تحجبُ أخبارُ الحرب أخبارَ الحياةِ في ليبيا القريبة منا البعيدة عنا. ليبيا التي تتعرّض لمحاولة تمزيق في استعراضٍ مُخزٍ بين قوى دوليّة و حتى"أشقّاء" يريدون وضع اليد على ثرواتها وفرض الوصايةِ على شعبها المُنهك بسنوات الدكتاتوريّة وسنوات الثورة التي انتهت إلى حربٍ أهليّةٍ. ليبيا التي لا نعرفها جيّدا ليبيا التي تضيع.
فكثيراً ما تمّ اختصار هذا البلد في صورة الزّعيم وفي أدبه أيضاً، وإذا كان إبراهيم الكوني قد فرض اسمه في ريبيرتوار الأدب العالمي فإنّ كتّاب ليبيا في عمومهم تعرّضوا لنوع من الحيف قبل أن تفرض الحرب حيفها على الجميع.
و يقفز إلى الواجهة اسم الروائيّ محمّد الأصفر الذي نحتفي به في هذا العدد من "كراس الثقافة" والذي يكتبُ ليبيا بنهم من منفاه الألماني، يستعيدها بشراً وأثراً ورائحة ويتخيّلها متعافيّة تنعمُ بالديمقراطيّة والرخاء. إنّه يكتب ملحمة ليبيا الحديثة في نصوص روائيّة ازدادت غزارة منذ منحه المنفى الوقت للكتابة التي تحوّلت إلى أسلوب عيش.
يأخذ الأصفر الكتابة ببساطة ويقول لك بعفويّة إنّه يحبّ كتاباته سواء أحبّها الآخرون أو استهجنوها هو الذي اصطدم بالكتابة ولم يخطّط لها حين كان تاجر شنطة يجوب العواصم بحثا عن الحياة وليس عن المال. وتبدو حياته في حدّ ذاتها ملحمة انتقل في فصولها بين ممارسة كرة القدم والتجارة والتدريس، قبل أن يناديه المنفى ويتحوّل الوطن إلى نصّ يصون نخيله و قعموله ويحمي جرابيعه ويرمّم ذاكرته الجمعية المخرّبة.
وبين الفضاء الصحراوي الذي صاغه الكوني وجعله مسرحاً للحياة نفسها والفضاء الذي يقترحه الأصفر، تكتمل صورة عميقة عن ليبيا الإنسان والحضارة، وتتوارى الصورة البائسة التي لطالما روّج لها الإعلام منذ سقوط الملكيّة الدستوريّة وسقوط حلم بناء دولة ديمقراطية، إلى أيامنا هذه حيث تتبارى فضائيات في نقل روايات متضاربة عمّا يدور على الأرض وفي أذهان الطامعين الذين يسفكون دماء اللّيبيين مستغلين جوعهم إلى الحريّة ليسرقوا منهم كرامتهم وحريّتهم.
و هو ما يعني أنّ عبقريّة أبناء هذا البلد جعلتهم يخلّدون ليبيا الحقيقيّة ويحفظونها من التحريف، وهذه الميزة، لحسن الحظّ، لا يملكها الطُّغاة ولا الغُزاة.
سليم بوفنداسة