سليم بوفنداسة
يحتاجُ الأدبُ إلى انصرافٍ عن صخب الحياة، لأنّه حياة أخرى قائمة الأركان ولأنّ عبور الكاتب محدود في سنواتٍ قد تضيع إذا حمّل نفسه فوق طاقة عابرٍ.
لذلك يبدو إسراف الكتّاب في الانشغال بالشأن العام في هذه المنطقة المظلمة من كوكبنا سرقة لوقت الكتابة في جهدٍ غير مثمرٍ، وفق تقديرات أثبتها الواقع خلال مراحل الاستعمار وازدهار الديكتاتوريات وما تلاها من ثورات لم تكن ثورات وانتصارات كاذبة ونهضة تشبه الغيبوبة.
و لا يعني ذلك حرمان الكاتب من إبداء الموقف ولكن دعوة له للإخلاص لفنّه، في وقت ازدهرت فيه العلوم وتعدّدت حقول المعرفة ومات "الموسوعيُّ" وبرز المتخصّصون بخوارزمياتهم البديعة التي تقيس الظواهر بتنميط أرقامها.
أما النضّال السيّاسي فله أدواته التي قد تُفسد الأدب إذا دخلت عليه، ويحمل الكاتب إلى أرضٍ مُلغّمة يخسر فيها الأدب ولا يحقّق المكاسب المرجوّة من النضال.
وحده النصّ يحتفظ بجدواه إذا حمل جينات البقاء وولد دون تشوّهات حتى وإن لم يجد من "يستمع" إليه في زماننا ومكاننا الذي انهار فيه الإنسان و لم يعد تلقي الفنون والآداب من اهتماماته.
الذين انصرفوا، فهموا ذلك باكراً و عاشوا حياتهم الحقيقيّة في جنان العزلة، حيث أبدعوا كمّاً ونوعاً، بعدما ابتعدوا عن الأراضي غير الصالحة للكتابة وتخلّصوا من الإكراه الذي يفرضه الموقع ، أما الذين انخرطوا في غرامشياتهم الكئيبة فقد تحوّلوا إلى أعضاء في جوقة الخراب التي لا يستمع إليها أحدٌ.
لا يحتاج الكاتب إلى الحديث عن أدبه في التلفزيون، ولا إلى أسطرة نفسه ومحاولة الظهور ككائن فريد لأنّ ذلك يثير السخريّة في هذا العصر، ولا يحتاج إلى مهرجانات وندوات. لا يحتاج إلى نشر صوّره على شبكات التواصل على مدار الأيام والليالي طلباً لمحبّة قد تجلبها لغته في ميثاق غير معلنٍ مع محبٍّ حقيقيّ لا يكشف وجهه وفق "بروتوكول صحيّ" لا تشوبه شائبة تكرّس عبر القرون بين منتجي الجمال و متذوّقيه.
لا يحتاج الأدبُ إلى صراخٍ لأنّه لغة صامتة تصلُ إلى المعنيّين بها بلا دعاية أو ادعاء.