* نجوم الرياضة ضحوا بالماديات في سبيل صورة الجزائر دوليا
شكّل النشاط الرياضي واحدا من أهم وأبرز الأسلحة التي اعتمد عليها الجزائريون لمجابهة المستعمر الفرنسي، لأن الكثير من الرياضيين كانوا قد استغلوا نشاطهم للعب دور كبير في الدعاية للقضية الجزائرية إبان الحقبة الاستعمارية، وسلاحهم في ذلك كان النشاط الرياضي، سيما كرة القدم، وذلك بإيصال صوت الجزائريين إلى كل أقطار العالم، في وجه آخر من النضال من أجل التحرر، ببعد رياضي في ظاهره، لكنه في الجوهر كان يرمي إلى التنديد بممارسات المستعمر، والتعريف بالقضية الجزائرية في الهيئات الدولية، بمغزى سياسي ودبلوماسي، مع الترويج للثورة الجزائرية بلعب دور الدعاية والإعلام دوليا، دون تجاهل انعكاسات ذلك على نجاح الثورة، وذلك بالتعبئة الجماهيرية الشعبية، ليكون إضراب الثمانية أيام في بداية سنة 1957 من أبرز المحطات في تاريخ الحركة الثورية الجزائرية، والذي وضعت خلاله الأسرة الرياضية الوطنية بصماتها بصورة جلية، فأثبتت كيانها وانضواءها في العمل الثوري التحرري، مع بلورة معاني التلاحم والانتماء والهوية الوطنية، مقابل رفض «إغراءات» فرنسا.
إعداد: صالح فرطاس
الحديث عن الدور البارز الذي لعبته الرياضة في الجانب الترويجي والدعائي للثورة الجزائرية ينطلق من المخطط الذي كان قد انتهجته الحركة الوطنية قبل اندلاع الثورة بسنوات عديدة، ومن أهم النماذج على ذلك الخطوة التي قامت بها جمعية العلماء المسلمين، التي كانت قد بادرت إلى تأسيس 5 نوادي رياضية في عشرينيات القرن الماضي، بنية الحفاظ على مقومات الهوية الوطنية، وكانت هذه الأندية بالقاعدة الشرقية من التراب الوطني، بحكم أنها كانت الأكثر تضررا من أساليب المستعمر، خاصة من حيث المعاناة وتدني مستوى المعيشة، وهي الفكرة التي تجسدت ميدانيا بتأسيس فرق نجم قسنطينة، الراية القالمية، سريع سوق أهراس وشبيبة سكيكدة، لكن رد فعل السلطات الفرنسية على هذا الاجراء كان سريعا، وذلك بتضييق الخناق على النوادي «الإسلامية» الجزائرية، ووضع طواقمها تحت الحصار والمراقبة، فضلا عن تأسيس أندية أخرى استعمارية في نفس المدن، ليتم بعدها تعليق النشاط الرياضي الرسمي طيلة فترة الحرب العالمية الأولي، وعلى مدار 6 سنوات.
رياضيون لبوا نداء نوفمبر وفروا من الملاعب إلى الجبال
النضال ضد المستعمر الفرنسي باستعمال سلاح الرياضة اتضحت معالمه قبل اندلاع الثورة التحريرية، رغم أن السلطات الاستعمارية عمدت إلى شن هجوم مضاد على الحركة الوطنية وجمعية العلماء المسلمين، بالعمل على فرض قيود للممارسة الرياضية، بمزاعم مبنية على أساس أن مزاولة الأنشطة الرياضية يشكل خطرا على أفراد الشعب وممتلكاته، مقابل اشتراط الانخراط تحت مظلة نوادي فرنسية، لتكون نتيجة هذا المخطط تواجد ما يقارب 1500 جمعية رياضية في الجزائر قبل اندلاع ثورة التحرير، بعدد إجمالي من الممارسين يضاهي 100 ألف رياضي، ينشطون في 516 مرفقا رياضيا، في 33 تخصصا، أبرزها كرة القدم، الملاكمة وألعاب القوى، مع اعتماد بطولات جهوية تحت إشراف لجان تنظيم فرنسية.
القيود التي فرضها المستعمر لم تكن كافية لإفشال المخطط الذي رسمته الحركة الوطنية، بل أن الصدف شاءت أن تتزامن إحدى جولات البطولة مع عشية اندلاع ثورة التحرير المجيدة، وقد شارك في مباريات تلك الجولة لاعبون جزائريون كانوا قد تشبعوا بالروح الوطنية، واتخذوا من الملاعب نقطة انطلاق لنشاطهم الثوري، بدليل أن الكثير منهم وبمجرد انتهاء المباريات استجاب مباشرة لنداء الوطن، والتحق بالجبال، لتكون أول رصاصة بعد ساعات فقط من ذلك الموعد الرياضي، ويبصم الرياضيون على تواجدهم القوي في الصفوف الأولى لجيش جبهة التحرير الوطني، والنماذج كثيرة ومتعددة، في صورة سويداني بوجمعة، الذي كان لاعبا في صفوف الترجي الرياضي الإسلامي القالمي، أحمد زبانة، لاعب جمعية وهران وكذا بن عبد المالك رمضان، الذي كان من أبرز قادة الحركة الوطنية، واتخذ من النشاط الرياضي بقسنطينة كمحور رئيسي للترويج لفكرة الثورة، كما أن إضراب 8 أيام في بداية سنة 1957 كان محركا قويا لكل فئات الشعب الجزائري، وقد وضعت من خلاله الأسرة الرياضية بصماتها بصورة جلية على احتواء الرياضيين قضية النضال ضد المستعمر الفرنسي، والتلاحم والتآزر مع باقي شرائح المجتمع، لأن المقاطعة الجماعية للمنافسات الرياضية في تلك الفترة كشف عن الدور البارز الذي تلعبه الرياضة في التأثير على السياسة الاستعمارية الفرنسية، قبل أن تتطور الأمور وتصل حد رفع العلم الجزائري في المحافل الرياضية الدولية بدلا من الراية الفرنسية.
بومزراق وضع حجر الأساس لمشروع النضال «الرياضي»
بعد اندلاع ثورة التحرير المجيدة، ومع تشعّب الشبكة الدعائية والترويجية للثورة، تبلورت فكرة تفعيل النشاط الرياضي، مع إيجاد تنظيم مهيكل يتكفل بالأساس بدور سفير الجزائر على الصعيد الدولي، فقرر جيش التحرير تأسيس فريق لكرة القدم، وهي الفكرة التي ظهرت بعد أشهر قليلة فقط من الكفاح المسلح، لكن تجسيدها الميداني ظل مرهونا ببعض الإجراءات، لأن الأوضاع التي كانت سائدة في تلك الفترة كانت تستوجب التزام السرية التامة، مادامت السلطات الفرنسية كانت قد فرضت الحظر على النشاطات الرياضية في الجزائر، وعليه فقد وجه قادة جيش التحرير الوطني أعينهم صوب اللاعبين الجزائريين الذين كانوا ينشطون في الخارج، واللبنة الأولى لهذا المشروع كانت قد وضعت بتونس، تنفيذا لمخرجات مؤتمر الصومام، لما باشر فريق جيش التحرير الوطني نشاطه بالعاصمة التونسية بتاريخ 1 ماي 1957، بفكرة أحمد بن فول، الذي كان حينها مدربا للنادي الإفريقي، ولعب في الاتحاد الرياضي الإسلامي للبليدة، وقد ساعده في هذه المهمة بعض الشخصيات، على غرار الحاج دراوة، عبد القادر زرار، علي دودو والعامري سلامي، قبل أن يتطور المشروع، ويجد طريقا إلى التجسيد الميداني، في 13 أفريل 1958، لما اجتمعت كل العوامل المساعدة على العمل النضالي ضد المستعمر بتوظيف الممارسة الرياضية كسلاح، وذلك بما للرياضة من دور بارز في لفت انتباه الشعوب في مختلف بلدان العالم، وقد تكفل بهذه المهمة محمد بومزراق، الذي حمل على عاتقه مسؤولية الاتصال باللاعبين الجزائريين لاقناعهم بالرحيل عن فرنسا وتشكيل فريق جبهة التحرير الوطني، خاصة وأن «الجبهة» كانت لها خلايا سرية تنشط بفرنسا، وكانت تتكفل بجمع اشتراكات من اللاعبين الجزائريين لدعم النضال المسلح، بمساهمة تصل إلى 15 بالمائة من راتب كل لاعب، كما أن بومزراق استغل فرصة مشاركة بعض الطلبة الجزائريين في تظاهرة رياضية بموسكو للترويج للفكرة، مع استغلاله «سيناريو» المباراة الخيرية التاريخية التي كانت قد نظمت سنة 1954 بين المنتخب الفرنسي ومنتخب عن منطقة شمال إفريقيا بهدف جمع التبرعات لفائدة ضحايا الزلزال المدمر الذي كان قد ضرب منطقة الأصنام، والذي خلف أزيد من 1400 قتيل، وهي المقابلة، التي ورغم طابعها الخيري والتضامني، إلا أنها أخذت حيزا كبيرا من اهتمامات الصحافة الفرنسية، والتي كانت تراهن على تحقيق «الديكة» فوزا ساحقا بنتيجة عريضة، مع الاستخفاف بمنتخب شمال إفريقيا، والذي نعتته بعبارة «المنتخب الذي لا تجمع بين لاعبيه سوى اللغة العربية»، ليكون رد فعل العرب قويا على أرض الميدان، بالفوز على فرنسا بنتيجة (3 / 2)، وهي المواجهة التي حاول بومزراق اتخاذها كنموذج حي لمؤهلات اللاعب الجزائري، وقد لقي استجابة كبيرة من طرف الكثير من اللاعبين الذين كانوا يصنعون أفراح أندية فرنسية.
ترسيم تأسيس منتخب «الجبهة» ضربة موجعة لفرنسا
ترسيخ فكرة تأسيس منتخب جبهة التحرير الوطني كان كافيا لتوجيه العديد من الضربات الموجعة للمستعمر الفرنسي، والتي كان لها صدى كبير على الصعيد العالمي، لأن الدفعة الأولى من اللاعبين التحقت بتونس، وكانت تتشكل من عبد العزيز بن تيفور، عبد الرحمان بوبكر، مصطفى زيتوني، قدر بخلوفي وعمار رواي، لتلتحق بعد ذلك بنحو أسبوع دفعة ثانية ضمت مختار لعريبي، عبد الحميد كرمالي، رشيد مخلوفي، السعيد براهيمي والمدير الفني محمد بومزراق، في خطوة قابلها بالموازاة مع ذلك فرار اللاعبين الجزائريين من فرنسا، في حادثة تصدرت الصحف الفرنسية والعالمية، لأن الأمر يتعلق بعناصر كانت مرشحة للتواجد مع منتخب «الديكة» في مونديال 1958، وكل المعطيات كانت تضع المنتخب الفرنسي في خانة أكبر المرشحين للتتويج باللقب العالمي، لأن الحسابات كانت مبنية بالأساس على 4 لاعبين من جنسية جزائرية، برزوا بشكل لافت للانتباه في الدوري الفرنسي، ويتعلق الأمر بكل من نجم سانت إيتيان في تلك الحقبة رشيد مخلوفي، وصخرة دفاع نادي موناكو مصطفى زيتوني، إضافة إلى زميله في نفس النادي المهاجم عبد العزيز بن تيفور وكذا محمد معوش مهاجم نادي ريمس.
فرار اللاعبين الجزائريين من فرنسا كان قبل شهرين فقط من موعد انطلاق مونديال السويد، واختفاء هذا الرباعي عشية الودية التي كانت مقررة ضد سويسرا، تزامن مع هروب 30 لاعبا آخر كانوا يزاولون نشاطهم الرياضي بفرنسا، وكان ذلك باتجاه تونس، عبر الحدود الإيطالية والسويسرية، وهو ما جعل الفرنسيين يشعرون بالإهانة كرويا مثلما كانوا قد شعروا بها سياسيا، خاصة وأن هذا المنتخب نجح في تأدية المهمة المنوطة به، وتبليغ الرسالة، في الكثير من الجولات، مادامت غالبية دول أوروبا الشرقية قد احتضنت الجزائر، ورافعت لقضيتها، وعليه فقد كانت الانطلاقة من تونس، مرورا بالمغرب، ليبيا، العراق، الأردن، يوغوسلافيا، رومانيا، المجر، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا، وصولا إلى الصين والفيتنام، لتكون ألمانيا الشرقية الدولة الوحيدة من حلف «واترسو» التي لم تخض مقابلة كروية مع منتخب جبهة التحرير، وقد تم رفع العلم الجزائري لأول مرة في العراق في فيفري 1959 ببغداد، في مقابلة كروية أقيمت هناك، كان مغزاها الحقيقي تعريف المجتمع الدولي بالقضية الجزائرية العادلة، وفضح الجرائم البشعة التي كان المستعمر الفرنسي يرتكبها، ولو أن هذا المنتخب نجح في «المزواجة» بين النشاط الكروي والنضالي، لأنه وفضلا عن إيصاله القضية إلى هيئة الأمم المتحدة، فإنه كان متفوق رياضيا، بفضل تركيبته المدججة بالنجوم، حيث خاض 91 مباراة، فاز بـ 65 منها، وتعادل في 13، إلى درجة أن فرحات عباس لم يتوان في التأكيد على أن الدور الذي لعبه هذا المنتخب أكسب ثورة التحرير 10 سنوات من النضال المسلح.
مخلوفي تنازل عن «الامتيازات» وزيتوني رفض ريال مدريد
وأثار موقف رشيد مخلوفي ردود فعل الصحافة الفرنسية، لأن اللاعب كان نجم سانت إيتيان دون منازع، وكان مرشحا للتواجد في منصب صانع ألعاب «الديكة» في مونديال السويد، بالنظر للمؤهلات الفنية الفردية العالية التي يمتلكها، والتي كانت تعبد أمامه الطريق نحو العالمية، ولو أن هذه المعطيات كانت قد جعلت بومزراق يتردد في بادئ الأمر في الاتصال بمخلوفي، بحكم أنه كان في تلك الفترة مجندا في الجيش الفرنسي، وقد توج مع المنتخب العسكري الفرنسي بالمونديال، لكن رد فعل مخلوفي كان بالضرب بكل الإغراءات الفرنسية عرض الحائط، وتلبية نداء الواجب الوطني دون تردد.
على اعتبار أنه كان قد عايش في فترة الطفولة أحداث مجازر 8 ماي 1945 بسطيف، وصور القتل والحرق الذي شاهدها ظلت عالقة في ذهنه، مما جعله يرمي الامتيازات التي كان يتحصل عليها بفرنسا ويفر إلى تونس للالتحاق بصفوف فريق جبهة التحرير الوطني، ويتخذ من شهرته الكروية التي اكتسبها في فرنسا كسلاح للترويج للثورة الجزائرية في كل أقطار العالم، والعمل على تدويلها، وفضح ممارسات المستعمر الفرنسي تجاه شعب مسالم، يدافع عن حريته للتخلص من ويلات الاستعمار، وأبشع مظاهر المعاناة، مع التأكيد على أن الشعب الجزائري قادر على تحقيق التنمية منفردا، بعيدا عن قيود الاستعمار، وشتى أنواع الاستبداد، وقد عبر عن هذا القرار بالقول: « لم أتردد لحظة واحدة في تلبية النداء، فأغلبية الفرنسيين لم يكونوا على دراية بما يجري في الجزائر من تعذيب ووحشية، لكن بعد مغادرتنا النوادي والالتحاق بفريق جبهة التحرير اتضحت لديهم الصورة، ووقفوا على حقيقة الأمر وخطورته».
من جهة أخرى كان مصطفى زيتوني على عتبة الالتحاق بنادي ريال مدريد الاسباني، وذلك بعد المردود المميز الذي كان قد قدمه، عند مشاركته مع المنتخب الفرنسي في ودية جمعته بالمنتخب الإسباني في مارس 1958، لأن زيتوني تكفل بفرض رقابة لصيقة على المهاجم الاسباني دي ستيفانو، لينال إعجاب رئيس «الريال» في تلك الفترة سانتياغو بيرنابيو، حيث لم يتردد في عرض الفكرة على زيتوني مباشرة بعد تلك الودية، إلا أن رد زيتوني على هذا العرض كان بعقلية ثورية، لما قال جملته الشهيرة : «أشكرك على العرض، لكنني سألعب عن قريب في أحسن فريق في العالم»، في إشارة منه إلى منتخب جبهة التحرير، سيما وأنه كان قد وعد زملاءه بالهروب إلى تونس، وكانت تلك المقابلة الأخيرة له مع المنتخب الفرنسي، عشية مونديال السويد، ليكون بذلك زيتوني قد فضل الإلتحاق بالنضال الرياضي والتضحية من أجل الوطن على حساب «إغراءات» أحسن وأقوى فريق في العالم في تلك الحقبة، وقد كتب المؤرخون تصريحا له قال فيه عن هذه الوضعية: « لدي الكثير من الأصدقاء في فرنسا، لكن المشكلة كانت أكبر مني، لأنني لا أستطيع فعل شيء آخر، لأن الجزائر تعاني من الاستعمار وكانت بحاجة ماسة لي».
وكان لفرار اللاعبين الجزائريين من فرنسا والتحاقهم بصفوف فريق جبهة التحرير الوطني انعكاس على الجانب المادي لفرقهم، لأن الأمر يتعلق بنجوم كانوا يحظون بشعبية كبيرة، لأن زيتوني كان يتحصل على راتب 150 ألف فرنك فرنسي، ووفقا للعقد الذي يربطه بنادي موناكو، وأجرة زميله في نفس الفريق بن تيفور لم تكن تقل عن 120 ألف فرنك، بينما كان عقد مخلوفي مع سانت إيتيان بما يقارب 200 ألف فرنك فرنسي، كما أن السلطات الفرنسية كانت قد اقترحت على الرباعي مخلوفي، زيتوني، بن تيفور ومعوش مبلغا بقيمة 250 ألف دولار لكل لاعب من أجل العودة إلى فرنسا، وضمان التواجد ضمن تعداد «الديكة» للمشاركة في مونديال السويد 1958، إلا أن التشبع بالروح الوطنية جعل نداء الواجب يتفوق دون أي تردد على الإغراءات والامتيازات المالية، والتي كان المغزى منها محاولة إفشال النضال الرياضي للثورة الجزائرية ضد الاستعمار، إلا أن معوش رد على ذلك بمقولته التاريخية: « مهما كانت الظروف فإننا لم نندم جميعا، لأننا كنا ثوريين، وكافحنا من أجل استقلال بلادنا».
الأبطال يتكفلون بزرع الروح «النوفمبرية» بعد الاستقلال
تسلّح الرياضيين الجزائريين بالروح النوفمبرية إبان ثورة التحرير كان كافيا لزرع هذه الروح في جيل الاستقلال، لأن العديد من عناصر منتخب جبهة التحرير الوطني فضلت بعد انتهاء الثورة الالتحاق بالجزائر، واللعب لأندية محلية، في صورة بن تيفور، زيتوني، بوشوك، بوبكر، كرمالي ولعريبي، على اعتبار أنه ومن بين 30 لاعبا الذين كانوا محترفين والتحقوا بصفوف فريق جبهة التحرير وافق 13 فقط منهم على العودة إلى البطولة الفرنسية بعد الاستقلال، يتقدمهم مخلوفي، الذي مر عبر فريق سويسري، قبل الالتحاق مجددا بنادي سانت إيتيان، وقد كانت العودة في ثوب «الملك»، لأنه صنع السعادة لأنصار فريقه بثلاثة تتويجات تاريخية، وحمل شارة القيادة، في الوقت الذي كانت فيه عودة عمار رواي إلى نادي أونجيه من أوسع الأبواب، بعد تسليمه مستحقاته التي كانت عالقة عند إلتحاقه بفريق جبهة التحرير.
إلى ذلك فقد تحوّل بعض أعضاء المنتخب «الثوري» إلى عالم التسيير والتدريب، محاولين وضع خبرتهم في خدمة أجيال المستقبل، كما كان عليه الحال مع مختار لعريبي، الذي صنع أمجاد وفاق سطيف، ورشيد مخلوفي، الذي كان ضمن طاقم تدريب المنتخب الجزائري الذي تأهل إلى المونديال لأول مرة في التاريخ، وكان ذلك في دورة إسبانيا 1982، فضلا عن نجاح عبد الحميد كرمالي في قيادة «الخضر» لإحراز أول لقب قاري، وكان سنة 1990 بالجزائر، بصرف النظر عن الدور الذي لعبه باقي الأعضاء في تدريب أندية أخرى من حظيرة النخبة.
«محاربو الصحراء» يسيرون على درب منتخب «الثوار»
روح نوفمبر كانت السلاح الذي رفعه الرياضيون الجزائريون بعد الاستقلال، وامتد مفعوله على اختلاف الأجيال، والنماذج كثيرة وعديدة، لكن أبرزها كان «سيناريو» احراز منتخب كرة القدم الميدالية الذهبية في دورة ألعاب المتوسط لسنة 1975، التي أقيمت بالجزائر، في نهائي «تاريخي»، اتضحت فيه الروح الجزائرية في الثواني الأخيرة، بعد قلب الطاولة على الفرنسيين، والتتويج بالذهب بفضل سلاح «النيف» والإرادة، دون تجاهل الانجاز الذي كان حققه في تلك الطبعة العداء بوعلام رحوي، الذي كان قد أهدى الجزائر أول ذهبية متوسطية لها في تاريخ مشاركاتها في هذه التظاهرة.
ونجح المجاهدون الرياضيون الذين كانوا قد ساهموا بشكل كبير في إنجاح ثورة التحرير المجيدة في زرع الروح «النوفمبرية» في باقي الأجيال، لأن ما عاشه الجزائريون في فترة ثمانينيات القرن الماضي كان بمثابة فترة «زاهية» سواء بفضل منتخب كرة القدم، الذي تمكن من ضمان المشاركة في نهائيات كأس العالم في طبعتين متتاليتين في دورتي إسبانيا 1982 ومكسيكو 1986، وبانجاز تاريخي، تمثل في الفوز على منتخب ألمانيا الغربية، في أول مباراة للكرة الجزائرية في تاريخ مشاركاتها في المونديال، وقد كان «الخضر» أول منتخب يفشل في التأهل إلى الدور الثاني، رغم إحرازه انتصارين في المجموعة، في «فضيحة» زعزعت العالم، وأجبرت الفيفا على تعديل قوانين تسيير المنافسة، بسبب تآمر النمسا مع «الألمان» من أجل قطع الطريق أمام الجزائر نحو ثمن النهائي، قبل أن ينجح «المجاهد» كرمالي في قيادة المنتخب لمعانقة التاج الإفريقي بالأراضي الجزائرية، كما أن تلك الفترة كانت «الأزهى» في تاريخ رياضة كرة اليد، بنجاح السباعي الجزائري في الاحتفاظ باللقب القاري لخمس دورات متتالية، وذلك بفضل جيل قاده المدرب عزيز درواز، وصنع أمجاد اليد الجزائرية.
مرسلي وبوالمرقة نموذج «النضال» الرياضي في العشرية السوداء
وفي سياق متصل فإن صور تعلق الرياضيين الجزائريين بوطنهم ارتسمت أكثر إبان العشرية السوداء، لأن الوضع الأمني دفع بالأسرة الرياضية إلى رفع سلاح التحدي لإبقاء الراية الوطنية ترفع عاليا على الصعيد العالمي، والنموذج يمكن استنساخه من العداءة حسيبة بوالمرقة، التي أصرت على مجابهة كل العراقيل والعقبات التي اعترضتها لتشق الطريق نحو العالمية في منافسات ألعاب القوى، لتحصد الذهب في بطولة العالم، الأولمبياد والعرس المتوسطي، وقد شكلت ابنة قسنطينة رفقة زميلها في المنتخب نورالدين مرسلي الثنائي الذهبي للرياضة الجزائرية في تلك الفترة العصيبة، لأن تلك الفترة كان "ساخنة"، وغابت فيها الكثير من الاختصاصات عن "البوديوم" في المحافل القارية والإقليمية والعالمية، بسبب انعكاسات الجانب الأمني على التحضيرات، لكن بوالمرقة ومرسلي أصرا على دخول التاريخ عبر أوسع الأبواب، بحصد الكثير من الميداليات، غالبيتها من المعدن النفيس، ليكون هذا الثنائي من "ذهب" في واحدة من أحلك وأصعب الفترات في تاريخ الجزائر المستقلة.
دورة وهران المتوسطية إسقاط لتعلّق الجزائريين بالثورة
ولئن كانت الرياضة، على اختلاف نشاط الممارسة، تبقى المرآة العاكسة لتمسك الجزائريين بهويتهم الوطنية، والتسلح بروح «وطنية» عالية، فإن توريث «النوفمبرية» إلى كل الأجيال تجلى في الروح الجماعية التي يظهرها الرياضيون في مختلف المنافسات، سواء في المنافسات الفردية أو الرياضات الجماعية، إلى درجة أن المنتخب الجزائري استمد تسمية «محاربو الصحراء» من الروح التي يتسلح بها، خاصة منتخب كرة القدم، الذي استعاد مكانته على الساحتين القارية والدولية تدريجيا، بعد غياب لفترة طويلة، وكانت ثمار ذلك العودة إلى المونديال من بوابة جنوب إفريقيا 2010، ثم البصم على مشاركة تاريخية في دورة البرازيل 2014، بالنجاح في بلوغ ثمن النهائي لأول مرة في التاريخ، ومجانبة إنجاز «عالمي» آخر، بمقابلة «تاريخية» أمام بطل العالم المنتخب الألماني، ليكون الموعد في ختام العشرية الثانية للألفية الجارية بلقب إفريقي في صائفة 2019 بالأراضي المصرية، في ملحمة كانت الروح الوطنية السلاح الأبرز لرفع التحدي، والعودة إلى المنصة بعد غياب دام قرابة 3 عقود من الزمن، وذلك بفضل جيل استجاب لنداء الواجب الوطني، في وجود إغراءات من الجانب الفرنسي للتواجد ضمن تعداد «الديكة»، لكن نجوم عالميين من طراز محرز وبن ناصر فضلوا تقمص ألوان الجزائر، بعدما كان جيل آخر قد سار على نفس الدرب في العشرية الفارطة، بقيادة زياني، عنتر يحيى، بلحاج ومغني، ليرسم طريق عودة الكرة الجزائرية تدريجيا إلى الواجهة قاريا وعالميا.روح «نوفمبر» التي تسلح بها الرياضيون امتد مفعولها إلى الجماهير الجزائرية، التي ما فتئت تتخذ من الرياضة بصفة عامة وكرة القدم على وجه الخصوص كمتنفس، وصور ملحمة أم درمان في نوفمبر 2009 تبقى راسخة في الأذهان، وقد تكررت نفس المشاهد عدة مرات، خاصة في مونديال البرازيل 2014، وكذا عند التتويج باللقب الإفريقي 2019، وكذا بالتاج العربي بقطر 2021، ليكون تنظيم فعاليات النسخة 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسط محطة للجمهور الجزائري من أجل تقديم صور أدهشت العالم برمته، سواء في حفل الافتتاح، أو من خلال المتابعة الجماهيرية القياسية لمختلف المنافسات، والمساندة الكبيرة للرياضيين الجزائريين من أجل حصد الميداليات الذهبية، لأن تزامن هذه التظاهرة مع ستينية الاستقلال زاد في تحميس الرياضيين للتتويج، والدفع بهم لبذل قصارى الجهود، وإهداء المعدن النفيس للشهداء.
ص / فرطاس