أُحيِّيكَ. أُحيِّيك وقد تركتها عالقة في الضوء وغفوت: مدينتك التي كنت تعيد تشكيلها بأصابعك في الهواءِ كي تنفض عنها ما ترهلّ، كي تصقلها قليلاً حتى تصبح صالحةً للعرض. مدينتك التي لم تجد فيها حائطاً تعلّق عليه ما رأيت.
أُحيّيك وأنت تستخرج الوجوه عابسةً من المعدن أو تترك مخلوقات غير مكتملةٍ في جماد الصّلصال بلا روح كي تنجو من الألمِ الظّاهرِ في بدايات الخلقِ.
أُحيِّيك وأنت تهدر الوقت في كلامٍ غير مجدٍ عن أشياء مجديّة. أحيِّيك وأنت تنهبُ اللّيل مشياً من «سان جان» إلى «فيلالي»، ثمّ مهرولاً كي تلحق بالترامواي الأخير حين صار الجسد لا يحتمل الطريق.
أحيّيك وأنت تلوم: كيف تسميني حارس الضّوء وتنساني؟ و أنت تستعرض قصاصات الجرائد لترى صورتك في كلام الآخرين أو للبرهان على جدوى كلامك وقد تحوّل من ألوانٍ إلى حروفٍ.
أُحيّيك و أنت تجتهد لاستعادة أغنيّة قديمة لعبد الوهاب أو تنفخ في «الفحل» من أنفاسك لتهبنا لحناً حزيناً.
أُحيّيك وأنت تنتفضُ كطائرٍ وقد خانك قلبُك للمرّة الأخيرة، قلبك الذي رفض الأطباء إسعافه لأنّهم يخافون من الموت الذي يكمن، هذه الأيام، في التفاصيل الصّغيرة. الموت المتنكّر في هيئةِ تاجٍ ليسخر من البشر المتقاتلين طلباً لزعامةٍ أو مكانةٍ هي رديف رمزيّ للتّاج المفقودِ.
أُحيّيك وقد جاء صوتك في آخر اللّيل من تونس ليعد بذاك «الشيء الكبير» الذي يوشك أن يتحقّق. الشيء الكبير الذي لاحقته لأزيد من ثمانين سنة دون أن تمسك به أو تكفّ عن المطاردة.
أُحيّيك و قد رنّت رسائلك في آخر الليل، أيضاً. رسائلك قصائدك المتوحّشة وبيانك ضدّ اللّيل والنّوم وتحيّتك لكلّ آرق متخبّط في ألوان اليقظة.
أُحيّيك و أنت تستعيد لغة أمّك بلا تحريف يقتضيه الانتساب إلى حاضرةٍ تُطوّع الألسن و تُقولب الأرواح. أُحيّيك إذ نفتتحُ كلامنا ومكالماتنا بكلماتك.
أحيِّيك ونحن نهرب منك لأنّك تطيل الكلام ونحن سجناء الوقت الذي يرشف أعمارنا دون أن ندري كم رشف وكم أبقى، وحين تقبض علينا تقول: «أحكمتكم» وتعد بالذي تعد به دائماً: الشيء الكبير الذي تحضّره لمدينةٍ لم يعد الفنّ بين «الأشياء» التي تتداولها. المدينة التي لم تعد تفهم لغتك. المدينة التي تهرب منك وتسخر منك حين تُطالب بجدارٍ تعلّق عليه «الأشياء» التي لا تفهمها.
أحيِّيك وأنت تستعجل القيّام بالذي لا بدّ من القيّام به وتقول: كم سيبقى «عمّار» معكم ؟
أُحيّيكَ وأنت تقول «أُحيِّيكْ» في أول الكلام وفي آخره.
سليم بوفنداسة