* الجزائر كانت في أغلب المراحل التاريخية فاعلة في الأحداث وصانعة لها
أكد الدكتور لزهر بديدة، أستاذ باحث في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر بقسم التاريخ جامعة الشهيد حمة لخضر بالوادي، أنه من الضروري الحرص على إبراز المحطات المضيئة، وهي الأكثر في تاريخنا ومنه تاريخ الثورة التحريرية المباركة، وقال إنه يجب أن نكون فخورين بتاريخنا ما له وما عليه، لأننا كنا في أغلب المراحل التاريخية فاعلين في الأحداث وصانعين لها، لافتا إلى أهمية العمل على توحيد الباحثين في التاريخ الوطني في هيئات ومؤسسات علمية موحَدة وقال إنه انطلاقا من تجربة الثورة التحريرية،
يجب أن نلتقط اللحظة ونستفيد من التناقضات التي يعيشها العالم اليوم ونستثمر فيها لمصلحة البلاد وأن نستفيد من دبلوماسية قيادة الثورة.
أجرى الحوار : مراد – ح
النصر : تحيي الجزائر الذكرى 68 لاندلاع الثورة التحريرية في ظل مستجدات و وضع دولي متغير، كيف يمكننا الاستفادة اليوم من أبعاد الثورة لمواجهة التحديات القائمة؟
لزهر بديدة : عند العودة إلى المرحلة التي اندلعت فيها الثورة، وهي مرحلة ما بعد الحرب الإمبريالية الثانية، وتحديدا سنوات الخمسينات، نلاحظ أن قيادتها (جبهة التحرير الوطني)، التقطت اللحظة التاريخية، إذ كان العالم حينها يعيش مضطربا ومستجدات متسارعة، تُشابه ما نعيشه اليوم، وكانت هناك ازدواجية القطبية، فالصراع كان على أشده بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك جليا فيما يعرف بأزمة الكوريتين والفيتنام، التي انهزمت فيها القوات الفرنسية شر هزيمة في معركة ديان بيان فو في شهر ماي 1954، إضافة إلى التحولات الإقليمية ومنها السلطة الجديدة في مصر التي تبنت الدفاع عن القضايا العربية ومنها القضية الجزائرية، والحراك الكبير الذي كانت تعيشه كل من المغرب الأقصى(مراكش) وتونس في مواجهة الاحتلال الفرنسي.
علينا أن نستفيد من التناقضات التي يعيشها العالم اليوم
واليوم هناك صراعات دولية حادة تهدد فعليا الأحادية القطبية التي عرفها العالم منذ تفكيك وسقوط الاتحاد السوفياتي مع نهاية القرن العشرين، وهذه القيادة الأحادية للعالم من طرف الولايات المتحدة، ونظرا لما جرى ويجري في المعمورة خلال السنوات العشر الأخيرة، من مستجدات جيو سياسية وعسكرية واقتصادية.. نرى أنها أصبحت من الماضي ونحن أصبحنا نعيش واقعيا مرحلة الانتقال الفعلي من مرحلة هيمنة القطب الواحد(الغربي بقيادة الولايات المتحدة)، إلى عالم متعدد الأقطاب وقد يكون الشرق (الصين روسيا وبعض دول العالم الإسلامي) من أبرز أقطابه، وعليه وانطلاقا من تجربة الثورة يجب أن نلتقط اللحظة ونستفيد من التناقضات التي يعيشها العالم ونستثمر فيها لمصلحة البلاد سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا، وأن نستفيد من دبلوماسية قيادة الثورة، التي كانت تقدم مصلحة الجزائر أولا وترفض بشكل حازم وقطعي التدخل في شؤونها كيفما كان ومن أي طرف كان، والتعامل بندية مع مختلف الدول، في إطار الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي كان، ولتحقيق هذا المبتغى كانت الثورة تعمل وباستمرار على تقوية وتمتين الجبهة الداخلية (ثقافيا واجتماعيا وسياسيا..). وهذه الرؤية هي التي يجب علينا كجزائريين سلطة وشعبا أن نستفيد منها في هذا السياق.
النصر: انطلاقا مما سبق فيما تتمثل رؤية الثورة للعلاقات الإقليمية والدولية؟
لزهر بديدة : لقد حددت الثورة ومنذ البداية وانطلاقا من تجربة الحركة الوطنية في العمل الدبلوماسي رؤيتها للعلاقات الدولية والإقليمية على حد سواء، إذ وبالعودة إلى المواثيق والأدبيات المختلفة للثورة التحريرية، منذ بيان أول نوفمبر الذي نعتقد أنه وضع الخطوط العريضة للعمل الدبلوماسي وللعلاقات الخارجية، نجد أن الثورة بنت وطرحت فلسفتها السياسية والدبلوماسية على أربعة ركائز هي:
1 -البساطة والوضوح في الهدف، ألا وهو استرجاع السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة. واليوم نقول بالسيادة الكاملة في القرار السياسي والثقافي والاقتصادي...
2 - بناء مؤسسات قوية ومتماسكة تعبر عن قوة و وحدة الموقف الجزائري، داخليا وخارجيا (مؤسسات عسكرية وسياسية وإعلامية ونقابية واجتماعية...)
3 - التواجد الدائم في مختلف الجبهات والميادين الداخلية والخارجية، وحسن تشغيلها وتفعيلها وإدارتها، وحسن استغلالها لصالح القضية الجزائرية.
4 -الثبات على المواقف المبدئية للثورة والصبر والإصرار على تحقيق الأهداف والمطالب التي حددتها مواثيق الثورة بداية من بيانها الأول (بيان أول نوفمبر). وهنا نؤكد على أن العمل الدبلوماسي ليس مرتجلا أو متسرعا في منطلقاته أو أهدافه ولأنه شاق ومضني يحتاج إلى التحلي بصبر كبير وثبات راسخ.
وهذه الفلسفة والرؤية البسيطة والعميقة في آن واحد، يجب أن تكون متناسقة ومتكاملة في الآليات والوسائل وأن يكون هدفها وغايتها واحدة ألا وهي، العمل على جعل الجزائر بلدا قويا ومُهابا على جميع الصُعد وله مكانته إقليما ودوليا، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، وحتى يحقق العمل الدبلوماسي ثماره، يجب أن يكون مسنودا بجيش قوي واقتصاد قوي كذلك وقبل ذلك وبعده بمجتمع متماسك مترابط ومتحد خلف قيادته.
وهذه القواعد أو الأسس الأربع يجب أن تكون نصب أعيننا على الدوام، حتى نحقق أمانة الشهداء من الأجداد والآباء وعلى طول مقاومتهم للمحتل الفرنسي.
النصر: كيف كان للثورة الجزائرية علاقتها وتأثيرها على الدول والشعوب المستعمرة؟
لزهر بديدة : هذه النقطة يجب أن نستثمر فيها كذلك وعلى جميع المستويات، خاصة سياسيا واقتصاديا، وأن نكشف في كتاباتنا التاريخية، فقد كانت علاقات الثورة بهذه الشعوب المستعمرة والدول المستضعفة متميزة، وقد كان ذلك واضحا في بيان أول نوفمبر وفي مختلف المواثيق الأخرى للثورة، ومنها العمل الدبلوماسي والميداني لقيادة الثورة، من خلال الكشف عن أهداف وغايات الثورة، وأنها تريد أن تحرر ثنائية الإنسان (كيفما كان هذا الإنسان معتقدا أو جنسا أو لونا) والأرض معا، من مختلف أشكال الاستعمار والاحتلال، وأن تعيد للأول حريته واستقلاله، وتجعل الثانية (الأرض) في خدمته وخدمة وطنه لا في خدمة المحتل أو الاستعمار مهما كان شكله أو لونه.
علاقات الثورة بالشعوب المستعمرة والدول المستضعفة متميزة
ونظرا لمبادئها الراقية وكفاحها العادل في وجه المحتل الفرنسي، الذي كان أبشع احتلال عرفته البشرية في القرون الحديثة والمعاصرة، والتضحيات التي قدمها الشعب الجزائري للتخلص من هذا الاحتلال واسترجاع سيادته واستقلاله والتي كان صداها يصل إلى هذه الشعوب والدول في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فقد قدمت النموذج الأمثل في التضحية والصمود، وكانت مضرب المثل في الأوساط الشعبية والسياسة والنقابية والإعلامية.
وكانت ملهمة للكثيرين للثورة والانتفاضة على الاستعمار والظلم والاستبداد، فكانت بمنجزاتها وأفكارها وروحها حاضرة في مختلف الخطب والمنابر السياسية والأدبية والدينية.. وكانت الجزائر بعد استرجاع سيادتها قبلة للثائرين وقيادات حركات التحرر ومن مختلف القارات...
كل محطات الثورة الجزائرية هامة
النصر : ننتقل إلى ملف آخر ألا وهو محطات الثورة، فقد عرفت هذه الأخيرة العديد من المحطات المختلفة، والتي قد لا تكون متشابهة فيما بينها، فأي المحطات ترونها تمثل منعرجا حاسما في مسارها؟
لزهر بديدة : الثورة الجزائرية وكأي حركة ثورية عرفت العديد من المحطات في مسارها، خاصة وأنها دامت أكثر من سبع سنوات، وكانت في مواجهة قوة عاتية هي فرنسا ومن خلفها الحلف الأطلسي، وهذه المحطات متشابهة في جوانبها السياسية والعسكرية والتنظيمية...وقد تكون متشابهة أو غير متشابهة وذلك بحسب ما تقتضيه المعطيات والظروف، لكنها متكاملة بالضرورة في خدمة أهداف الثورة الكبرى، وإذا قسمناها بالسنوات فمرحلة الانطلاقة والثبات والصمود في الميدان كانت ضرورية، ومرحلة التنظيم والانتشار كان لا بد منها بعد تحقق الأولى، ومرحلة بناء المؤسسات(السياسية والإدارية والعسكرية والثقافية...) في الداخل والخارج لم يكن بالإمكان الوصول إليها إذا تم القفز على مرحلة التنظيم والانتشار، وهي المرحلة التي تلتها مرحلة الحراك الشعبي في المواجهة مع السلطة الفرنسية والمفاوضات معها، والتي لم يكن ممكننا الوصول إليها بدون مؤسسات قوية ومتماسكة ومؤثرة، إذن فكل محطات الثورة هامة ولا يمكن القول بأهمية هذه وقيمتها عن الأخرى، فهذا القول تروج له الكتابات الفرنسية التي تركز على محطات دون غيرها لتقول بعدم انسجام الثورة وتكاملها، وأنها كانت بمثابة الخبط عشواء؟؟؟ دون أن ننكر كبشر أولا وباحثين ثانيا أن العمل البشري ومنه الكفاح المسلح للجزائريين في ثورتهم التحريرية، يمر بمرحلة القوة أحيانا والضعف والتراجع حينا، والرتابة والجمود كذلك، لكن الإيمان بعدالة القضية والإرادة في استرجاع الحق المستلب واليقين بإمكانية تحقيق ذلك هي من تصنع الفارق بمعونة المولى عز وجل.
الخلافات أمر طبيعي في ثورة بحجم الثورة الجزائرية
النصر : وعليه كيف تنظرون إلى تطور المسار الذي عرفته الثورة وبعض الخلافات التي سُجلت خلالها؟ وماذا عن استراتيجية الثورة لتحقيق النصر؟
لزهر بديدة : المسار الذي عرفته الثورة، هو مسار طبيعي لكفاح شعب عانى الويلات والظلم بعدما تم العدوان عليه، وإلغاء الدولة وتهميش المجتمع، وهنا نذكر أن الثورة حققت في حينها معادلة كانت من قبيل المستحيلات حينها، ألا وهي أن قلبت الأمر على السلطة الفرنسية التي كانت تمثل بعبعا للجزائريين وإرهابهم، فأصبح هؤلاء وبفضل هذه الثورة المباركة من يخيف فرنسا ويدخلها في حالة من الرعب والشك واليأس، وبعدما تمكنت فرنسا من جعل الجزائري على هامش التاريخ أو تكاد، جاءت الثورة لتجعل منه صانعا للتاريخ وفاعلا فيه، وهذا هو المسار الأساسي للثورة والذي قلب كل المعادلة من النقيض إلى النقيض، وباقي المسار هو عبارة عن تفاصيل توضع في سياقها و وفقا لظروفها ومعطياتها وبين يدي المختصين من الوطنيين لا عموم الدهماء.
أما عن الخلافات فالأمر طبيعي في ثورة بحجم الثورة الجزائرية وتشابك وتعدد الفاعلين في مجرياتها والحقبة الزمنية التي عاشتها وظهرت فيها، وهي قبل ذلك وبعده ثورة بشر لا ثورة ملائكة، وبالتالي فإن الخلافات والاختلافات بكل الأشكال والأحجام وعلى مختلف المستويات، كان لا مفر من الوقوع فيها، لكن البارز هو قدرة الثورة وحكمة قادتها في تجاوز تلك الخلافات والوصول بالكفاح المسلح على خواتمه التي رسمها بيان أول نوفمبر وهي استرجاع السيادة الوطنية بشكل كامل بما في ذلك وحدة التراب الوطني و وحدة الشعب الجزائري خلف جبهة التحرير الوطني، والتركيز على الخلافات هو ما تصبو إليه مدرسة التاريخ الاستعماري، التي كان ولا يزال ديدنها على هذا الملف وتقديمه وكأنه هو القاعدة والمتن في الثورة الجزائرية والباقي هوامش وإحالات، وبالمناسبة هنا هذه المدرسة ومن خلفها من السلطات الفرنسية كانت ولا تزال وستبقى كما أعتقد، لا تقف عند الماضي الاستعماري الأسود لفرنسا في الجزائر إلا فيما ندر، وحتى ما ندر تعطي له القراءة التي لا تُجرم فرنسا وتساوي بين الجلاد والضحية...إننا لا نهرب من الكشف عن الخلافات التي عاشتها الثورة الجزائرية الكبرى والوقوف عندها، ولكننا وبعد أن نجمع كل المعطيات ونضعها في أيدي جزائرية علمية آمنة وموضوعية، هدفها إظهار الحق والحقيقة ومن دون إثارة الفتن والقلاقل، يجب أن نختار الكيفية والزمان والمكان والسياق لذلك، فالتاريخ من حق الجميع أن يطلع عليه، بعد المعالجة والمراجعة، وهذه المعالجة أو التشخيص ليست متاحة لكل من هب ودب، بل لها مؤسساتها وأهلها وخاصتها المنشغلون بها.
استراتيجية تحقيق النصر تمثلت في الإرادات لا الإمكانيات
أما عن استراتيجية تحقيق النصر، فقد تمثلت في الإرادات لا الإمكانيات، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تقارن بين فرنسا والثورة، ولكن الأولى كانت فارقة وفاصلة في صنع الفارق، وضريبة استرجاع الحرية مهما بلغت، أقل تكلفة من ثمن المسخ، الاستعباد والإذلال... وهذه الاستراتيجية بسيطة ومعقدة في نفس الوقت، وهو ما أربك الاستعمار ومن والاه، وكانت نموذجا يحتذى به في مختلف الثورات وحركات التحرر ومنها ما وقع ويقع اليوم في فلسطين المحتلة في مواجهة الكيان الصهيوني...، وهي قائمة على الإيمان بالذات وأن الشعب الجزائري سيحتضن الثورة، إلى جانب الإيمان بإمكانية تحقيق النصر أولا، وعلى القدرة على الصمود والثبات وفي كل المواقع والمواقف ومهما كانت الظروف ثانيا، وثالثا وهو الأهم على الاستعداد للتضحية بالنفس والنفيس في سبيل تحقيق إحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة في سبيل الله والوطن، والقاعدة العامة لهذه الثلاثية التي آمن بها مجاهدو الثورة وبمختلف المستويات وفي كل المواقع هي: أن نعيش على هذه الأرض المباركة سعداء كرماء، أو ندفن تحت ثراها الطيب شهداء، وهذه المعادلات البسيطة والمركبة في آن واحد، ليس من السهل مواجهتها أو التحكم فيها بشكل يحدد من تأثيراتها وانعكاساتها، لأنها تعتمد في الأساس على الإنسان بحد ذاته، وعلى إيمانه وروحه وقناعاته و قدراته الذاتية لا على الإمكانيات المادية...
كل مراحل التاريخ الجزائري تحتاج إلى المزيد من الكتابة والبحث
النصر: يرى مؤرخون وباحثون أن الثورة الجزائرية بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة، لإبراز أهمية تأثيراتها المختلفة وتسليط الضوء على بعض الجوانب، ما رأيكم؟
لزهر بديدة : في هذه النقطة يمكن أن نقول أن المزيد من الكتابة والبحث لا ينطبق فقط على الثورة التحريرية، فكل مراحل التاريخ عموما، الجزائري خصوصا تحتاج إلى ذلك، فما بالك بمرحلة الثورة التي نتكلم عن ذكراها الثامنة والستين، فهي لا تزال وإلى أمد طويل مثار الكثير من الدراسات والبحث، نظرا لما عرفته من أحداث ومعطيات ووقائع وعلى مختلف المستويات، بما أنه ونحن نتكلم في سنة 2022، نذكر أنه وحتى هذه الأثناء ظهرت الكثير من الكتابات والدراسات، مع التذكير أن جزءا كبيرا من تلك الكتابات من مذكرات وشهادات حية للفاعلين في الثورة لا تُعد ضمن الدراسات ولكنها مادة مصدرية هامة توضع بين أيدي باحثين وطنيين، وهذه الكتابات المختلفة وبالرغم من الإشادة بها إلا أنها تحتاج إلى المراجعة والنقد والتثمين حتى نعرف ماذا كتبنا وكم و كيف كتبنا؟، وبعد التقييم والإثراء يمكن التوجه لاحقا إلى المزيد من الكتابات الأخرى وبرؤية تحمل الروح الموضوعية والعلمية، وقبل ذلك وبعده الروح الوطنية.
وبما أن الثورة كل متكامل في الأهداف الغايات والوسائل وهي ذات أهمية ودلالات كبيرة محليا وخارجيا وسياسيا ودبلوماسيا واجتماعيا وثقافيا وعسكريا واقتصاديا وإعلاميا، وعليه يجب دراستها بالصفة الإجمالية والكلية، لا تسليط الضوء على جانب دون آخر، لأن هذا يمثل منقصة لها، وهو ما قد يؤدي بنا إلى الوقوع في فخ المدرسة الاستعمارية التي تريد تجزئة تاريخنا والقول بأهمية جانب على آخر وجهة على أخرى وهذا على ذلك، وهكذا تكون قد أدخلتنا إن لم ننتبه في دوامة الجزئيات ومنها الخلافات والصراعات وحتى التباينات للقول أن تاريخ الثورة جُله يدور في هذه الحلقات وفي هذه المتاهات، فعلينا أن نكون أشد حذرا من الوقوع في هذه المصيدة، وأكثر حرصا على إبراز المحطات المضيئة، وهي الأكثر في تاريخنا ومنه تاريخ الثورة التحريرية المباركة بالتضحيات الجسام للجزائريين بمختلف شرائحهم ومستوياتهم وجهاتهم، وهذا لا يعني عدم التطرق لبعض المحطات المظلمة أو السلبية في تاريخنا، وهذه وتلك نقف عندها بروح المسؤولية والإدراك والوعي ولا نخرجها عن سياقها التاريخي والإنساني، ونعمل على الاستفادة من ما تحمل من الإيجابيات والسلبيات التي شهدها تاريخنا كباقي الأمم والشعوب...
النصر : وماذا تقولون بخصوص الجهود المبذولة لكتابة التاريخ؟
لزهر بديدة : هناك وبلا شك جهد مبذول من طرف الجزائريين لكتابة تاريخهم ومنه تاريخ الثورة التحريرية، لكنه جهد يحتاج إلى المراجعة والتقييم المستمر والدائم كما سلف الذكر، حتى نصل إلى تحقيق المبتغى، وهو كتابة تاريخنا بأقلام جزائرية وروح وطنية، كما نحتاج إلى بنك معلومات موحد عن مختلف هذه الكتابات الموجودة في الداخل والخارج ولما لا إعادة طبعها، و على السلطة مرافقة الباحثين وذلك من خلال تسهيل الوصول إلى الأرشيف الخاص بتاريخنا الطويل ومنه تاريخنا المعاصر والمتواجد في الداخل وفي عديد من دول العالم بمختلف القارات.
ومما يحتاجه الباحث في التاريخ تشجيع معنوي ومادي محفز، وفتح مختلف المنابر أمامهم على حد سواء، لأنه ومن دون هذا التشجيع وهذا التحفيز ليس متاحا أمام أغلب الباحثين الوصول إلى المصادر الحقيقية لتاريخنا وطبع مؤلفاتهم، وحتى نغلق الطريق أمام المتربصين بنا ومحاولتهم الـتأثير على الباحثين الجزائريين من هذا الباب، وهذا الجهد حتى يؤتي ثماره يجب العمل على توحيد الباحثين في التاريخ الوطني في هيئات ومؤسسات علمية موحَدة ومُوحدة...
التاريخ يجب أن يكون حاضرا في مؤسساتنا التعليمية والتربوية
النصر : وماذا تقولون عن أهمية التاريخ وخاصة تاريخ الحركة الوطنية ، الثورة التحريرية في المدرسة والمجتمع وتكوين الناشئة؟
لزهر بديدة : هناك الكثير من العلماء والمفكرين ومن عديد التخصصات الدينية والاجتماعية والإنسانية، ومنهم العاملون في حقل البحث التاريخي، يؤكدون على أن التاريخ بما يحمل من أحداث ومعطيات وانتصارات وانكسارات، ونهوض وسقوط...، يندرج ضمن أساسيات تربية الفرد والمجتمع على حد سواء، وبقدر استيعاب التاريخ وفهمه وهضمه والعمل به في حياتنا ويومياتنا كأفراد ومجتمع ومؤسسات وهيئات وطموحاتنا وآفاقنا، بقدر ما نتوصل إليه من نتائج في هذا السياق من اعتزاز وقوة وتماسك، والتاريخ يجب أن يكون حاضرا في مؤسساتنا التعليمية والتربوية المختلفة(المدرسة والجامعة والمسجد ودور الثقافة والرياضة...) وبنظرة وطنية، وأن يقدم لعموم المجتمع من الصغير إلى الكبير ومن المثقف والعارف إلى الأمي والبسيط، الغني والفقير وبمختلف المستويات والشرائح، مكتوبا ومسموعا ومرئيا، ومن على مختلف المنابر، وفي كل المحطات والمناسبات وغير المناسبات، حتى يكون حالة يعيشها ويدرك مغزاها الجميع بدون استثناء، وبذلك نضع تاريخنا بما يحمل من الإيجابيات والسلبيات بين يدي المجتمع والدولة وعلى منواله يعملان... علينا أن نعلم الناشئة خصوصا وبقية المجتمع عموما، أن التاريخ ليس ماضي نتذكره في المناسبات ونقيم له المهرجانات والولائم أو نقف عند الأطلال فيه وفقط، بل حالة نعيشها في أدق تفاصيل حياتنا، وهو الذي يضبط إيقاع حاضرنا ويؤسس لقادم مستقبلنا...
النصر: تحتضن الجزائر القمة العربية في موعد تاريخي، ماذا يمكن أن تقول بخصوص البعد العربي للثورة الجزائرية والدعم المقدم من قبل الدول والشعوب العربية؟
لزهر بديدة : أولا يجب التذكير والتأكيد على أن الجزائر ومنذ القدم مرتبطة بالشرق والجنوب والذي تمثل البلاد العربية اليوم جزء أساسي منه، وأن العلاقة بهذه البلاد خلال الفترة العثمانية كانت متميزة تأثيرا وتأثرا وأن العرب شعوبا وحكاما عموما احتضنوا الجزائريين بعد العدوان الفرنسي عليهم العام 1830، وكانت لهم مكانتهم الخاصة، وبها تكونت العديد من النُخب الجزائرية التي كانت لها بصمتها في نضج وتطور الحركة الوطنية بمفهومها الثقافي والسياسي والإعلامي والاجتماعي والعسكري، ومن المحفزات الأساسية لاندلاع الثورة هو تأكد قادتها من أن الحاضنة العربية، ممثلة في بعض النظم الحاكمة ومنها النظام المصري بقيادة جمال عبد الناصر، وكذا الشعوب العربية متوفرة في تلك الأثناء، وهو ما جعل الثورة في بيانها الأول تؤكد على بعدها الطبيعي العربي الإسلامي، وعلى عمق علاقتها بهذا البعد والعمل على توفير الظروف لإعادة اللحمة له بعد التخلص من الاستعمار وبقاياه.
الثورة كانت واقعية في نظرتها للواقع العربي
ثانيا وهو مهم كذلك، هو أن البعد العربي والإسلامي للثورة الجزائرية كما هو البعد الإنساني والعالمي، كان واضحا في مواثيقها وأدبياتها وعلى مختلف مراحلها ولم يتغير هذا البعد مطلقا بتغير القيادات والمؤسسات، وبقي من ثوابت الثورة، وكانت الثورة واقعية في نظرتها للواقع العربي، الذي كان يعاني من ضغوطات وتحديات مختلفة ومن تأثير الاستعمار عليه، ومدركة لذلك فكانت تطلب الممكن وتعمل عليه، وكانت تأمل في تحقيق آمال شعوب هذه البلدان بالتحرر والوحدة، التي تنطلق من الجزء لتصل إلى الكل، بمعنى العمل على تحقيق وحدة المغرب العربي لتمهد الطريق للوحدة العربية لاحقا.
وإذا كانت هناك اختلافات وتباينات بين العرب باختلاف ظروفهم ومعطياتهم، فإنهم في المجمل كانوا متحدين في توفير مختلف وسائل الدعم والمؤازرة للثورة الجزائرية، إن على المستوى الرسمي للحكومات أو الشعوب، فكان هذا الدعم معنوي ومادي، سياسي ودبلوماسي وعسكري وإعلامي واقتصادي وثقافي، كل بحسب إمكانياته وطاقته وظروفه، وقيادات الثورة ومؤسساتها، ومن على جميع المنابر كانت تقدر وتُثمن عاليا هذا الدور وتثني عليه اعترافا بالجميل.
وقد كانت الثورة تحظى بهذا التقدير والاحترام في البلدان العربية شعبيا ورسميا، لأنها كانت تحترم خصوصيات كل بلد وترفض أن تنحاز لطرف ضد آخر، أو التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، بالمقابل لا تسمح لأي كان بالتدخل في شؤون الثورة من قريب أو بعيد، وأنها عامل وحدة بينهم لا عامل فرقة، وأنه يجب أن نعمل جميعا على العوامل الموحدة من تاريخ وجغرافيا وثقافة.. ونستثمر فيها وهي كثيرة، لا على العوامل المفرقة وهي قليلة وفي مجملها من صنيعة الاستعمار. فما يجمع العرب إذ انتبهوا أكثر بكثير مما يفرقهم، وانطلاقا من الآلام والآمال الواحدة لشعوب المنطقة والمشتركات التي جمعت وتجمع بينهم ماضيا وحاضرا، يجب العمل على صياغة موحدة ومتفق عليها للمستقبل الذي يحترم فيه العالم التجمعات والتكتلات الكبرى، خاصة تلك القائمة على أسس صلبة ومتينة...
النصر: كلمة أخيرة بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة.
لزهر بديدة : يجب أن ندرك أولا أن مآثر النضال الوطني وعلى مر التاريخ ومنها مرحلة الثورة التحريرية المباركة، كبيرة جدا وأن إيجابياتها لا تحصى ولا تُعد، وهو ما يشهد به العدو قبل الصديق، وثانيا أن نكون فخورين بتاريخنا ماله وما عليه، لأننا كنا في أغلب المراحل التاريخية فاعلين في الأحداث وصانعين لها، وبناء على ما ذكرنا علينا أن نعمل على التركيز على قيمها ومبادئها وترويجها وعليها نبني رؤيتنا للداخل والخارج، من أجل مجتمع قوي ودولة مهابة، كما كنا في معظم حقب التاريخ فاعلا مرفوعا، لا مفعول به منصوب ومجرور أو مضاف مبني للمجهول.
لا التركيز على الخلافات الجانبية التي هي طبيعية في التاريخ البشري، والتي يعمل الاستعمار المعاصر وأبواقه من باحثين ودارسين في مختلف التخصصات وإعلاميين من مختلف المواقع، على العمل عليها، وذلك من أجل إدخال الشك والريبة في تاريخنا ومن ثم فينا وفي هويتنا وحاضرنا ومستقبلنا وحتى في من نكون أصلا؟ ومن ثمة تفريقنا وإضعافنا والتحكم في مصائرنا....أنظر مثلا للثورة الفرنسية التي كنا أول من ساندها وقدم لها مختلف أنواع الدعم المادي والمعنوي، ألم تسل فيها دماء كثيرة ومؤامرات خطيرة وتجاوزات عديدة كادت تعصف بها وبمشروعها؟ إنهم، وأقصد هنا المؤرخون الفرنسيون ومن سار على دربهم، يمرون على كل هذه المراحل المظلمة من التاريخ الفرنسي مرور الكرام وكأنها لم تكن؟ وبالمقابل يركزون على ما قدمته هذه الثورة للإنسانية من مُثل وقيم يمكن أن نقول حولها الكثير؟؟.
وإذا تعلق الأمر بتاريخنا كان الأمر على العكس، فهم يريدون منا أن لا نقف عند المحطات المنيرة واللامعة في تاريخنا وخاصة تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وإذا كان لنا ذلك فنمر عليها مر الكرام، على أن نقف وفقط عند الزلات والهفوات والصراعات... شرحا وتحليلا وتفصيلا وكأن تاريخنا هو ذلك؟ وهذه مغالطات كبرى علينا الحذر منها، والتأكيد على أن تاريخنا بما فيه وما عليه، هو أولا وأخيرا المرآة العاكسة لهويتنا وشخصيتنا وبقدر إدراكنا لذلك أو عدمه، يتقرر أن نكون أو لا نكون، وعلى ذلك نبني تصورنا للحاضر والمستقبل وموقعنا منهما وفيهما...