يروي، المجاهد زياني رزقي المدعو اسماعيل للنصر، قصته مع الكفاح المسلح إبان الثورة التحريرية، ولقاءه مع قادة الثورة في رحلة التعلم والتكوين العسكري، من كتاتيب القرى ومدارس جمعية العلماء المسلمين، إلى تونس والقاهرة وحلب بسوريا، مبرزا الأهمية التي كانت توليها قيادة الثورة لنشر التعليم بالقرى والمدن، والتنظيم والتخطيط المحكم لإنجاح الثورة، الذي لم يكن مقتصرا على العمل المسلح، بل تعداه إلى الاهتمام بالنضال السياسي والتدريب العسكري والحفاظ على مقومات الهوية الجزائرية، بالقضاء على الأمية المفروضة وسط أبناء الشعب من قبل قوات العدو الفرنسي ومقاومتها، كاشفا عن إعطاء قادة الثورة وعلى رأسهم العقيد عميروش لأوامر، بتعيين معلم في كل قرية لتدريس اللغة العربية.
حاوره: عثمان بوعبدالله
عيسى «البونداوي» يؤسس أول نواة للكفاح المسلح على الحدود بين البرج وبجاية
يعود المجاهد زياني رزقي المولود سنة 1940 بقرية بوندا الكبيرة ببلدية جعافرة ولاية برج بوعريريج، في لقاء بالنصر في منزله، إلى سنوات الكفاح والنضال، مستعرضا أهم المراحل والمعارك التي شارك فيها، بداية من التحاقه بالمدرسة القرآنية بالقرية، وتنقله إلى مدرسة جمعية العلماء المسلمين بمنطقة بني عباس التي كان يشرف عليها المعلمان السعيد عدنان محافظ سياسي و علي لربص، قبل التحاقه بصفوف الثوار، وتكليفه بمهمة التدريس في القرى، إلى أن اشتد الكفاح المسلح عبر التراب الوطني وبالمنطقة، بتشكيل أول نواة للتنظيم الثوري لمجابهة بطش وغطرسة قوات العدو بالقرية، بقيادة الثائر عيسى حميطوش المدعو البونداوي، الذي كون مجموعة قوامها 70 مجاهدا، ما أقلق عساكر العدو، وجعلهم يسارعون في محاولة يائسة للي ذراع الثوار وكبح نشاط هذه المجموعة الذي كان ممتدا على الحدود بين ولايتي البرج وبجاية، ومن ذلك كما قال اندلاع معركة شرسة في قرية بوندا الكبيرة واشتباك مرفوق بقصف طائرات العدو لمعاقل الثوار استمر من التاسعة صباحا إلى الثالثة مساء.
تشريد وتعذيب واعتقالات طالت حتى مختلا عقليا
يضيف محدثنا، أن ذلك اليوم لن يمحى من ذاكرة السكان، لما ذاقوه من مرارة التعذيب والتعنيف والترهيب والتشريد من قوات المستعمر، في محاولة للكشف عن مكان تواجد الثوار، مشيرا إلى تواصل همجية العساكر وبطشهم طيلة ساعات الليل، حيث قاموا صباحا بأسر 15 مواطنا أغلبهم شباب، ونقلهم سيرا على الأقدام إلى بلدية الجعافرة، مضيفا (عند وصولنا قاموا بتعنيفنا و وضعنا في مجموعة واحدة، و شرعوا في تجهيز الأسلحة وتصويبها باتجاهنا، كنا نعتقد أنهم يرتبون لقتلنا، وفي تلك اللحظات تقدم نحونا أحد العساكر مسرعا ليخبر قائد العملية بتلقي اتصال، توجه صوب جهاز الاتصال وعاد نحونا وملامح الغضب على وجهه وكأنه تلقى أوامر بعدم قتلنا والاكتفاء بنقلنا إلى المعتقل)، بعد الاتصال تغيرت الخطة، بنقلنا على متن الشاحنة إلى ثنية النصر، وبوصولنا تأكد أحد القادة في قوات العدو، أن أحد المعتقلين مختل عقليا، فراح يستهزئ بالعساكر قائلا (هل تعتقدون أنكم ألقيتم القبض على العقيد عميروش)، عندها أبقوا على بعض المعتقلين هناك، و اختاروا 08 آخرين، لتحويلهم إلى معتقل مجانة القريب من (عين باشاغا)، بمن فيهم محدثنا الذي استعاد في شهادته ظروف الأسر الكارثية وأساليب التعذيب الهمجية، و قال: « المعتقل كان على شكل خيم بداخلها حوالي 400 محبوس، فبعد البحث والتحقيق معنا حول هوية المجاهدين من القرية، حاول أحد العساكر المكلفين بالتحقيق استنطاقي للكشف عن مكان تواجد قائد التنظيم الثوري بالمنطقة عيسى حميطوش ومجموعة من المجاهدين، تظاهرت حينها بعدم الاطلاع على نشاطهم الثوري، وأصررت أني لا أعرف وجهتهم، حينها انهالوا علي بالضرب، واستفسرت بعدها عن مكان تواجد المستشفى الخاص بالمجاهدين، فأعطيتهم عنوانا مضللا، حينها استشاط غضبا و وصفني بالكاذب، قبل أن يضع أسلاك الكهرباء في يدي وأذني، و رغم ذلك تمسكت بأقوالي، مكثنا هناك لسبعة أشهر، و بعد إطلاق سراحي وجدت أن عائلتي رحلت نحو قرية أفيغو بدوار أولاد سيدي المسعود، حيث تقيم أربع عائلات في منزل واحد، مكثت معهم لمدة شهر تقريبا».
اهتمام بفتح الكتاتيب وتدريس اللغة العربية بالقرى
غادر بعدها إلى قرية بلعيال بمنطقة بني عباس، بحثا عن معلم كان يدرسه، بوصوله وجده مع الرائد عبد الله أومرزوق من القلعة وآخر يسمى البشير، تحدث معهم المعلم وأخبرهم أنه كان مسجونا، فسأله القائد عبد الله عن سبب مجيئه، وكان جوابه الالتحاق بصفوف الثوار والتجنيد، فقال هل تعتقد أن الأمر سهل وأنت في هذا العمر ( أقل من 16 سنة)، وأضاف أن الجهاد في سبيل الوطن ليس لهوا ولعبا بل كفاح ونضال، تدخل رفيقه وسألني هل تقرأ العربية، فكان جوابي بنعم، حينها اختبرني وتأكد من مستواي، وأضاف اعتبر أنك جندي من الآن، و كلفني بالتنقل إلى قرية الساطور لأجل التدريس، و منحني رسالة أسلمها إلى قائد المسبلين وقائد النظام، من بين ما تضمنته تسهيل مهمتي، والتنبيه إلى أن العقيد عميروش أعطى أمرا بتعيين معلم في كل قرية لتدريس العربية، و يضيف محدثنا أنه تنقل في اليوم الموالي إلى قرية الساطور أين كان له لقاء مع قائد المسبلين علاوة كرميش، ليشرع في مهامه بالعمل مع المسبلين ليلا وفي النهار يتولى مهمة تدريس الحروف واللغة العربية والأناشيد وما حصله من دروس.
غنم 60 سلاحا و إلحاق خسائر بقوات العدو في معركة الساطور
تواصلت مهمة التدريس، إلى غاية وقوع معركة الساطور بقيادة عبد القادر البريكي الذي كان في مهمة وقصد القرية في تلك الليلة للمبيت مرفوقا بجنود الناحية، لكن عساكر العدو بدأوا معركة انطلقت من السابعة والنصف صباحا إلى الساعة السابعة مساء باستعمال الأسلحة الثقيلة والقصف بالطائرات، مضيفا أنه وعلى الرغم من الفارق في العدة والعتاد والسلاح بين قوات العدو والثوار، إلا أنهم تمكنوا من مقاومة العدو، وإلحاق خسائر في صفوفه، ما سمح بالتخفيف من الخناق واسترجاع حوالي 60 سلاحا في هذه المعركة، والقبض على أربعة من الحركى، قبل توجه المجاهدين بقيادة الباريكي إلى قرية تازلة الواقعة في الحدود بين ولايتي البرج وبجاية، ومنها إلى القلعة، وفي اليوم الموالي يضيف محدثنا، كلفني عبد القادر البريكي بنقل رسالة والعودة بها إلى قرية الساطور، وهو ما قمت به، و مكثت هناك، قبل أن أقع بعد شهر من المعركة فيما يشبه الفخ المعد من قوات العدو، فحاولت الفرار مع الشهيد شرفة بوحدة الذي كان المحافظ السياسي بالمنطقة، بوصولنا الوادي الواقع بين افرسن والساطور، اقترح علي أن نتنقل باتجاه قرية توكال، فرفضت و اقترحت عليه أن نسلك طريق الوادي المحاط بالغابة، لكي لا يتسنى لقوات العدو أن تكتشف وجهتنا، كون مسلك العبور نحو قرية توكال عار ويمكن لعساكر العدو رصد تحركاتنا بسهولة، لكنه أصر على الذهاب لوحده، فيما سلكت طريق الغابة وقضيت ليلة بها، لأصدم في اليوم الموالي بخبر تمكن قوات العدو من القبض على رفيقي، أين قاموا بتعذيبه أشد العذاب، بعدما عادوا به إلى قرية الساطور، ونظرا لامتناعه عن التصريح بأية معلومات قتلوه، وشردوا وهجروا سكان الساطور، فعدت إلى المنزل الذي تتواجد به عائلتي بقرية أفيغو.
نجاة العقيد عميروش من فخاخ العدو في الطريق إلى الحدود التونسية
بعدها تنقل إلى مكان تواجد الثوار بقرية بلعيال، ليخبرهم بالحادثة، حينها ( أعلمت بالتحضير للتنقل إلى الحدود التونسية، بعدما اتصل بنا العقيد عميروش لانتقاء مرافقيه في هذه المهمة، وما هي سوى بضعة أيام حتى حل بقرية موقة مع العقيد سي الحواس شهر فيفري من سنة 1957، كان الجيش يحيط بجميع ضواحي القرية، مكثنا هناك إلى أن قدم النذير عبادة مسرعا، ليخبرنا بضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة والتحضير الفوري، لقدوم قوات العدو باتجاه القرية، فما كان علينا سوى المغادرة، في الليل نحو غابة مشيك تحت قرية تابوعنانت، قضينا الليل والنهار من دون مؤونة، وتوجهنا في الليلة الموالية إلى قرية تابوعنانت أين أحاطنا أهلها بكرمهم، بما لديهم من مدخرات تمثلت في الرغيف (كسرة) والتين المجفف (كرموس) والزيت، في الصباح انتقوا ثلاثة منا المتحدث (زياني رزقي) ودهيلي الصالح من منطقة برج زمورة، كان محافظا بجهة عين السلطان، وعمار بوغيدة الذي استشهد فيما بعد، وثلاثة آخرين من الثوار بن مني مهدي من ثنية النصر و زواوي عبد الرحمان المدعو باحة والحواس من القلعة ولاية بجاية، وقع علينا الاختيار لمرافقة العقيد عميروش، ومعه أربعة من مرافقيه من بينهم محمد الطيب وعبد الحميد وارعة والحسين بن معلم، بوصولنا لزاوية سيدي أحسن، وقع اشتباك مع قوات العدو، سبق التحضير له بشروع المجموعة التي يقودها العقيد عميروش في التوغل بالمنطقة في المرحلة الأولى، واللحاق بهم بمجموعة ثانية كنتُ من ضمنها لتشتيت قوات العدو، ما سمح بتجاوز الفرقة الأولى لقوات العدو ومواصلة مهمتها، في حين عادت المجموعة الثانية و أتممنا بعدها المهمة بالوصول إلى الحدود التونسية.
دول عربية قدمت يد العون وساعدت على تدريب الثوار
بالوصول إلى الحدود، تنقل بعض الثوار إلى تونس لتحصيل العلم، أين دامت فترة التعليم لمحدثنا حوالي عام، قبل أن يقع عليه الاختيار سنة 1958، ضمن مجموعة تضم 100 من الثوار، لنقلهم إلى عدد من الدول العربية للتكوين والاستفادة من التدريبات العسكرية، يضيف المجاهد زياني في شهادته للنصر ( بعد الانتقاء، تنقلنا في شاحنة الجيش من تونس إلى ليبيا طرابلس بنغازي وصولا للقاهرة، أقمنا هناك لمدة 08 أيام، كان في ذات الرحلة المجاهد أوساسي عبد المالك الذي رقي بعد الاستقلال إلى رتبة جنرال، و زتشي رمضان، وآخرين، بعد إقامتنا في القاهرة بقيت مجموعة هناك، في حين تم تحويل البقية نحو العراق، والأردن، فيما توجهت في الفوج الذي يضم 35 مجاهدا نحو سوريا، تنقلنا في الطائرة واستقبلنا السفير الجزائري بسوريا غسيري محمد، أذكر أنه كان طيبا تحدث عن العادات والتقاليد والمهمة التي جئنا لأجلها، نقلونا بعدها إلى كلية ضباط الاحتياط في مدينة حلب للتدرب، وهناك من حولوا إلى دمشق للتدرب على الأسلحة الثقيلة والدبابات، بقينا في حلب أين تلقينا تكوينا في العلوم العسكرية للمشاة، لمدة تقارب العامين.
هواري بومدين مخاطبا الثوار: «حان الوقت للاستفادة من خبرات التدريب في الميدان»
بعد إتمام التدريبات عاد الثوار لأرض الوطن أواخر سنة 1959، وكان لهم لقاء مع القائد هواري بومدين، أين تقلدوا الرتب العسكرية، ومن بين ما يذكره المجاهد زياني وبقي راسخا في ذاكرته، أن بومدين ألقى كلمة تحدث فيها على ضرورة مواصلة الكفاح ببسالة لطرد قوات العدو واستقلال الجزائر، و الاستفادة من خبرات التدريب العسكري والقتالي، مضيفا أنهم طالبوهم بتغيير بذلات التدريب بالبذلة العسكرية الخاصة بالقتال والكفاح المسلح، وتوجيه رسالة من بومدين للثوار فحواها أنه قد حان الوقت لتطبيق ما تدربتهم عليه نظريا في الميدان، ليتم بعدها توزيع خريجي الدفعة على مختلف الوحدات.
معارك ضارية لنزع الألغام والأسلاك المكهربة على الحدود
التحق محدثنا بوحدة (ملاق) التي كان من أبرز القادة فيها محمد تواتي، ومدوني رشيد الذي توفي في حادث سقوط الطائرة ومخالفة أحمد و زمورة والعربي زخنين … عينوني نائبا لقائد الفيلق أين مكثت هناك لمدة خمسة أشهر تقريبا، حينها انتبهت لتصرفات أحد الجنود الذي سبق وأن كان مع قوات العدو وتظاهر بالالتحاق بصفوف الثوار، كان يستيقظ باكرا، و يدون معلومات تتعلق بلباس الجنود والسلاح والذخيرة و يسجل كل كبيرة وصغيرة، فأخبرت الرفاق بالثكنة بشكوكي، غير أنهم قللوا من مخاوفي، بالقول أنه عنصر نشط وصارم، إلى أن فر باتجاه منطقة الكاف في تونس وعاد للجيش الفرنسي، و دعا المواطنين للالتحاق بصفوف الجيش الفرنسي، حينها صدقت شكوكي واعترف الرفقاء بالخطأ … بعدها حولوني للفيلق رقم 45 بجبل بورقعية كان قائد الفيلق حينها العربي بلخير رحمه الله، كلفنا بنزع الأسلاك الشائكة على امتداد الحدود الجزائرية التونسية، وإبطال مفعول الألغام وترصدها لتسهيل مهمة عبور الجنود والمؤونة في نقل السلاح والذخيرة من تونس، بالإضافة إلى تنفيذ هجمات على المراكز الأمامية لقوات العدو الفرنسي، نذكر منها مراكز القرقارة بوشبكة والعيون، وقد كنت شاهدا على استشهاد بعض رفقاء الدرب في معارك طاحنة، من بينهم الشهيد رزقي شبانة ولحلو لسعد، كان عساكر العدو يعمدون إلى رمي الشهاب المشتعلة من الطائرات ليلا، للكشف عن أماكن تواجد الثوار، و يلحقونها بعمليات القصف بالمدافع والطائرات، فيما كنا نسارع لنزع الأسلاك المكهربة، وتدمير مساحات واسعة للأماكن المزروعة بالألغام، تواصلت هذه المعارك إلى غاية توقيف القتال، عدنا إلى العاصمة و بعدها كلفنا بمهام قيادية خلال فترة الاستقلال، لكنني فضلت في سنة 1964 العودة إلى التعليم، بعدما أصبحت الجزائر تنعم بالاستقلال، وما أريد الإشارة إليه أن الموافقة على طلبي لم تكن سهلة بل قوبلت بالرفض لعدد من المرات، رغم أن غايتي كانت المساهمة في التربية والتعليم، خاصة وأن الجزائر كانت في تلك الفترة بحاجة ماسة للمعلمين والأساتذة، لمحو آثار الجهل والأمية التي كانت من مخلفات المستعمر في محاولة لطمس هوية وثقافة الشعب .
ع/ ب