعة معارف و سلوكيات متداولة ومتوارثة، للوقاية و التداوي من الأوبئة والأمراض التي كانت منتشرة. هذه العلاجات تمثلت في استنشاق البخور وعلاجات موضعية بأدوية مستخلصة من نباتات وأعشاب طبيعية، إضافة إلى علاجات روحية كالتمائم وترديد التعويذات المختلفة وزيارة أضرحة الأولياء الصالحين، إلى جانب قراءة القرآن والأدعية.
بن ودان خيرة