تحافظ مطحنة الشط الكائنة بقلب قسنطينة العتيقة، على ذاكرة المدينة و تاريخها ، و رغم مرور أزيد من 70 سنة على انطلاق نشاطها، فهي لا تزال قائمة بنمط عمرانها القديم و عبق التراث الذي يعيدك إلى زمن المدينة القديمة بأزقتها و شوارعها الضيقة، قبل أن يطالها الإهمال و الانهيار.
بين أزقة المدينة القديمة، و بالتحديد قبالة أدراج السلالم المؤدية إلى زنقة الدباغين، تقع مطحنة الشط ذات الباب العتيق و ينبعث منها صوت المطاحن و روائح الحبوب و البهارات التي تعبّق المكان.
روبورتاج : هيبة عزيون
المطحنة لا تزال شامخة، رغم مرور الزمن و الأجيال التي تعاقبت عليها، لتمد جسور التواصل بين الماضي و الحاضر، في صورة تثير فيك الكثير من الفضول لمعرفة خبايا المكان الذي يقصده المئات سنويا، من داخل الولاية و خارجها و حتى من خارج الوطن.
من منزل تركي إلى مطحنة بلمسة نسائية
كان المكان الذي تقع فيه مطحنة الشط بحي السويقة بقسنطينة يضم في الأصل بناية تركية شيدت سنة 1830 ، كما قال مسير المطحنة شوقي بلحي، لتتحول إلى إسطبل للمواشي و تخزين الفحم ، و في سنة 1954 حول جده رابح بلحي المكان إلى مطحنة، أطلق عليها مطحنة الشط ، و منذ ذلك الحين بدأت المطحنة نشاطها في طحن الحبوب ، على غرار القمح و الشعير، و هي مطحنة حجرية كبيرة، كانت تعمل بها النساء و يقمن بغربلة مختلف الحبوب على غرار القمح ، الفريك و البسيسة و غيرها.
و تعتبر أقدم مطحنة بقسنطينة و ربما الوحيدة التي لا تزال تحافظ على نشاطها، و قد توارثها الأبناء و الأحفاد الذين لا يزالون يعملون بها إلى غاية اليوم، كما أكد شوقي بلحي مسير المطحنة و حفيد مالكها الأصلي، مضيفا أن العائلة أبت التخلي عن مطحنة الشط التي تعد جزءا من تاريخ الولاية، و رمزا من رموز هويتها ، و قد تعاقب عليها لحد اليوم، ثلاثة أجيال من عائلة بلحي .
و قررت العائلة عدم إدخال آية تعديلات على المكان، سواء في ما يتعلق بطابعه العمراني من أقواس و أعمدة حجرية ، و حتى الطلاء لم يتم تغييره لحد اليوم، و لا تزال المطحنة الحجرية موجودة كشاهد على تاريخ المكان ، في حين عوضت آلات الطحن العصرية و آلة الغربلة أيادي النسوة في تصفية دقيق مختلف الحبوب، فيما فتحت العائلة فرعا جديدا للمطحنة بالمدينة الجديدة علي منجلي التي تعرف توسعا عمرانيا كبيرا.
ارتباط روحي بين أهل قسنطينة و المطحنة
دخلنا المطحنة في أول أيام رمضان، فوجدناها مكتظة بالزبائن القادمين من كل حدب وصوب، من أجل اقتناء البهارات أو طحن الفريك الذي يستعمل لإعداد الشربة التقليدية “الجاري”، أما العمال فوجدناهم منهمكين في طحن مختلف الحبوب التي انبعثت رائحتها و امتزجت بالديكور المميز للمكان وسط ضجيج الآلات .
أوضح مسير المطحنة أنها تعمل طوال السنة و تحديدا في موسم الأعراس و المناسبات الدينية و في مقدمتها شهر رمضان الفضيل و الخصوصية التي يكتسيها هذا الشهر عند أهل قسنطينة، الذين يحافظون على عاداتهم و تقاليدهم، رغم التطور و العصرنة ، حيث أكد أن أغلبهم يقصدون المطحنة لاقتناء الفريك أو طحنه، إلى جانب البهارات، و حتى دقيق القمح و أنواع الكسكسي التي تعرض بالمكان.
بعض الزبائن أكدوا لنا أن زيارة المطحنة بالنسبة إليهم تقليد عريق يحافظون عليه منذ القدم ، و قالت لنا سيدة قدمت من المدينة الجديدة علي منجلي إلى المطحنة لاقتناء كيلوغرامات من الفريك لإعداد شربة الإفطار ، أنها لا تشعر بنكهة رمضان إلا عند زيارتها للمطحنة ، مشيرة إلى أنها تحافظ على العادات التي تربت عليها منذ الصغر و كانت ترافق والدها و هي طفلة صغيرة إلى المطحنة .
و أكد شوقي أن مئات المواطنين من مختلف بلديات الولاية و من الولايات الأخرى و حتى من خارج الوطن، و تحديدا المغتربين، يزورون سنويا المطحنة من أجل اقتناء حاجياتهم أو بدافع الفضول للتعرف على المكان.
المكان يأسر الشاب عبد الرحمان
وسط الغبار و رائحة البهارات، وجدنا الشاب عبد الرحمان عاتي، 20ربيعا، و هو طالب بالطور الثانوي، يعمل بكل حب و تفان بالمطحنة ، و قال لنا أنه يمارس هذه الحرفة بعد ساعات الدراسة ، و أكد لنا “سحر مطحنة الشط أسرني منذ سنتين عندما التحقت بالفريق العامل بها، و أشعر بمتعة كبيرة عندما ألج المطحنة و أبدأ في ترتيب أكياس الحبوب و الوقوف أمام المطاحن، و أسمع أصوت الزبائن و أدعية النسوة بعد استلام طلبياتهن” .
و أضاف عبد الرحمان أنه سيواصل العمل بالمطحنة، حتى بعد الحصول على شهادة البكالوريا و الالتحاق بالجامعة، فقد أصبح العمل بمطحنة الشط بالنسبة إليه، شبيها بالإدمان، حسبه، مكسرا بذلك الاعتقاد السائد بين شباب اليوم، بأن العمل يجب أن يكون بالإدارة خلف المكاتب، بعيدا عن الحرف التي يرى أنها محترمة و لها رونقها و خصوصيتها التي تجذب كل من يمارسها فلا يستطيع تركها أو هجرها، كما قال .
هـ /ع