استكثـر علينا أصدقاؤنا الفرنسيون الانتساب إلى نادي قدماء البشر، وحاولوا حرماننا من متعة العيْشِ مع الديناصورات والزّرافات وغيرها من الكائنات الجميلة التي هجرت هذه الديّار أو غادرت الكوكب نهائياً، لظروفٍ طبيعيّةٍ أو لطموحٍ ذاتيّ يخصّ حيوانات عظيمة لها أسبابها في الهجرةِ و الانقراضِ.
لم يتقبلّ الأصدقاءُ، أن تكون لنا أدواتُ جزارةٍ قبل مليونين و أربعمئة ألف سنة، أي أن نكون أقلّ بدائيّة ممّا جاء في مقولات الغزاة المتأخّرين.
ردّ الفعل الفرنسي من اكتشاف “عين الحنش” بسطيف، الذي جعل من الجزائر وشمال إفريقيا ثاني مهد للبشريّة بعد شرق إفريقيا، في انتظار المزيد من الاكتشافات، أثار غضب العلماء الجزائريين، الذين اشتكوا من سوء تقديرٍ وعراقيل فرنسيّة، ما دفعهم إلى إعلان اكتشافهم عبر مجلّة "ساينس" المرموقة لإسكات المشكّكين الفرنسيين الذين لا تتجاوز قدرتهم على الرؤية ثلاثمئة ألف سنة، وفق وصف باحثٍ جزائري لاختصاصِ كبير المشكّكين.
وبقدر ما تطرح هذه المسألة “معاناة” علماء من الايديولوجيا النيوكولونيالية وتفريطهم في النّزاهة التي تتطلّبها صفتهم، بقدر ما تطرح مسألة التبعيّة عندنا، التي تجعلنا نتوسّل ردّ فعل إيجابي من طرفٍ يرى قيمته في سوء تقدير الآخر، وافتقارنا إلى بيئةٍ علميّة تثمّن إنجازات الباحثين والعلماء الجزائريين وتقلّص مساحات “اللّعب” أمام المشعوذين والجهلة واللّصوص!
و تحتاج هذه البيئة إلى مسارٍ وسياسةٍ تستهدف الوصول إلى مجتمع معرفة يدبّر شؤونه بالعلوم والمعارف، ويحلّ مشكلاته بالوصفة ذاتها، في الاقتصاد والعمران والاجتماع، ولا يُرجع العقبات التي يواجهها إلى القضاء و القدر ولا ينتظر الحلّ من الغيب، لا يهرب من الماء إلى الجبل ولا يستحلب السماء طلباً للغيث.
في بيئة كهذه، لا يتسلّل الجنّ ولا القوى الأجنبيّة ولا الراقي ولا المفتي، ولن تُطرح الحاجة إلى دعوات وكرامات، بل تستقيم الذات بامتلاك أسباب القوّة فلا تخشى قوّةً ولا تستجدي اعترافاً.
من المهمّ جدا أن نكتشف أنّنا من قدماء الأرض، لكن من المهمّ أيضا ألا نكون “قدماء” في عصرنا لا نعرف كم “لبثنا فيها” و نتعاطى “عملةً” تُثير الحيرةِ في أمرنا.
سليم بوفنداسة