واجهت الدولة الجزائرية الفتية غداة استرجاع الاستقلال الوطني في الخامس جويلية من سنة 1962 وضعا صعبا للغاية في مجال الإسكان، ذلك أن الأسر الجزائرية في غالبيتها الساحقة كانت تعيش على الهامش خلال الحقبة الاستعمارية وكانت محرومة من السكن ومتطلباته العصرية في أبسط مفاهيمها، ولم يكن من السهل إطلاقا مواجهة هذا الوضع في سياق وضع عام خلفته حرب التحرير التي دامت سبع سنوات ونصف بجراحها ومآسيها على كافة الأصعدة، و بفضل السياسة الاجتماعية التي انتهجتها الدولة منذ الاستقلال من خلال البرامج العديدة التي وضعتها لتلبية الطلب المتزايد على السكن، و كذا الصيغ الكثيرة التي أقرتها في هذا المجال، تمكنت السلطات من توفير حياة كريمة لمواطنيها من خلال انجاز حوالي 9 ملايين سكن منذ 1962 و إلى غاية يومنا هذا.
لكن الانتفاضات والثورات التي خاضها الشعب الجزائري طيلة 132 سنة ضد الوجود الفرنسي وبخاصة ثورة الفاتح نوفمبر من العام 1954 أعطت محتوى إنساني واجتماعي للدولة الجزائرية بعد الاستقلال كونها كانت تعي جيدا أن آثار الاستدمار الفرنسي كانت كبيرة على الصعيد الاجتماعي لكافة الشرائح.
ومن هذا المبدأ وضعت الدولة بعد الخامس جويلية 1962 مسألة الإسكان ضمن أولى أولوياتها لمعاجلة الوضع الاجتماعي الصعب الذي ورثته، ولم يكن من السهل عليها مواجهة ذلك لأسباب وعوامل موضوعية متعددة في مقدمتها نقص الإمكانات المادية، وثانيا قوة موجات النزوح نحو المدن وبخاصة الساحلية منها التي برزت بعد استرجاع السيادة الوطنية، وثالثا تزايد النمو الديمغرافي بشكل كبير في السنوات الأولى للاستقلال، ورابعا وأخيرا نقص أو انعدام مؤسسات الإنجاز، ذلك أن الجهة التي كانت مكلفة بالإنجاز خلال الحقبة الاستعمارية كانت كلها مؤسسات فرنسية وقد رحلت مع اندحار قوتها العسكرية بعد حرب التحرير.
الحظيرة السكنية الوطنية غداة الخامس جويلية 1962
تشير الأرقام والإحصائيات أن الحظيرة الوطنية للسكن التي ورثتها الجزائر المستقلة بعد استرجاع السيادة الوطنية سنة 1962 كانت بحدود 1.2 مليون وحدة سكنية مركزة بشكل كبير في المدن الكبرى والحواضر على قلتها، وقد كانت موجهة بالأساس للأسر الأوروبية خلال العهد الاستعماري، ولم يكن هذا الرقم كاف لاستيعاب العدد الكبير من الأسر الجزائرية التي كانت تعيش على هامش السكن العصري قبل الاستقلال، و بخاصة في الأرياف والقرى و الجبال التي كانت معاقل لثورة التحرير المجيدة والتي دفعت ثمنا باهظا.فبعد الاستقلال كانت نسبة التعمير في البلاد ضعيفة جدا مقارنة بالمساحة الشاسعة للجزائر، فقد كانت البنى التحتية الأساسية و ما تتطلبه الحياة من ضروريات على غرار الماء الشروب، والطاقة، والصرف الصحي والطرقات متوفرة في شريط ضيق فقط.
وانطلاقا من شعار «الثورة من الشعب وإلى الشعب» بذلت السلطات العمومية بعد الاستقلال مباشرة جهودا كبيرة في مجال الإسكان ، لكن قلة الإمكانيات حالت دون التمكن من تلبية الطلب المتزايد والملح على السكن، خاصة بعد موجات النزوح نحو المدن الساحلية والمدن الكبرى.
وقد وضعت لذلك برامج خاصة بالتزامن مع تشييد الجامعات والمعاهد والمدارس من أجل تكوين جيل من المهندسين والمعماريين، الذين سيتولون بعد سنوات قليلة مهمة البناء والتعمير.
بداية البرامج العمومية للإسكان
أمام الوضع سالف الذكر بدأت الدولة في تنفيذ برامج عمومية مسطرة خاصة ببناء السكنات من أجل التخفيف على المواطنين، وكانت هذه البرامج على تواضعها و قلتها ممولة بالكامل من خزينة الدولة، التي كانت في ذلك الوقت متواضعة هي الأخرى من حيث الإمكانات المادية والموارد المالية.
وعلى هذا النحو كانت أولى البرامج قد انطلقت مباشرة بعد الاستقلال واستمرت إلى غاية سنة 1966 وتمثلت على وجه الخصوص في استكمال المشاريع الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، مثل مشاريع «السكنات ذات الإيجار المعتدل» غير المنتهية، والتي كانت بحدود 38000 وحدة في المناطق الحضرية و 4000 وحدة خاصة بالسكن الريفي.بعدها وضعت السلطات العمومية أولى المخططات، المخطط الثلاثي 1967-1969 و الذي يعتبر اللبنة الأولى لسياسة السكن الاجتماعي في الجزائر، وكان هذا المخطط يضم حوالي 13.700 وحدة سكنية حضرية و 3000 سكن ريفي وزعت على مناطق عدة من الإقليم الوطني.
المخطط الرباعي الأول – 1970- 1973- وكان مبرمجا بما يقارب 85000 وحدة سكنية، منها 40.000 مسكن ريفي، لكن لم تنجز من هذا المخطط سوى 42.000 وحدة وإلى غاية سنة 1978، منها 24.000 سكن ريفي.المخطط الرباعي الثاني وكان بين سنتي 1974و 1979 و قد سمح بإنجاز 147.000 وحدة سكنية منها 87.000 مسكن ريفي، وخلال هذه الفترة برمجت السلطات العمومية أيضا إنجاز 300 قرية فلاحية في مناطق عدة من البلاد، وكانت موجهة بشكل خاص للفلاحين في القرى والأرياف بغرض تخفيف الضغط ومنح فرصة لشريحة أخرى من المواطنين للحصول على سكن محترم لا يكون بعيدا عن مناطق النشاط الفلاحي.
وبالتزامن مع كل ما بني خلال هذه الفترة من سكنات قامت الدولة أيضا بتشييد العشرات من المرافق العمومية الأخرى المرافقة، على غرار المدارس والمصحات، والمستشفيات والطرق وبعض المصانع لخلق نوع من التنمية الاجتماعية التي تضمن استقرار الساكنة وتطورها.
لكن وعلى الرغم من كل هذه الجهود التي بذلتها الدولة في ذلك الوقت إلا أنه بداية من حقبة السبعينيات أصبح السكن أحد المعالم البارزة للأزمة التي بات يعيشها المجتمع الجزائري، وبات الوضع العام في مجال السكن معقدا أكثر بفعل تشابك العوامل سالفة الذكر مثل النمو الديموغرافي السريع والمتصاعد، و حدة ظاهرة النزوح الريفي نحو المدن الذي أدى إلى تمركز السكان في مساحة صغيرة جدا مقارنة بحجم الإقليم الوطني، فضلا عن محدودية الموارد المالية للخزينة العمومية من أجل تمويل البرامج الوطنية للسكن.
واستمر الوضع على هذه الحال طيلة سنوات الثمانينات والنصف الأول من التسعينيات، حيث واصلت الدولة وضع برامج عمومية للإسكان تمول من طرف خزينة الدولة حصرا، لكن ذلك لم يحل مشكلة السكن التي بقيت مطروحة.
القطيعة مع السياسات السابقة..صيغ أخرى وطرق جديدة للتمويل
وضع قطاع السكن بداية من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ضمن الأولويات الكبرى في السياسة الاقتصادية و الاجتماعية للدولة الجزائرية على اعتبار أن إشكالية إنتاج السكن كانت دائما تشكل انشغالا بالغ الأهمية بالنسبة لكافة الحكومات المتعاقبة.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة طيلة عشريات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات إلا أن معضلة السكن ازدادت تفاقما مع ازدياد عدد السكان بشكل سريع، ولم تكف البرامج التي أنجزت من مواجهة الطلب المتزايد على السكن و مواجهة المظاهر السلبية التي باتت تخلفها موجات النزوح الريفي مثل البنايات الفوضوية والسكن الهش وأحياء الصفيح، والتي تعقدت بشكل مضاعف في التسعينيات مع بداية الأزمة الأمنية.وانطلاقا مما سبق أعادت الدولة كلية النظر في سياسة الإسكان والسكن لتنتقل الدولة من الطرف المحتكر بصورة شبه كلية لبرامج السكن والمتدخل الأول والوحيد من الناحية المادية، إلى الطرف المنظم لعملية بناء السكنات، وإدخال رؤية جديدة تتماشى مع ملامح المعضلة و ذلك باعتماد صيغ متعددة للسكن والإعانات، وفسح المجال لمساهمة الأسر في ذلك حسب مدخولها.وانطلاقا من سنة 1999 اعتمدت السلطات العمومية إستراتيجية جديدة في مجال السكن تقوم على تعدد المتدخلين و تعدد الصيغ، و التوجه نحو بناء مدن جديدة بأكملها انطلاقا من المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية ومخططات شغل الأراضي لتخفيف الضغط على المدن وبخاصة منها الكبيرة على غرار العاصمة، قسنطينة، وهران وعنابة، فجاءت مشاريع إنشاء المدينة الجديدة لسيدي عبد الله بالجزائر العاصمة، وعلي منجلي بقسنطنية وغيرها.
لكن في نفس الوقت رمت الدولة بثقلها في مجال السكن عبر برنامج مليون وحدة سكنية بين سنتي 1999 و 2003، من مختلف الصيغ وعبر آليات جديدة ومتعددة للدعم، وتشير إحصائيات خاصة بتلك الفترة إلى إنجاز 693280 مسكن بمختلف الصيغ بين السكن الاجتماعي الايجاري، والتساهمي والبناء الذاتي، وشهدت ذات الفترة بناء 40278 مسكنا من طرف مرقين عقاريين، أما البناء الريفي فقد وصلت حجم الإعانات الخاصة به التي وزعتها الدولة بين 1999و 2003 إلى 138986 إعانة مالية بقصد التخفيف من النزوح الريفي وتثبيت ساكنة الريف بفضل برامج التنمية الريفية باعتبارها برامج تكميلية ترمي إلى النهوض الاقتصادي والاجتماعي بعالم الريف.
تجربة «عدل»
لأول مرة في تلك الفترة- بالضبط في سنة 2001- يتم استحداث صيغة جديدة هي البيع بالإيجار أو ما يعرف بسكن «عدل» وهو برنامج يمول من خزينة الدولة و تساهم شريحة من المواطنين فيه من الذين تفوق مرتباتهم الحد المحدد للاستفادة من السكن الاجتماعي، بقسط معين يدفع عبر مراحل، و كان البرنامج الأول من هذه الصيغة يضم 55 ألف وحدة عبر كامل التراب الوطني، ثم تلاه برنامج ثاني يضم 65 ألف وحدة ومول من طرف الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط.والأهم في المسعى الجديد الذي بادرت به الدولة في هذا المجال هو أنه فتح المجال لشرائح معينة- عدا الضعيفة منها التي توجه للسكن الاجتماعي- للاستفادة من سكن عبر الصيغ سالفة الذكر والمساهمة في تمويلها، كما يمكن للمستفيد من اللجوء للبنوك قصد الحصول على قرض بفوائد مقبولة. كما قدمت الدولة في إطار سعيها العام لمحاصرة أزمة السكن تحفيزات للمرقين العقاريين الذين يساهمون في انجاز برامج سكنية ، منها الحصول على أرضية تابعة للأملاك الخاصة للـدولة عن طريق التنازل وبتخفيض يقدر بـ 80 % من التكلفة بالنسبة للسكن التساهمي والبيع عن طريق الإيجار، وهي تسهيلات و حافز إضافي يمنح للمستفيدين من هذه الصيغ و الذين يستفيدون، أيضا من إعانة مباشرة من الدولة دون تسديد تتراوح بين 400.000 دج و 700.000 دج حسب مستوى مداخيل كل أسرة.و واصلت السلطات العمومية في ذلك الوقت بعد نجاح هذه التجارب في تسطير برنامج من مليون وحدة سكنية للخماسي 2004- 2009، أي بمعدل إنجاز يساوي 200 ألف وحدة كل عام من مختلف الصيغ، وتواصل النهج إلى ما بعد سنة 2009.وعلى هذا النحو تواصلت سياسة الدولة بعد 2009 حيث برمجت انجاز مليون وحدة سكنية أخرى للخماسي الممتد إلى غاية 2014، ونفس الشيء في العهدة الرئاسية التي تلتها.
انجاز 7.9 مليون سكن بين 1962 و 2019
وتشير تقديرات رسمية إلى أنه خلال الفترة من 1962 إلى سنة 2019 أنجزت 7.9 مليون وحدة سكنية، عدا تلك الموروثة عن الحقبة الاستعمارية التي سبقت الإشارة إليها سلفا، ما يظهر حجم الجهود الكبيرة التي تبدلها الدولة من أجل التكفل بهذه المسألة الحيوية لأن السكن الكريم هو الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تنشئة مواطن صالح ويساهم في التنمية المستدامة التي تطمح إلى تحقيقها البلاد. كما أولى رئيس الجمهورية الحالي، عبد المجيد تبون، أهمية بالغة لملف السكن ضمن برنامجه الانتخابي حيث سطر بناء مليون وحدة سكنية إلى غاية سنة 2024، من مختلف الصيغ.وكشف المدير العام للتعمير والهندسة المعمارية بوزارة السكن والعمران والمدينة، حكيم باي، قبل أيام قليلة بأن الدولة تكفلت بين سنتي 2010 و 2021 في إطار قوانين المالية بـ 5400 موقع سكني تضم في المجموع أزيد من مليوني وحدة سكنية عبر التراب الوطني، مضيفا بأن القطاع يشهد في الوقت الحالي إنجاز و بوتيرة متسارعة أزيد من 300 ألف وحدة أخرى.وبحساب الأرقام سالفة الذكر والتي يعلن عنها المسؤولون عن القطاع من وقت لآخر يتضح أن الدولة الجزائرية أنجزت منذ الاستقلال إلى اليوم حوالي 9 ملايين مسكن من مختلف الصيغ.
وفضلا عن انجاز السكنات بمختلف صيغها يتولى قطاع السكن أيضا انجاز العديد من المرافق على غرار المنشآت التربوية والتعليمية والرياضية وغيرها.
إلياس -ب