* أنا الذي أنزلت علم الاستعمار ورفعت الراية الوطنية ببلدية ميلة
يعود بنا المجاهد عبد المالك بولمرقة في حديث للنصر، لسرد جزء من شهادته عن الثورة التحريرية، وكيف انضم لجيش التحرير الوطني وصار مسؤول الاتصالات والأخبار وعضوا في الناحية الثالثة بالمنطقة الأولى، وبالرغم من كبر سنه ، إلا أنه أبى أن يخصص لنا جزءا من وقته ليروي لنا فصول عملياته العسكرية بميلة، وكذلك المعاناة التي عاشها سكان المنطقة لمواصلة الكفاح المسلح.
التحق المجاهد عبد المالك بولمرقة، بالثورة وعمره لا يتجاوز 20 ربيعا ليكون بعد سنوات أول من رفع راية الاستقلال ببلدية ميلة، حيث يعتبر من أبطال الثورة الذين حملوا لواء العلم والسلاح، لاستعادة الاستقلال فتحمل مشقة الجبال وقساوة المدينة، فقد كان من بين القلائل الذين واصلوا دراستهم في تلك الفترة.
ولد عبد المالك بولمرقة، بمدينة ميلة، في 29 سبتمبر 1936، أين ترعرع وسط أسرة ثورية لطالما آمنت بالثورة والجهاد من أجل استرجاع السيادة الوطنية وهي التي كانت سنده لمواصلة الدراسة بمدينة قسنطينة والالتحاق بصفوف المناضلين بالجبل.
بدأ مساره التعليمي بالمدرسة الابتدائية بن عميرة الواقعة بقلب المدينة، كان يدرس تحت إمرة أساتذة فرنسيين، و رغم أنه كان ممنوعا من دراسة اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم، غير أنه أصر على تعلم العربية وحفظ كتاب الله، ويروي لنا المتحدث، أنه ذات مرة ألقي القبض عليه وزميل له يدرسون اللغة العربية داخل أحد أقسام المدرسة من طرف المدير يدعى «ديالوا»، مؤكدا أنه ورغم الحصار والضيق المطبق عليهم، غير أنه لم يستغن عن تعلم لغته الأم، حيث كان يتوجه باكرا إلى المسجد الموجود بوسط المدينة المعروف حاليا بمسجد مبارك الميلي قبل أن يذهب إلى المدرسة.
و عن كيفية التحاقه بالثورة المجيدة بميلة، يروي المجاهد عبد المالك بولمرقة، الحادثة التي ظلت عالقة في ذهنه بعد إضراب الطلبة في 19 ماي 1956 بقسنطينة وحجم العذاب الذي تعرض له ساكنة المنطقة من طرف العسكر والمستوطنين إثر مقتل محافظ الشرطة الفرنسي آنذاك، وقال عمي عبد المالك، بأنه كان يدرس في تلك الفترة بمدينة الجسور المعلقة وبالتحديد بالثانوية العصرية والتي تسمى حاليا ثانوية يوغورطة، و بعد مشاركته في إضراب الطلبة قرر مباشرة الصعود إلى الجبل، حيث أدرك وأيقن أن الثورة تتطلب وجود إطارات بها وشباب متعلمين ذوي كفاءة للمساعدة ولو بشيء قليل، وقال إن إضراب الطلبة في ذلك الوقت كان لديه صدى وإسهامات كبيرة للثورة لأنه بعد الإضراب تم توزيع الطلبة على عدة ولايات حسب احتياجاتها لخدمة الثورة والمجاهدين في عديد المجالات على غرار المجال الصحي والثقافي والمجال الاتصالي، مؤكدا أنه قام بعدها «بالاتصال بأحد الأصدقاء بالجبل كي يسهل عملية التحاقي بهم، وبعدها بأيام أرسلوا لي رسالة يقولون فيها (نحن في حاجة إلى بقائك في المدينة وإمدادنا بمعلومات حول المستعمر وإن كانت لنا حاجة لك سنتصل بك» وبقينا على تواصل منذ تلك الفترة.
عملت كأستاذ قبل صعود الجبل
و يواصل المجاهد بولمرقة سرد شهادته قائلا «بعد إضراب الطلبة عدت إلى مسقط رأسي و بقيت على تواصل مع المجاهدين، عائلتي كانت من المؤيدين لصعودي إلى الجبل وبعد ذلك قررت تدريس التلاميذ بالمدرسة الابتدائية بحكم مستواي التعليمي، و عملت قرابة الشهرين حتى سنة 1957، أين قرر الرفاق صعودي إلى الجبل بمنطقة الشيقارة، حين صعدت التقيت بالعديد من المجاهدين من بينهم المجاهد المرحوم لخضر بن قربة، وفي فترة وجودي بالجبل قرابة سنة وأنا أقوم بتعليم العسكر فنون استعمال السلاح وكذلك التواصل فيما بينهم بالإضافة إلى كلمات السر بحكم أنني كنت المسؤول عن الاتصالات، و في 13 فيفري 1958، قرر الأعضاء إرسال 12 مجاهدا من ذوي الكفاءة والمتمكنين من اللغة الفرنسية إلى تونس من أجل التدرب في الكليات العسكرية، وتطوير الإمكانيات وقد كنت من بينهم».
«توجهنا في ذلك اليوم نحو القيروان وعند وصولنا إلى الحدود الجزائرية التونسية لم نستطع المرور بسبب الخطين المكهربين (موريس وشال) و العسكر الفرنسي ، وبعد ملاحظتنا أن عبور الحدود لن يكون سهلا توجهنا نحو منطقة آمنة لم أتذكر اسمها بالحدود لكي نستريح ونفكر كيف سنقوم بالخروج من الوطن.
بعد مكوثنا أسابيع في الحدود والذي دام شهرين، تحصل العسكر الفرنسي على معلومات بوجود مجموعة من المجاهدين الجزائريين تستعد لمغادرة الوطن نحو تونس فاشتدت المراقبة وتعرضنا خلالها إلى كمين حتم علينا التفرق، قررت بعدها العودة إلى مدينة ميلة.
نصبت العديد من الكمائن للعدو الفرنسي بجيجل
«عام 1958، تم إرسالي إلى مدينة جيجل، كعضو في القسم الرابع كمسؤول الاتصالات والأخبار، الناحية الثانية، مكثت خلالها عاما بمدينة جيجل، و قمت بتنظيم العديد من الكمائن للعسكر الفرنسي من بينهم كمين راح ضحيته 17 عسكريا فرنسيا في شاحنات قوات الاحتلال بواد كيسير»، و يواصل المجاهد حديثه «العسكر الفرنسي كان يأتي كل صباح من منطقة عوانة إلى مركز واد كيسير، حيث كانوا يقومون بإرسال شاحنات المياه إلى المدينة و كانوا يقومون بحراستها، على إثرها قررنا وضع مجاهد بمنطقة مزغيطان مدة 15 يوما، من أجل رصد كل تحركات الجيش الفرنسي ومراقبته عن كثب، أين أسفرت العملية بعدها عن قتل سبعة عشر جنديا من ثمانية عشر الذين كانوا على متن الشاحنة ماعدا جندي أسود البشرة لاذ بالفرار»، مشيرا أنه قام بتنظيم العديد من العمليات، قبل أن يعود إلى مدينة ميلة.
و في سنة 1959، يقول عمي عبد المالك «تم تحويلي إلى مدينة ميلة، حيث كنت عضوا في القسم الثالث، على رأس جهاز الاتصالات والأخبار، وبعدها بأيام من وصولي قررنا التحضير لهجوم بالمنطقة، حيث هاجمنا الثكنة العسكرية الواقعة بمنطقة رجاص، وقد خسرنا مجاهدا في تلك العملية».واصل المجاهد حديثه، مؤكدا أنه كل من كان يأتي إلى هذا المنصب في ذلك الوقت إما يستشهد أو يسجن والاستعمار الفرنسي كان قد قضى على معظم المجاهدين الذين كانوا بمنطقة ميلة آنداك، و من بين المجاهدين الذين صمدوا المجاهد بشير قطيش، الذي قال بشأنه «التقيت به وأطلعني على الوضع ومع مرور الأيام وصل العديد من المجاهدين لإعادة إحياء المنطقة على غرار حريزي عبد الحميد، بونمر صالح، و الهاشمي بن صالح».
«اشتد علينا الحصار في ذلك الوقت من قبل المستدمر الفرنسي، حيث لاحظ إعادة نهوض المنطقة بعد إعادة تشكيل القسم وبداية القيام بالعمليات الفدائية ومهاجمة الفرنسيين من كل الجهات، و في أحد الأيام قام الجنرال الفرنسي بالمنطقة أنداك يدعي «جوليان» بإرسال عساكر للبحث عنا في المدينة، بينما كنا نقوم ببناء مركز للاختباء به داخل بساتين مدينة ميلة القديمة، والتي كانت في ذلك الوقت تحتوي على أشجار كثيرة، و في الأمسية وصلتنا معلومة من المجاهد المرحوم الطاهر المدني المدعو (سلهوب) الذي كان المكلف برصد تحركات العدو».
«بعدها قمنا بتكثيف الاجتماعات مع المجاهدين ومن بين الذين كانوا يحضرون اجتماعاتنا المرحوم مولود عليوش، دهامشي عبد الحفيظ، حيث كانوا يقومون بتجمعات لوضع خطة تمكننا من الوصول إلى المراكز العسكرية بالمنطقة والبحث عن كيفية الحصول على السلاح». ويؤكد عمي عبد المالك «جاء الفرج في يوم ماطر استطعنا خلاله الوصول لأحد الأشخاص لكي يقوم بتزويدنا بالذخيرة وفي تلك الفترة كان السلاح غير متوفر بسبب تشديد الاحتلال والرقابة على الثورة خاصة بعد وضع خطي شال وموريس، فاضطررنا إلى الإكثار من الهجمات على العدو للحصول على الأسلحة، بعدها قررنا التوجه إلى مركز صناوة الذي كان فيه الجنرال (فوالو) والذي كان يحتوي على عدد كبير من الأسلحة، وعند تحديدنا موعد الهجوم على المركز وصلنا خبر بتوجه الجيش الفرنسي إلى البحث عنا للقضاء علينا وذلك بعد خيانتنا من طرف أحد الحركى الذي كان قد أخبرنا عن الأشياء الموجودة بالمركز والحراس وما يتعلق بهم، فبدأت تحركات العدو أين حصلوا على معلومات أن المجاهدين لديهم مركز ببساتين ميلة القديمة، فقاموا بقطع كل الأشجار لإسقاط المخبأ، وقد كانت من بين العمليات الفاشلة التي لم ننجح في تطبيقها، وكانت عواقبها وخيمة على المنطقة ككل».وأضاف المجاهد أن «عددنا كان حوالي 1200 عسكري بالقسم الثالثة (ولاية ميلة حاليا) بقي منهم 72 عسكريا». وفي نوفمبر 1961، «تم تنصيبي بالناحية الثالثة، المنطقة الثانية، الولاية الأولى، عضوا بجهاز الاتصالات بمنطقة جميلة بسطيف، وتم وضع مكاني المجاهد حريزي عبد الحميد المدعو (الحومادي) بمنطقة ميلة». يدعو المجاهد، الشباب والأجيال الجديدة اليوم إلى المحافظة على البلاد، مؤكدا بأن الاستقلال لم يقدم مجانا، بل هو ثمرة تضحيات كبيرة لنساء ورجال وكل أطياف المجتمع الذين حملوا في قلوبهم حب الوطن وتركوا كل شيء لتحريره من الاستعمار الفرنسي الغاشم. مكي بوغابة