أصبح الفن التشكيلي أقرب إلى أفراد المجتمع في السنوات الأخيرة وذلك بفضل التواصل عبر المنصات التفاعلية بين فنانين و جمهورهم، فهذه المواقع كسرت الجليد ومدت روابط أقوى كما صنعت لهؤلاء المبدعين جمهورا خاصا ووفيا، وهو ما دفع ببعضهم الخروج إلى الشارع للاحتكاك به، عبر التواجد في الفضاءات العامة للاشتغال على لوحات و بورتريهات مباشرة باتت تحظى باهتمام كبير، وتستقطب هواة الفن.
إيناس كبير
وتشكل هذه البروتريهات بالنسبة لأشخاص فكرة هدية خاصة جدا وبقيمة معنوية عالية، فرغم توفر الهواتف النقالة والكاميرات وسهولة التقاط الصور وتخزينها وتداولها، إلا أن لوحة شخصية مرسومة بعناية وبحب بيد فنان تشكيلي أو رسام مبدع تعتبر أكثر قيمة، وتعبر عن كثير من الحب و الاهتمام و الرغبة في التميز.
لفتنا خلال تواجدنا بأحد المراكز التجارية الكبيرة المتواجدة بالمدينة الجديدة علي منجلي بقسنطينة، ازدحام زاوية في رواق، اقتربنا من المكان فاتضح لنا بأن الجمع ملتف حول فنان يقوم برسم لوحات مباشرة وهو ما أثار اهتمام بعض عشاق الفن وفئة من الفضوليين.
كان الناس مركزين مع حركات يد الفنان التي تبدع في رسم «بورتريه» لفتاة صغيرة تجلس قبالته، بدا لنا بأن الأمر سيستغرق وقتا، فقررنا أن نقوم بجولة قصيرة في المركز ثم العودة إلى المكان للحديث إلى الفنان.
بعد مدة قصيرة عدنا إلى نفس النقطة، وقد كان عدد المعجبين قد تضاعف لكن صاحبة اللوحة تغيرت، فقد غادرت الفتاة الصغيرة وحلت محلها سيدة أربعينية.
رغم الضجيج و العدد الكبير للأشخاص الذين التفوا حوله، بدا الفنان مركزا جدا بل ومستمتعا بعمله، انتظرنا حتى أنهى لوحته و تقربنا منه للحديث عن التجربة.
قال الفنان صالح لكبير خريج مدرسة الفنون الجميلة بباتنة، إنه اختار أن يخرج فنه إلى الشارع وأن يحتك بجمهوره بشكل مباشر، وأن يتخذ من ريشته أيضا مصدرا للدخل، موضحا أنه لا يهتم لضجيج الناس فقد تعلم كيف يحافظ على كامل تركيزه في تجسيد لوحاته الفنية التي يتحدث جميع زواره عن جمالها.
أخبرنا، أن أكثر ما يثير دهشة جمهوره هي سرعته في الرسم وكيف تداعب أنامله الأدوات على منضدته، وقد لاحظنا ذلك بالفعل، فحين كان يرسم لوحته الثانية، لم نكد نلمح أصابعه وهي تنتقل من زاوية إلى أخرى و تستبدل قلما بآخر لتبرز التفاصيل وتميز بين الوجوه العديدة التي يرسمها يوميا، وذلك بدليل اللوحات المختلفة التي كانت تزين الركن الخاص به في الرواق.
قال الفنان التشكيلي صالح بلكبير، إنه تخصص في رسم البورتريه منذ ست سنوات، بعد أن كان مهتما باللوحات الزيتية في بداياته، إذ قرر أن يركز على هذا المجال بعدما لاحظ الطلب الكبير على اللوحات الشخصية عند عرضها في المعارض التي يشارك فيها سواء داخل الجزائر أو خارجها.
قال محدثنا، إن «البورتريه» يجذب شريحة مهمة من متابعيه وجمهور، كما يطلب منه رسم الصور على ورق ملاحظات أحيانا، ولذلك فقد اهتدى إلى فكرة النزول بريشته وألوانه إلى الشارع ليقدم خدماته للمهتمين بها، وكانت بدايته من الجزائر العاصمة.
لحظة من السعادة في لوحة
لاحظنا أن الصور التي يرسمها تميل إلى الواقعية خصوصا في جانب بروز تفاصيل الوجه بدقة، كما تُنجز في وقت وجيز، وقد أوضح لنا أنه يرسم على الورق باستخدام القلم الفحمي بدل الرصاص، وهو ما يسمح له بتجسيد معالم دقيقة وواضحة، كما يساعده ذلك في جانب السرعة فاللوحة الواحدة تأخذ منه 20 دقيقة فقط، ثم تسلم إلى صاحبها مباشرة.
وتختلف الأسعار وفقا للرسام، حسب قياسات اللوحة و الوقت المستغرق في رسمها، وأيضا الرواق الذي تُعرض فيه، مضيفا أن أسعار اللوحات الزيتية تتراوح بين 4000 دج و5000 دج، بينما بلغ سعر أغلى لوحة رسمها بقياس 50/65 إلى 40 ألف دينار جزائري، وبالنسبة للـ»بورتريه» المباشر فإن سعر اللوحات يصل إلى 1500دج.وعن فكرة تقريب الفن من أفراد المجتمع، قال إنها راودته منذ سنوات لكنه أجلها، ثم قرر المضي قدما واستئجار مكان ليرسم فيه، ووقع اختياره على أحد المراكز التجارية بقسنطينة، أين وجد راحة في التعامل مع مسؤوليه، فضلا عن الإقبال الكبير من طرف القسنطينيين على لوحاته.
سألنا من تواجدوا هناك عن السر الذي جذبهم إلى لوحات الفنان التشكيلي صالح بلكبير، وجعلهم يقفون ساعات ينظرون إليها أو يرغبون في واحدة مثلها، فعلق نور الدين شاب ثلاثيني قائلا: «جئت بدافع الفضول لأعرف سبب تجمهر الناس حوله، لأجد نفسي أقف لساعات أشاهد طريقة عمل الفنان، وقد جذبني أسلوبه في التعامل مع القلم، وسرعة إنجازه للوحات».من جانبها قالت جميلة وهي سيدة كانت تتطلع إلى اللوحات المعروضة بجانب الفنان، إنها انجذبت لابتسامة فتاة كانت تجلس تنتظر الفنان التشكيلي حتى ينهي رسمها، ثم حملت اللوحة وهي سعيدة ومندهشة في الوقت نفسه من انتقال معالم وجهها إلى الورق، وأعقبت أنها كانت تسأل والدتها بسعادة «أيهما الأجمل صورتها الواقعية، أم المرسومة على الورق».
وقال عبد السلام، وهو شاب في العشرينات، أن نشاط الرسام أضفى على المكان طابعا خاصا وطاقة إيجابية تبعث على السعادة، مضيفا أنه من الجميل رؤية هكذا صور حضارية في شوارعنا.
الفنان يجب أن يحمل رسالة
وعن اختيار ممارسة فن الرسم وسط الناس، قال الرسام إن قانون الفنان الذي أقرته الدولة ساعدهم كمبدعين على الاحتكاك بالمجتمع، والخروج بلوحاتهم من الورشات المغلقة إلى الهواء الطلق.
وأوضح، أن فناني البورتريه أصبحوا محميين بموجب القانون، الأمر الذي مكنهم من استخدام الشارع كرواق فني بكل أريحية دون أن يتعرضوا لمضايقات أو مخاطر، خصوصا وأن ذهنية المجتمع ونظرته إلى الفن تغيرت كثيرا، وفي هذا السياق أوضح أن «البورتريه» أصبح يُقدم كهدايا أيضا، فقد وصلته طلبيات عديدة لأزواج وإخوة وأصدقاء باتوا يفضلون هذه اللوحات كهدايا برمزية كبيرة وقيمة معنوية عالية.
وأضاف، أن الفنان يستطيع أن يجذب الناس إليه من خلال تقديم صورة مقربة عن الشخص تشبهه بنسبة كبيرة، بالإضافة إلى المتعة التي يشعر بها المعني وهو يرى ملامح وجهه تُرسم أمامه، وتجسد تدريجيا وبشكل مباشر على الورق. واعتبر الفنان التشكيلي صالح لكبير، بأن لوحات المبدعين يجب أن تحمل مواضيع نقية، ورسالة عميقة إلى المجتمع لتصنع تأثيرا إيجابيا، معلقا بأنه يتعين على الفنان أن يبقى قريبا من جمهوره ويشارك في عملية التوعوية لأن المضامين تصل بسهولة من خلال المعارض الفنية.
إ.ك