سليم بوفنداسة
يُمكّن الأرشيف من إعادة بناء الوقائع التي قد يطمسها النسيانُ، بل ويتيحُ الفرصة لإعادة بناء الأحداث ورسم الوجوه التي تزيّنها أو تشوّهها الروايات.
وتكون أهميته عظيمة في المجتمعات الشفويّة التي تدير شؤونها بالكلام وهي في العموم مجتمعات تنسى بسرعة و تجنح نحو الأسطرة والاختلاق، لذلك تتحوّل تزكيّة الذات وادعاء البطولة إلى تمرينٍ في امتحان الجدارة الذي يشرف عليه ممتحنون لا يستخدمون الذاكرة، وهذه واحدة من أسباب التخلّف الكثيرة، فالنسيان يعيق التقدّم لأنّه يجعل ضحيّته تكرّر أفعالها السابقة.
بنت المجتمعات المتقدمة «التجاوز» على التصحيح والرّدع والعقاب، في مسار الدمقرطة وفي المراحل التي تلت الحروب الأهليّة وسقوط الأنظمة الدكتاتوريّة، وكثيراً ما كان «الخطاب» الذي خدم المرحلة المتجاوزة محلّ مساءلة أو ازدراء جماعي يجعل صاحبه يتوارى ويقدّمه كعبرة للأجيال اللاحقة، وذلك ما يحقّق مبدأ القطيعة على المستوى الرمزي بالنسبة للفاعلين الذين لا تستدعي أفعالهم العقاب الذي تتولاه العدالة.
يختلف الأمر في حالتنا، حيث يغيّر صاحب الخطاب خطابه من مرحلة إلى أخرى مستفيدا من الأمنيزيا الجماعيّة، مما قلّل من فرص بروز نخبٍ جديدة، نخبٌ تقتضي سننُ التطوّر إسهامها، لأنّنا نعيش في عصر آخر له أدواته ولغته، وفوّت على المجموعة الوطنيّة الاستفادة من خدمات كفاءات تتوفر على أفكارٍ ومهاراتٍ وتعوزها «الحيلة» التي تقتضيها الحال!
فثمة خبراء، مثلاً، أيدوا سياسات قادت إلى الكارثة وتجدهم اليوم يقدمون المقترحات للخروج منها. وثمة شعراء كتبوا قصائد عصماء في مدح «العزيز» ويلعنون اليوم عهده. وثمة إعلاميون زيّنوا للرأي العام أفعال المفسدين وحوّلوا رجال أعمالٍ مزيفين إلى نجوم مجتمع ، وساهموا في تكريس عبوديّة الأشخاص وفجأة تحوّلوا إلى ثوار وهاهم اليوم يبشروننا بعهدٍ جديدٍ.
هذه الحالة، غير صحيّة، فالمجتمعات كما الأجساد تحتاج إلى التخلّص من الرواسب، وكلّ تقدّم يحتاج إلى ذاكرة متقدة تمنع إعادة إنتاج أسباب الإخفاق. و التكرار هنا لا يساعد على العلاج بل يطيل عمر المرض.
لكلّ ذلك نحتاج إلى نعمة الأرشيف التي من فضائلها أنها تقول لمدعي خطاب الحقّ إنّك كنت، قبل قليل، على باطل.